[30] سيدي تاج الدين النخال (...- 824)
[30]
سيدي تاج الدين النخال([1])
(...- 824)
الشيخ الكبير، والعالم الشهير، صاحبُ الكرامات الخارقة، والفضائل الدافقة، القطبُ الغوث الفرد الجامع سيدي تاج الدين بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الرحمن ابن عبد الله بن أحمد بن عيسى بن الحسين بن عطاء الله الجذامي الإسكندري الشاذلي قدّس سرّه العزيز.
قال رضي الله عنه وأرضاه: لما تُوفّي والدنا سيدي محمد بن عطاء الله السكندري خلَّفنا اثنين؛ أنا، وأخي سيدي أحمد تاج الدين، فتوجَّه أخي بعد وفاة والدنا إلى مصر، وتخلَّفتُ أنا ووالدتي في أرض الإسكندرية حيث مقرُّ ولادتنا، وكنت صغيرًا على يديها، وأخي كان كبيرًا يُفتي ويدرّس، فلما كبرت، وبلغت من العمر عشرين سنة بإسكندرية حفظتُ كتاب الله، وقرأت في العلم، ثم توجَّهتُ إلى مصر أنا ووالدتي، فسألت عن زاوية أخي، فقالوا بجوار ساداتنا بني الوفا، ولقد كان الذي أخبرني بذلك من الأولياء، ومن أهل الكشف، وقد كان كشف له بأن هذه البقعة سيكون فيها زاوية بني الوفا، فعرفتها أنا بطريق الكشف فتوجَّهت إليه أنا والوالدة، واجتمعنا به، ومكثنا عنده، فعاشت الوالدةُ بعد اجتماعنا خمس سنين، وتوفيت عام سبع مئة وأربع، ودفنت بالقَرَافة، مما يلي سفح الجبل المقطم رحمها الله، وتوفي أخي بعدها بنحو خمس سنين، وكان له يومٌ عظيم، فتوجَّهتُ بعد وفاته إلى الجامع الأزهر، واشتغلتُ بطلب العلم مدة خمس عشرة سنة، ثم سافرت إلى بلدة تسمى باه والنويرة، فأقمت بها عشر سنوات، وحضرت إلى مصر، وأقمت بجامع عمرو أَعظُ الناس مدَّة ستين سنة حتى أتاني اليقين وهو الموت.
وكان رضى الله عنه يلقي الدروسَ تحت محراب النمل، وهو المحراب الخشب، وكان ينصبُ كرسيه تحت اللوح الأخضر بصحن جامع عمرو.
وكانت العلماء إذا عجزوا عن الفتوى يُفتي فيها للناس فحصل للناس بركةٌ عظيمة بوجوده، واتّخذوه إمامَ الجامع وخطيبه، وبنى الزاوية التي بشرقي الجامع، وهي التي دُفن فيها التي تحت مئذنة التجلي. قال بعض الأولياء: وسببُ تسمية المئذنة بهذا الاسم أن الحقَّ جلّ جلاله تجلّى عليها، وذكر الشيخ رضى الله عنه أن وليًّا من أولياء الله طلع عليها ذات ليلةٍ في ثُلث الليل الأخير، وقال بلسان صادق: لا إله إلا الله. فقال له الحقُّ: صدقتَ يا عبدي، إنّي أنا الله. فوقعت المنارةُ بالمؤذن، ومات تحتها.
وليس بعد مصر والقَرَافتين أفضلُ من بقعة الشيخ تاج الدين النخال رضى الله عنه، وناهيك بها من بقعةٍ تجلّى فيها الحقُّ جلَّ وعلا على عبدٍ من عباده.
وكان لسيدي الأستاذ تاج الدين رضى الله عنه في هذه الزاوية من المُريدين المتجرّدين نحو مئة فقير، ومن الأرامل نحو ست مئة، وتولى رضى الله عنه القطبية الغوثية التي لا يُشاركه فيها أحد، وتصرَّف في مخلوقات الله بأمر الله، فقضى وعزل، وولّى ونصب وحكم.
توفي رحمه الله تعالى عام سنة 824، ودفن بزاويته بجوار جامع عمرو من الجهة الشرقية، ولما حضرته الوفاة رحمه الله طلب ابنته عائشة، وكان عمرها ستَّ سنين، ولم يتركُ غيرَها، فلمّا حضرت بين يديه، قال لها: يا عائشة، إن أخي الأكبر سيدي تاج الدين أحمد لما حضرته الوفاة استدعاني إليه، وقال لي: افتح فمك يا تاج الدين يا أخي. ففتحت، فتفل لي فيه، فأعطاني الله تعالى خير الدنيا وخير الآخرة، وأنت يا عائشة، افتحي فمك. ففتحت فمها، فتفلَ لها فيه، وقال لها: هذه التفلة ما هي لك، هي ذخيرةٌ عندك لبنتٍ تخرج منك، وتُسمّى سعادات، وهي سعادتُكم وسعادتُنا في الدنيا والآخرة، وإنّي أُبشّرك يا عائشة بأنها تأتي، ويأتي معها ولدان ذكران صالحان، واحد منهما يسمى محمدًا، والآخر إبراهيم، ليتني يا عائشة أعيشُ حتى أرى سعادات وأولادها؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما إذا بلغ من العمر أربعين سنةً تصيرُ أقلُّ خطواتهم من مشرق الدنيا إلى مغربها، وكان هذا آخرُ ما تكلم به، ولاقى ربه تعالى.
ومن كراماته رحمه الله قال: مكثت أعظ الناس في الجامع العتيق ستين سنة، فخرجت ذات يوم إلى البرية، كنت لابسًا عريًّا جديدًا، فلقاني رجلٌ، فحدّثته نفسه بأن يضربني، وقال في نفسه: لأضربنَّ هذا الشيخ، وآخذ عريه، فتقدم إليَّ، ورفع العصا، فوضعت يدي على ظهره، قال الرجل: فلما وضع يده على ظهري أحسست أنها جبل المقطم، ونظرت فإذا أنا في برية واسعة، وليس معي أحد، لا من الإنس ولا من الجن، فأيقنت بالهلاك، وعلمت أني وقعت في حق الشيخ، فتمشيت قليلًا، فرأيت على بعد خصًّا، فقصدته فإذا به رجل قائم يصلي، فانتظرت عليه حتى فرغ من الصلاة، وقصَّيتُ عليه ما وقع لي مع الأستاذ تاج الدين النخال، فقال لي: وما الذي أقدمك على ذلك، أما تعلم أن هذا هو القطبُ الغوث، وأنك الآن خلف جبل قاف، وبينك وبين أهلك مسيرة آلاف من السنين؟ فقلت له: دلني على شيء أنجو به وأعاهدك الله أني تبت، فقال: انظر إلى هذه القبة، واذهب إليها، تجده قائمًا يُصلي صلاة الظهر هو وجماعته، فإذا وصلتَ إليه، فانتظره حتى يسلم، وتعلق بأذياله، وأكثر من البكاء، وتذلل بين يديه، فإنه لو أمسى عليك المساء وأنت في هذا الوادي هلكت لا محالة. قال: فذهبت إلى القبة، فوجدته كما قال، فلم أتمكن من التقدم إليه لشدة خوفي، فانتظرته إلى صلاة العصر، وبعد أن سلم، تعلقت به، وأكثرت من البكاء، وقلت له: يا سيدي، العفو العفو. فنظر إليَّ، وقلع ما كان عليه من الثياب، وألبسني إياها، ووضع يده على ظهري، فأحسست بثقلها، فنظرت نفسي فإذا أنا عند أهلي، وتبت من ذلك الحين، وصرت من أصحابه، ولم أنقطع عن زيارته.
ومنها رضى الله عنه: أنَّ السلطان أرسل إليه وقال له: أنا ضيفك هذه الليلة، فدخل إلى امرأته، وكانت اسمها نابغة، فقال لها: يا نابغة، إن السلطان ضيفي هذه الليلة، فقالت له: يا سيدي الحال فقير، وما عندنا شيء، فقال لها: انظري تحت هذه المخدة، فنظرت فإذا هي بنهر يجري ذهبًا. فقالت له: ما لنا بالذهب؟ فقال لها: هاتي الحلة التي عندك، وضعي فيها قليلًا من الماء والنخالة، ففعلت، فوضعها على النار، وصار يغليها حتى حضر السلطان وأتباعه، فغرفَ منها أربعين طبقًا، كل طبق لون، واستحسن السلطان وأتباعه لذة هذا الأكل، فسألوه عنه، فقال رضى الله عنه: إنها ماء ونخالة.
ومنها رضى الله عنه: أنه كان له خادمٌ يُسمى الشيخ محمد، وذلك بعد وفاته، وكان عليه جبَّةٌ جديدًا، فقلعها، وخرج يكنس أمام الزاوية، ووضع الجبة على التابوت، فعبرَ رجل من قدَّام الزاوية، فرأى الجبة على التابوت، فدخل وسرقها وخرج، فدخل الشيخ محمد، فلم يجد الجبة على التابوت، فعلم أنها سُرقت، فجاء إلى الضريح، وصار يدقه، فرأى السارق في تلك الليلة الشيخ أتاه وضربه بحربة حتى أنزل الدم من فيه ومنخره، فلما أصبح جاب الجبة إلى الشيخ محمد، وحكى له عما وقع له من الشيخ، وطلب العفو منه.
ومنها رضى الله عنه: أنه دخل عليه ولده سيدنا محمد الخلوةَ التي كان يتعبد فيها. وكان الشيخ رضى الله عنه إذا دخل الخلوة وذكر الله سبحانه وتعالى يتجلّى عليه الحق، فيذوب كما يذوب الملحُ في الماء، ويفنى حتى لم يبق منه إلا النطفة، فلما دخل عليه ولده، وهو جالس في المحراب حط يده على رأس أبيه، فسقطت العمامة على الثياب، فنزلت في أعين الأستاذ، فعورتهم، فلما أفاق الأستاذ من غيبته، قام كفيفًا، لم يجد عينيه، فخرج على أهله، وقال لهم: من دخل عليَّ في خلوتي؟ فسكتوا، فقال رضى الله عنه: الذي دخل عليَّ في خلوتي قصمه الله تعالى، فإذا بالولد صرخَ صرخةً ووقع ميتًا، فقالوا له بعد ذلك: هذا ولدك الذي دخل عليك. فقال: نفذ أمرُ الله، وغسله وكفنه ودفنه رحمه الله، وعاش الأستاذ بعد ذلك كفيفًا.
وكراماته رضى الله عنه كثيرةٌ مشهورة، وقد أفرد لها سيدنا أبو الفضل ابن وفا كتابًا مستقلًا، وقد وقفتُ على هذا الكتاب بخطِّ يده الشريفة، ومنه نقلتُ.
وقد ذكر في هذا الكتاب صفته رضى الله عنه فقال: كان الأستاذ تاج الدين النخال لا بالطويل ولا بالقصير، واسع العينين، عريض المنكبين، لين الكتفين، قمحي اللون.
وكان يقول رضى الله عنه: إني لأعلم أزقة السموات السبع أكثر من أزقة الأرضين، وما تركت فيهن بقعة إلا ولي فيها ركعة.
وكان رضى الله عنه يقول: من جاء إليَّ عامدًا متعمدًا لا ينوي في نهاره إلا زيارتي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقد سألت ربي في ذلك، فأجابني إلى ذلك.
وكان رضى الله عنه يقول: إن حصلت لك شدة، وكنت في أي جهة، فتوجه إلى مصر، وقل: يا شيخ تاج الدين يا نخال، فإن كنت في المشرق، أو في المغرب آتيك بأسرع ما يمكن.
اللهم إنَّا نتوسل إليك بجاه سيدنا محمد الدال بك عليك، وبآله، وصحبه المحبوبين لديك أن تجمع بيننا وبينهم في دار الخلد بمنك وكرمك، وأن تديم علينا وأهل محبتنا حبهم، والوقوف على أعتابهم. آمين يا رب العالمين.
([1]) تاج الدين بن محمد بن عبد الكريم السكندري الشاذلي، وتوفي في القاهرة بجوار مسجد عمرو بن العاص سنة 824هـ [«طبقات الشاذلية الكبرى» (ص140)].
[31] سيدي أبو العباس الحضرمي (...- 857)