الفصل الأول فيما يتعلَّق بفضائلهم ومناقبهم ومحبَّتهم وتوقيرهم وزيارة أضرحتهم والتبرك بلقائهم ممَّا دلَّت به الأحاديث والأخبار
اعلم أيها الأخ الصالح -وفَّقني الله وإيَّاك إلى طاعته- أن الطريقة الشاذلية لما ظهرت أنوارها، وأزهرت أثمارها، وتناولتها الأحباب، وسعت إليها الأقطابُ والأنجاب، وذلك على يَدِ أصلِ مَدَدها، وعنصر مشربها، وقطب أقطاب دائرتها؛ السيد الجليل، القطب الرباني، والهيكل الفرد الصمداني، كنز كنوز المعارف، ومنبع شموس الأنوار واللطائف، إمامنا وسيدنا ومولانا أبي الحسن الشاذلي قدَّس سره العزيز، جالتْ قلوبُ أهل العرفان، وأفاضَ عليهم الكريم الحنَّان، بعلوم لم تكن في الحسبان، فشاهدوا التجلّيات الرَّبانية، والنفحات الأقدسية، فأظهروا ما عندهم من المواهب اللدنية، والأسرار المحمدية، فأفردوا لذلك التآليف العديدة، والرَّسائل الوحيدة في فضائل أقطابها منها:
«لطائف المنن» لتاج الدين ابن عطاء الله السكندري قدس سره([1]).
و«درَّةُ الأسرار وتحفة الأبرار» لابن الصباغ قدس سره([2]).
و«المفاخر العلية» لابن عياد قدس سرُّه.
و«الأنوار القدسية» لسيدي محمد ظافر المدني دفين الآستانة([3]).
وغير ذلك من التآليف التي لا تدخل تحت حصرٍ، وقد وقفتُ على رسالة عجيبة لأستاذنا العارف بالله أنسي وإيناسي سيدي محمد بن مسعود الفاسي قدس سرّه العالي سماها «الفتوحات الربانية في تفضيل الطريقة الشاذلية» ذكر فيها ما به تقرُّ العيون، والحمد والمنة لله. وها أنا أذكر لك ملخَّص ما ذكره قال رضى الله عنه:
أهل هذه الطريقة أنوارُهم ظاهرة، وأسرارهم باهرة، في مشارق الأرض ومغاربها، لا تقلُّ شموسهم من السحاب ضياء، وأقمارهم سماء، قلوبُهم لا تزال ممطرة على أرض المريدين، ونجومهم بها يهتدي السالكون والمجذبون، علومُهم ربانية، وأسرارهم جبروتية، ومعارفهم غيبية، أجلسهم الحقُّ على كراسي أطباق أهل معرفته، فقال لهم: إن أتاكم عليلٌ من فقْدي فداووه، أو من فَرَقي فعالجوه، أو ليس منّي فخذوه، أو جبانٌ في متاجرتي فشجعوه، أو داخلٌ نحوي فشجعوه، أو شاردٌ عني فردُّوه، أو متباعدٌ من حضرتي فقرِّبوه وأدنوه، أو غريقٌ في بحار الشهوات فخذوا بيده وأنجدوه، أو منسدلُ الحجاب على قلبه فارفعوه. وقد أطال في هذا المعنى رضى الله عنه.
وفي «الأنوار القدسية» ما نصه: اعلم يا أخي أن طريق القوم -رضوان الله عليهم أجمعين- ينالها كلُّ صادقٍ بعبوديته لسيده اعترف، فلا زالوا بصدقهم سالكين، وبشريعة سيد الكونين متمسكين، قائمين بالأذكار والأوراد، آخذين بكمال الاستعداد، سالكين في الطريق بكمال التوفيق، ولذلك اجتهد كلٌّ فيما رآه، فاختلفوا في الأذكار كاختلاف أهل المذاهب أهل الاجتهاد:
وكلُّهم من رسولِ الله ملتمس |
* |
غرفًا من البحر أو رشفًا من الدِّيم([4]) |
فالحاصلُ يا أخي أن ذكرهم ملأ البقاع، وأنى لي بحصر مناقبهم ومآثرهم؛
فهم كواكب نورانية، ونفحاتٌ محمدية، غير أني تطفَّلتُ على أبوابهم، ومن شأن أهل الكرم ألَّا يطردوا من طرقَ بابهم كرمًا منهم، وما ذكرتُ إلا نبذةً يسيرة من بعض أوصاف كمالهم، كي ينتفعَ بها السالك والمريد، للتحقُّقِ بأوصافهم، والتشبُّه بأخلاقهم:
فتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلَهم |
* | إنَّ التشبُّهَ بالكرامِ رباح |
وأمَّا إظهار فضائلهم ومناقبهم ومزاياهم فقد تقرَّرَ عند الأكابر، أن إظهار فضل الأولياء لينتفع بها الوجود هي من محبتهم، و« الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ»([5])، ومحبَّتُهم وتوقيرُهم من محبَّةِ الله والرسول، ومحبوب المحبوبِ محبوبٌ، ولله درُّ القائل:
اسردْ حديثَ الصالحين وذكرهم |
* | فبذكرهم تتنزل الرحمات |
وقول الآخر:
حكاياتهم يُحيي القلوبَ سماعُها |
* | ويَروي ظما الصَّادي بعذبِ شرابِ([6]) |
اصطفاهم من حضرته الأقدسية، وصفَّاهم من كادورات الصفاتِ الناسوتية، فتحقَّقوا بحقائق المقامات اللاهوتية فهم:
ملوكُ البرايا ليس يشقَى جليسُهم |
* | |
حُبُوا وحُظوا خصُّوا اصطفوا ثم قُرِّبوا قربوا |
* | وولُّوا وعُلُّوا فوقَ كلِّ الطوائف |
نوّر قلوبَهم بالإيمان، وزيَّنها بالإحسان، وتوَّجَهم بتاج العرفان، وسقاهم بكئوس الوداد، مدامةً من بحر عذب فساد منهم من ساد، وعلا نورُهم فتحلَّتْ منهم الجياد، وسكروا براحِ الهوى فاستمدت منهم الأرواح والأشباح بالأمداد، فيا سعادة من في حماهم أَمَّ ولازم الأعتاب، ويا فوز من صاحبهم إلى ربِّه وأناب، ولنا في هذا المعنى:
استصحب القومَ واشربْ من طريقهمو |
* |
وسلسل الدَّمعَ كي تبلغ وصالهمو
|
واعلمْ بأنَّ الذي قد رام ودَّهمو |
* | بالعزِّ أضحى عزيزًا من كمالهمو |
فكم فتى هامَ عشقًا في محبَّتهم |
* | وكم قتيل أتى يرجو ودادهمو |
أنا القتيلُ غرامًا في محبَّتهم |
* | ولا أُريدُ سوى بالقلب ذكرهمو |
وحقِّ أوصافِ حُسنٍ فيهم |
* | إنْ يقبلوني فيا عزِّي بقبرهمو |
تجلّى لهم المحبوب، فشاهدوا عجائب الغيوب، فهم ملوك، تصرَّفوا بأمر مالك الملوك، فرقُوا إلى أعلى درجات السلوك، فسبحان من أنعم عليهم بفضله، ومنَّ عليهم من فيض امتنانه وجوده وكرمه، وذكرهم في الملأ الأعلى بين ملائكته وأوليائه وأحبائه وأهل ودِّه، وقد قالَ في حقِّهم عزَّ من قائل على لسان رسوله وحبيبه سيد الأواخر والأوائل:
﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ﴾ [النور: 37].
﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ﴾ [الأحزاب: 23].
﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: 54].
﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ﴾ [البقرة: 165].
﴿الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ [فصلت: 30].
﴿يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ [البقرة: 273].
﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران: 113، 114].
﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ [يونس: 62-64].
فهذه آياتٌ من كلام ربِّ العالمين.
وأمَّا الأحاديث، الواردة عن سيِّد المرسلين فكثيرةٌ، منها قوله عليه الصلاة والسلام: « رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره»([9]).
وقوله عليه الصلاة والسلام: «يقول الله عز وجل المتحابون في جلاله لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء»([10]).
وقوله عليه الصلاة والسلام: «إنَّ لله خواصَّ، يسكنهم الرفيع من الجنان كانوا أعقل الناس». قلنا: يا رسول الله، فكيف كانوا أعقل الناس؟ قال: «كان همَّتُهم المسابقةَ إلى ربِّهم عزّ وجلّ، والمسارعةَ إلى ما يُرضيه، وزهدوا في الدنيا، وفي فضولها، وفي رياستها وقيمتها؛ فهانت عليهم، فصبروا قليلًا واستراحوا طويلًا»([11]).
وقوله عليه الصلاة والسلام: «أكثروا من معرفة الفقراء، واتَّخذوا عندهم الأيادي، فإنَّ لهم دولة». قالوا: يا رسول الله، وما دولتهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة قيل لهم: انظروا إلى من أَطعمكم كسرةً، أو كساكم ثوبًا، أو سقاكم شربةً من الدنيا، فخذوا بيده، ثم أفيضوا به إلى الجنة»([12]).
وقوله عليه الصلاة والسلام: «لكلِّ شيء مفتاح، ومفتاحُ الجنَّة حبُّ المساكين، والفقراء والصادقين، والصابرين. هم جلساء الله يوم القيامة»([13]).
وقوله عليه الصلاة والسلام: «اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين»([14]).
قلت: وناهيك بهذا الشرف للمساكين، ولو قال صلى الله عليه وسلم: واحشر المساكين في زمرتي. لكفاهم شرفًا، فكيف وقد قال صلى الله عليه وسلم: «واحشرني في زمرة المساكين».
والأحاديث الواردة في حقهم كثيرة اقتصرنا على ما ذكرنا منها.
وأما قول المشايخ العارفين: ونعني بهم السادة الصوفية، فقد امتلأت بجواهر معانيه الصحائفُ العديدة:
قال الشيخ العارف بالله تعالى أبو الفوارس شاه بن شجاع الكرماني قدس سره: ما تعبَّدَ مُتَعبِّدٌ بأكثر من التحبُّب إلى أولياء الله تعالى.
وقال الأستاذ سيِّدُ الطائفتين أبو القاسم الجُنَيد قدس سره([15]): التصديق بعلمنا هذا ولاية. يعني الولاية الصغرى دون الكبرى.
وقال بعض العارفين: إذا أحبَّ اللهُ عبدًا حبَّبَ إليه زيارة أوليائه وأحبائه.
وقال سيدي أبو الحسن الشَّاذلي قدس سره: أولياء الله عرائسُ، ولا يَرى العرائسَ المجرمون.
وقال سيدي الشيخ مكين الدين الأسمر قدس سره كلامًا هذا نصه: كما أنَّ للدنيا أبناءً من استندَ إليهم كفاه، كذلك للآخرة أولياء من أحبَّهم واستند إليهم أغناه، ولا تَقلْ: طلبتهم فلم أجدهم، فلو طلبتهم بصدقِ نيةٍ لوجدتهم.
وقال الشيخ سيدي تاج الدين بن عطاء الله السكندري قدس سره: إيَّاك يا مسكين أن تقول: إنَّ أولياء الله لم يوجدوا، فتُحجب عن رؤيتهم، وتفوتك صحبتهم ومحبتهم.
وقال الشاذلي قدس سره: أُحذِّرُكم من هذا الباب -يعني باب الإنكار
على أهل حضرة الله- فقد أُخذ منه خلقٌ كثيرٌ من الزُّهاد والعباد، فحسِّن يا مسكين ظنَّك بالله، وبعباد الله، وأكثرْ من محبَّة أوليائه تكن منهم، وتحشر معهم لقوله عليه السلام: «من أحب قومًا حشر معهم»([16]).
وقال سيدي أبو المواهب التونسي قدس سره: لا تظنَّ أنَّ نورَ الله يُطفأ من هذه الأمة؛ لأن نورها فيَّاض، ومددها قوي، ألم تسمع قوله عليه السلام: «أمتي كالمطر لا يُدرى أوّلُها خيرٌ أم آخرها»([17]).
وقال الإمام أبو محمد اليافعي رحمه الله: عليك بالاعتقاد في أهل عصرك من الأولياء والعلماء، وإلا تُحرم من الإمداد، ولم تنتفع بأحدٍ منهم.
وقال الشيخ سيدي أبي العباس المرسي رضى الله عنه: معرفة الولي أصعبُ من معرفة الله؛ فإن الله معروفٌ بكماله وجلاله، فإذا أرادَ الله أن يُعرِّفَكَ بوليٍّ من أوليائه طوى عنك شهودَ بشريته، وأشهدَكَ وجودَ خصوصيته. وفي هذا إشارة إلى قوله تعالى: «أوليائي تحت فنائي، لا يعرفهم أحد غيري». وهذا من غيرِة الحقِّ سبحانه على أهل حضرته، فلا يظهرهم إلا لمن كشفَ عن قلبه الحجاب.
وقال العارف بالله شيخُ شيوخنا سيدي أبو بكر البناني رضى الله عنه في «الفتوحات القدسية» ما نصه: اعلم أن نظر العلماء الراسخين، والرجال البالغين ترياقٌ([18]) نافع، ينظرُ أحدُهم إلى الرجل الصادق فيستنشق بنفوذ بصيرته حسن استعداده، واستئهاله مواهبَ الله تعالى الخاصة، فيقع في قلبه محبَّةُ المُريد الصادق، وينظر إليه نظرةَ محبَّة عن بصيرة، وهم من جنود الله تعالى، فيكسبون بنظرهم أحوالًا سنيةً، ويهبون آثارًا مرضية.
وقال الشاذلي رضى الله عنه: إني لأوصل الرجل من نفس واحد.
وقال المرسي رضى الله عنه: والله ما بيني وبين الرجل إلا أن أنظر إليه نظرة وقد أغنيته. يراد به الغنى المعنوي، فهو الغني الدائم.
فالحاصل يا أخي: عليك بتوقير أهل الله لله في الله، ولا تقع فيهم، فتهلك، نعوذ بالله.
ولقد وقعت لي حكاية أسوقها إليك لتعلم أن نظرهم إكسير([19]) أسرع من الكبريت الأحمر([20]) الذي يعكس النحاس ذهبًا: لما أذنت العناية الربانية باجتماعي بشيخنا الشيخ نسيم الدرمللي قدّس سره، وكان اجتماعي به على غير موعدٍ، وبدون سابق معرفة، فتأهَّلْتُ لمقابلته لما سبق في علم الله الأزلي، فأمدَّني بنظراته، ولقد كانت لها تأثيرٌ عجيب، فهم أهلُ البصائر، وكان ما حصل بعدها وما أنا أحمد الله تعالى عليه الآن. فقد أدركنا بفضله سبحانه بهذه النظرة ما لم نُدركه من قبل حسًّا ومعنى، ولله الحمد والمنَّة.
اعلم يا أخي بقدر تفانيك في محبَّة شيخك تكون عنده، ولقد كنتُ بعد دخولي طريق القوم، وقبل اجتماعي بموصلنا بسلسلة الأنوار سيِّدي ومولاي السيد مُحمد العقاد الحسني رضى الله عنه أطلب من الله ليلًا ونهارًا أن يمنَّ عليَّ بلقائه، والجلوس بين يديه، وذلك لكثرة تعلقي بمحبَّته، حتى إنك كنت تراني عند ذكره تأخذني العبراتُ فكان من ذلك أنني عند اجتماعي به لاقاني بما بهر عقلي، وضمني إلى صدره الشريف، وعانقني وقبَّلني، فكان يُخيل للناظر إلينا أنني فارقته من أمد بعيد، والحالُ غير ذلك، إنَّما المحبَّةُ الصادقة هي الموردة لذلك.
ولقد سألته رضى الله عنه في رؤيا مناميَّة: يا سيدي، أُحبُّ أن يكون الفقيرُ في خاطركم، فأجابني رضى الله عنه: لا تقل يكون الفقير في خاطري، بل يكون الشيخ في خاطركم.
فالحاصل يا أخي أن هؤلاء القوم علومهم سماوية، متمسكين بالكتاب والسنَّة المحمدية، قال القطب الشعراني رضى الله عنه في «الطبقات الكبرى»: اعلم أن طريق القوم مشيَّدة بالكتاب والسنة، وأنها مبنيةٌ على سلوك أخلاق الأنبياء والأصفياء، فالتردد إليهم، ومصاحبتهم وتوقيرهم ولاية. وفي الحديث: «النظر إلى الولي عبادة».
وقال شيخ شيوخنا سيدي الأستاذ علي العمراني الحسني رضى الله عنه في كتابه: سبحان مَنْ هيَّأ أقوامًا لخدمته، وأقامهم فيها، وهيَّأ أقوامًا لمحبته، وأقامهم فيها، أهلُ الخدمة تجلّى لهم الحقُّ بصفة الجلال والهيبة، فصاروا مستوحشين من الخلق، قلوبُهم شاخصةً لما يرد عليها من حضرة الحقِّ، قد نحلت أجسادهم، واصفرّت ألوانهم، وخمصت بطونُهم، وبالشوق ذابت أكبادُهم، وقطعوا الدياجي([21]) بالبكاء والنحيب، واستبدلوا الدنيا بالمجاهدة في الدين، ورغبوا في جنّة عرضها السماوات والأرض أعدَّت للمتَّقين، وأهلُ المحبة تجلَّى لهم الحقُّ بصفة الجمال والمحبة، وسكروا بخمر لذيذ القربة، شغلهم المعبود عن أن يكونوا من العباد ولا من الزهاد، اشتغلوا بالظاهر والباطن، وهو الله، فحجبوا عن كل ظاهر وباطن، زهدوا في التنعُّم والأنعام، واشتغلوا بمشاهدة الملك العلام، وقد قيل في حقِّهم:
وما قصودُهم جناتِ عدنٍ |
* | ولا الحورَ الحسان ولا الخياما |
سوى نظرِ الجليل فذا مُناهم |
* | وهذا مقصدُ السادة الكراما |
قال العارف الكبير شيخنا الشيخ سيدي أبو المواهب فتح الله البناني الرباطي قدس سره:
لله قومٌ سما بالفضلِ طبعُهُمْ |
* | فخولوا بلطيف الصُّنع إحسانا |
قومٌ مكارمهم تغض العيون حيا |
* | ويُمنحون لذيذَ الأُنس أحيانا |
ما شمتُهُم زمنًا إلا اهتديتُ بهم |
* | ترى الفؤاد غدًا بالرُّوح ولهانا |
ما عوَّدوني سوى الإحسان مكرمة |
* | يا حُسنَ ما صنعوا والله أزمانا |
وقال أيضًا رضى الله عنه: من زار وليًّا من أولياء الله تعالى حيًّا كان أو ميتًا، فإنَّ الترابَ الذي يمشي عليه في طريقِ ذهابه لزيارة ذلك الولي يَنقله اللهُ تعالى إلى بلاد الكفار، فكلُّ من مشى عليه من الكفار أَلقى الله في قلبه الهداية، وأَلهمَهُ كلمةَ التوحيد، فينعكس من الظُّلمة إلى النور، ويكتبُ ثوابُ ذلك إلى الزائر. أو كلام هذا معناه، فانظر يا أخي إلى هذه الكرامة العظيمة، والله يهدي بفضله من يشاء.
فالحاصلُ يا إخواني أنهم رجالٌ وأيُّ رجال! رجال لا تؤويهم دار، ولا يستقرُّ بهم قرار:
رجالٌ أخلصوا لله حقًّا |
* | فنالوا العزَّ مع كلّ الكمالِ |
كساهم ربُّهم ثوب افتخار |
* | وتوَّجَهُم فصاروا كاللآلي |
لهم نورٌ عظيمٌ لو تراهم |
* | فحازوا الفضلَ مع حُسنِ الخصالِ |
سقاهم شربةً من كأسِ أُنسٍ |
* | فباعوا بالمحبَّة كلَّ غالي |
وقد مُنعوا الرُّقادَ ولم يناموا |
* | فخَصَّهُمُ المهيمنُ بالوصالِ |
وصلوا فاتَّصلوا، طهَّروا الأخلاق، ورضوا منه بيسير الأرزاق، وهاموا من محبَّته في الآفاق، واتَّزروا بالصدق وارتدوا بالإشفاق، فمنهم من هام على وجهه في البراري والقفار([22])، ولم يَرضوا إلا بصحبة الواحد القهار، ومنهم من استوطنوا الديار، وتسببوا في سائر الأقطار، ولم يغفلوا عن مناجاة ربهم بالأسحار، وانتصبوا للإرشاد والتسليك مع الذكر والأذكار، فتجلَّى عليهم بالقرب وأباح لهم دار القرار؛ إذ علمَ بسابق علمه بيعَهم العَجل الفاني بالأَجلِ الباقي، ركبوا في ميدان السباق، وشمَّروا تشمير الجَهابذة الحذّاق([23])، حتى اتصلوا بالواحد الرزَّاق، فشرَّدهم في الشواهق، وغيَّبهم عن الخلائق، فالنظرُ إليهم اعتبار، ومحبَّتهُم وصحبتهم افتخار، فهم صفوة أبرار، مدحهم الجبّار ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾
[الذاريات: 17، 18] ووصفهم النبيُّ المختار: «إن حضروا لم يعرفوا، وإن غابوا لم يفتقدوا»([24]). وإن ماتوا لم يشهدوا، فهم أهلُ السبق للسبق، وخيرةُ الله من الخلق، حجبهم الحق عن الخلق، لتعظّمَ يا فقير جميعَ الخلق؛ إذ مَنْ عظَّم الخلقَ لأجل الخالق قذفَ الله محبَّتَه في قلوب الخلائق، وقطعَ عنه العلائقَ([25])، فتتقوّى بشرّيتُهُ وروحانيته، فيشاهدُهم بعين قلبه ورأسه مشاهدةَ أهل الشهود والعيان، فالأولياءُ عرائسُ، ولا يرى العرائسَ المجرمون.
اللهم، إنَّا نتوسل إليك بحبِّهم؛ فإنهم أحبّوك، وما أحبُّوك حتى أحببتَهم، فبحبِّك إيّاهم وصلوا إلى حبِّك، ونحن لم نصل إلى حبِّهم بحبِّك إلا بحظِّنا منك، فتمم لنا ذلك مع العافية الكاملة الشاملة، حتى نلقاك يا أرحمَ الراحمين، وصلَّى الله على سيدنا محمدٍ الذي أيّدته بالمعجزات الباهرة، والكرامات الفاخرة، فسطعت شموسُ أنواره في قلوب أمته، فنالوا سعادَتَي الدنيا والآخرة، وعلى آله وأصحابه الذين أوضحوا طريق الهدى للسالكين، ورضي الله عن تابعيهم ومتابعيهم الأتقياء الصالحين، الذي سلكوا عن نهجهم ودلُّونا على طريق الوصول إلى مالك الممالك، وعن إخواننا الذين واصلوا الجهاد فسلكوا أحسنَ المسالك، وعن المسلمين ما تَحرَّكت قلوبُ الشائقين بالمناجاة في ظلامِ الليل الحالك، واسلك بنا يا ربَّنا ببركاتهم أحسنَ المسالك، ونجِّنا بأسرارهم من الفتن المهالك، آمين آمين آمين.
([2]) أبو نصر عبد السيد بن محمد البغدادي، المعروف بابن الصباغ، تفقه على القاضي أبي الطيب. ولد سنة أربعمئة وتوفي سنة 477هـ [«سير أعلام النبلاء» (18/465)، «طبقات الفقهاء» (1/237)].
([3]) محمد ظافر بن محمد حسن بن حمزة ظافر الطرابلسي المغربي المدني. متصوف من فقهاء المالكية. ولد في مسراته سنة 1244هـ، واستقر شيخًا لزاوية الشاذلية بالآستانة، وتوفي بها سنة 1321هـ. [«الأعلام» (7/76)].
([14]) صحيح: أخرجه الترمذي (2352)، وابن ماجه (4126)، وصححه الألباني في صحيح «الترغيب والترهيب» رقم (3193).
([15]) الجنيد بن محمد بن الجنيد البغدادي الخزاز، أبو القاسم. مولده في بغداد ووفاته بها سنة 297هـ، وعرف الجنيد بالخزاز لأنه كان يعمل الخز، وهو أول من تكلم في علم التوحيد والألوهية، والغناء، ومسائل أخرى. [«الأعلام» (2/141)، «صفة الصفوة» (2/235)].
([20]) الكبريت الأحمر: عنصر فلا فلزِّي ذو شكلين بلُّورِيَّيْن وثالث غير بلوري، نشيط كيميائيًّا، وينتشر في الطبيعة، شديد الاشتعال.
([23]) الجهابذة: جمع جهبذ: النَّقَّادُ الخبير بغوامض الأمور. الحذاق: جمع حذق: أوغل العمل في ممارسته حتى مهر فيه فهو حاذق.