مقدمة المؤلف
الحمد لله الذي خصَّ أولياءه بأنواع الكمالات، وقرَّبهم إلى حضرة قدسه بأشرف العبادات، وجعل منهم أئمةً يُقتدى بهم في سائر الأوقات، فانهلّت عليهم سحائبُ الرحمات، وتحلَّتْ جيادهم بجواهر السعادات، فجبروا الكسير، ووصلوا الحيران، وقرَّبوا السالك إلى حضرة الرحمن، وأنقذوا الهالك من مخالب الشيطان، وردُّوا الشارد بعد البعد والهجران، عمَّت أنوارهم، فتعطَّرت بشذا عطرها جميعُ الأكوان، وانتشرَ ذكرهم بين الحاضر والبادي في القرى والبلدان، فالمتوسِّلُ بهم إلى الله لا شكَّ ربحان، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد عين الرحمة والجود، الأول في الإيجاد والوجود، الذي انشقَّت من نوره أنوارُ الشاذلية في سماء الشهود، وأينعت أزهارها فانشرحت الصدور، وتحلَّت الجياد بأسنى العقود، فاقتبسَ من نورها كلُّ من هو من الرِّجال معدود، واكتسبَ من جلال جمالها جميعُ العوالم والوجود، ففاح شذا عطرها بين الكائنات، فإذا هو مسك وعنبر، فالواردون على بحرها مستمدُون من الفيض النبوي بنعت أهل الشهود، فوصلوا واتَّصلوا إذ أووا إلى ركنٍ شديد وحبلٍ متين معقود، فبلغوا غاية المقصود، فهم أهلُ الشهود في دار الخلود، وعلى ينابيع الكرم والجود، وأصحابه ووارثيه وحزبه المحمود، ما أفاضت نسماتُ الصبا فيضًا من سحائب الغيب والجود، على قلوب أهل الحقائق والتمكين والشهود.
أما بعد، فيقول العبد الفقير إلى رحمة ربِّه ذي العطف والجود، الحسنُ ابن الحاج محمد بن قاسم الكوهن الفاسي محتدًا ومسندًا، الشاذلي طريقة ومشربًا، خُويدم نعالات السادة الشاذلية، ومحبُّهم في الله، ومن أجله، غفر الله له ولوالديه ومشايخه وإخوانه، وكافة المسلمين: لمَّا منَّ الله عليَّ بفضله الذي يؤتيه من يشاء من عباده بأخْذي الطريقة الشاذلية، أيَّدَ الله دولتَها العلية، تعلَّقَ قلبي بمحبَّةِ السادات، ومطالعةِ ما لهم من الكرامات، فاستخرتُ الله وتوسَّلت بسيِّدِ السادات، لتأليف هذه الطبقات، الجامعة لتراجمهم ومناقبهم وكراماتهم الزاهرات، وعقدتُ بحول الله النَّية مع ما ليس لي من الخوض حول هذه المهمات، ولكنّي أقولُ ممتثلًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»([1]) وقد لخَّصت فيه طبقات السادة الشاذلية، من الذين يُقتدى بهم في طريق أهل الله، وأَسبلت الدموع من مقلتي، وقرعت باب انكساري وذلَّتي، إذ إن حالتي لا تدعو لمثلي أن يحوم حولَ هذه الديار، ولا ممَّن لهم باعٌ طويل ومقدار، إلا من رحم ربي العزيز الغفار. وسمَّيتُ هذا الكتاب: «جامع الكرامات العلية في طبقات السادات الشاذلية» انتخبتُه، وانتقيته، وجمعته، وألَّفته من كتب عديدة، لأئمَّة كبار ذوي مناقب حميدة، ورتبته على خطبة، ومقدمة، وخاتمة، نسأل الله حسنَها، وثلاثة فصول:
الفصل الأول: فيما يتعلَّقُ بفضائلهم، ومناقبهم، ومحبَّتهم، وتوقيرهم، وزيارة أضرحتهم، والتبرُّكِ بلقائهم، ومصاحبتهم ممَّا دلت به الأحاديث والأخبار.
والفصل الثاني: فيما يتعلَّقُ بتراجمهم ومناقبهم، وهو المقصودُ من الكتاب.
والفصل الثالث: في ذكر مشايخي الذين اجتمعتُ بهم، وحصلتْ لي بركتهم من العقد الثالث من هذا القرن وما يليه.
والخاتمة: في قصيدة التوسلات العلية برجال الطائفة الشاذلية قدَّسَ الله أسرارهم العلية.
وها أنا معترفٌ بأني خالٍ عن أحوالهم وذوقهم، جاهلٌ بعلم تحقيقهم، عاجزٌ عن السلوك في طريقهم؛ لكنني محبٌّ لهم، معتقدٌ بصدق أحوالهم، موقنٌ بكراماتهم، ولمَّا كنتُ محبًّا للأولياء والصالحين، وعاشقًا للصوفية والعارفين، مولعًا بكلامهم ومناقبهم؛ سيَّما أهل الحقائق والتمكين، قلتُ في محاسنهم:
هواتفُ الخير قد جاءتْ تُبشِّرُنا |
* | وصاحَ طيرُ الهنا في مَجمع الأُنسِ |
وساعدتْنا مقاديرُ الإله فقد |
* | جاءتْ مناقبُهم تزكيةَ النَّفس |
ألجأ إليها مُريد الوصل مُطَّلعا |
* | فهي الدُّواءُ لتطيرٍ من الرِّجسِ([2]) |
وأيضًا:
دَعتني دواعي الحبِّ نحو ديارهم |
* | فألَّفْتُ سِفرًا قد حوى لجمالهم([3]) |
به من كراماتِ الكرامِ ومجدِهم |
* | ما يَهتدي السَّاري بنورِ وصالهم |
فجاء هذا الكتاب -بفضله سبحانه- وافيًا بما فيه، قد تناثر الدُّرُّ من كامل معانيه، سطَّرتْه يدُ القدرة الإلهية، والعناية الربانية، والعواطف المحمدية، أسأل الله العظيم بجاه من قال: «توسَّلوا بجاهي، فإنَّ جاهي عند الله عظيم»([4]) أن يجعله لوجهه الكريم، وأن ينفع به إخواني وكافة المسلمين النفعَ العميم، وإنِّي لأرجو ممَّن وقفَ عليه، وحلَّ محلَّ الرِّضا والقبول لديه، ألَّا ينساني من صالح دعواته، وأن يغضَّ النَّظرَ عن عثراته؛ فما لمثلي أن يسلمَ من هفواته، وما توفيقي إلا بالله، وبه أصُول وبه أجول، وقد آن الشروع في المقصود، بعون الملك المعبود، وبعطفة نخبة الوجود، عين الرحمة والجود، صلى الله عليه وآله ما انجلتْ مرآةُ الأنوار في سماء الشُّهود.