الفصل السادس
اشتملَ مجلس المولوية على تواجُدِهِم المألوف بدورانهم المعروف، وهي الحركة الدورية الفلكية في عالم الخلق والدورية التجددية في عالم الأمر، قال تعالى: ﴿بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [ق:15]، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالبَصَرِ﴾ [القمر:50]، وقال تعالى: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء:104]، ولا يعرف كلامَنا هذا إذا بسطناه إلا العارفُ باللهِ تَعَالَى، فلا نطيلُ بذكره فإنَّ المتفقِّه الجاهل كالحمار الناهق لا يعرف من لذائذ المأكل إلا أكل الشعير والتبن، ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾ [البقرة:60]، فلنرد عِنان القلم إلى مشرب الجاهلين، ونقدر هذا المبحث لهم في تحقيق الدين، فنقول: هذه المسألة ذكرها الفقهاء بلفظ الرقص والتواجد، فقالوا: يُمنع الصوفي من الرقص والتواجُدِ وتخريقِ الثيابِ ونحو ذلك. وليس مرادُهُم بالصوفِيِّ إلا المتصوف وهو الذي يدَّعِي التصوف على وجه الكذب والمراءاة بذلك؛ لتعتقده الناس ويحبونه، قال في «الطريقة المحمدية»: ومن الافتراء على الله تعالى التواجدُ وهو ادِّعاء الولاية والكرامة كما يفعل بعض متصوفة زماننا. انتهى.
وفي بعضِ عباراتِ الفقهاء أيضًا ذكر لفظ المتصوفة -أي المتكلفين التصوف- ولأنَّ الفقهاءَ لا ينكِرُونَ على الصُّوفِيَّة ولا يجحدون أحوالهم المرضية؛ فقد ذكروا في كتاب «الوقف»: لو وقفَ أحدٌ وقفًا على الصوفِيَّةِ فهو لمن يكون معهم في ذلك الوقت، وإذا وقف على أعقل الناس يصرف إلى الزهاد في الدنيا ونحو ذلك.
ومعرفة المتصوِّفِ من الصوفِي عند الفقهاء محمولة على تحقق الإنسان بذلك أو غلبة ظَنِّهِ بِهَذَا الأمر من فاعله إلا بمجرد ظَنِّهِ في أحدٍ وتوهُّمِهِ ذلك منه؛ فإن الظن إثم وكذلك التجسُّسُ، قال اللهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ [الحجرات:12]، وفي الحديثِ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلـم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا، ولا تنافسوا ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك» [رواه مالك في «الموطأ»، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي عن أبي هريرة }].
فإن قصد أحدٌ من الفقرَاءِ الكَذِبَ في التواجد والمراءاة بذلك؛ فإن هذا شيءٌ يؤاخذ به هو في نفسِه، فقول الفقهاء واردٌ عليه وهو موضِعُ النَّهْيِ خاصَّة بالنظر إليه، هو في حَقِّ نفسِه لا بالنظر إلى غيرِه من الحاضرين؛ فإنهم يحملونه على الكمال، ومراد الفقهاء التحذيرُ والنصح لكل أحَدٍ في نفسِهِ بأن يكون له على نفسه بصيرة، فإذا أخبر ذلك الفقيرُ بِمَا فيه من قبيحِ حاله كان هو وحدَه موضع المنع المذكور في كلام الفقهاء، وكذلك إذا تَحَقَّقَ منه ذلك بأمر آخر غير مجرد الظن.
وأما التواجد بمعنى التفاعل، وهو تكلف الوجد مِمَّن لا وجد له؛ ليصير له وجد وشوقٌ في الذكرِ -فليس هو بمذموم كما قال القشيري رحمه الله تعالى في أوائل «رسالته» في الفرقِ بين التواجد والوجد والوجود، قال: فالتواجد استدعاء الوجد بضرب اختياري، وليس لصاحبه كمالُ الوجد؛ إذ لو كان لكان واجدًا، وباب التفاعُلِ أكثرُهُ على إظهارِ الصِّفَّة وليست كذلك، فقوم قالوا: التواجد غير مُسَلَّمٍ لصاحبه لما يتضمن من التكلف ويبعد عن التحقيق، وقوم قالوا إنَّه مُسَلَّمٌ للفقراء المجردين الذين ترصدوا لوجدان هذه المعاني، وأصلهم خبر الرسول صلى الله عليه وسلـم: «ابكوا فإن لم تبكوا فتباكَوْا»، والحكاية المعروفة لأبي محمد الحريري أنَّه قال: كنت عند الجنيد وهناك ابن مسروق وغيره من السادات الصوفية وثَمَّ قوَّال، فقام ابن مسروق وغيره والجنيد ساكن، فقلت: يا سيدي، ما لك في السماع شيء! فقال الجنيد: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾ [الآية:88]، ثم قال: وأنت يا أبا محمد، ما لك في السماع شيء! فقلت: يا سيدي، إذا حضرت موضعًا فيه سماع وهناك محتَشَم أمسكت على نفسي وجدي، فإذا خلوت أرسلت وجدي فتواجدت. فأطلق في هذه الحكاية التواجد ولم ينكر عليه الجنيد. انتهى.
فالتواجُد بالتكلُّف ليس ممَّا ينهى عنه الفقراء، وأما المنهيُّ عنه أن يكونَ ذلك منهم على جِهَة المراءاةِ وادِّعاء الوِلَايَةِ والتكبُّر والافتخارِ ونحو ذلك، فمن أطلَقَ النَّهْيَ على كل تواجُدٍ تفعله الفقراءُ فقد أخطَأَ فِي فَهْمِ كلامِ الفقهاء، ولم يعتبر صريح قولهم بادِّعَاءِ الوجدِ، وقولُهم باللفظ المتصوفة؛ ولهذا قال بعض الفقهاء المتقدمين: لا يجوز لأحد أن يفتي بقولنا حتى يعلم من أين قلنا، والوجد الصادق بل التواجد بالاختيار لتحصيل ذلك أمر مقبول عند الكل، ومن ظَنَّ بالفقهاء أنهم ينهون عن الخشوع في القلوب عند ذكر الله تعالى، وهو معنى الوجدِ والتواجُدِ في اصطِلَاحِ الصُّوفِيَّةِ، يكون قد نَهَى عن الخشوعِ وعَدَّه من جملة الحرام عنده، وهو طاعة بنص القرآن والحديث، قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ...﴾ الآية [الحديد:16].
وقال النبي صلى الله عليه وسلـم: «اللهم إنِّي أعوذ بك من قلب لا يخشع...» [الحديث أخرجه الترمذي والنسائي].
فيلزمه الكفر على قوله ذلك، فإن قال: هذا في الخشوع، وأنا لم أقل بالنهي إلا في حق التواجد. قلنا له: التواجد معناه استدعاء الوجد وطلب حصوله، والوجد لا يكون إلا عن خشوع القلب؛ فالخشوع أصلُ الوجدِ والوجدُ ظهورُ الخشوعِ بالفعل، فذَمُّ الوجد ذَمُّ الخشوع، على أن حكمه بالفسق في حَقِّ من يحضُرُ مجلسَ المولوية يقتضي الحكمَ بحُرْمَةِ الوجدِ الَّذِي هو أثرُ الخشوعِ في الفقراءِ المعلومين عند ذكر الله تعالى في نفوسهم بما هم يتلُونه، ومنكر الخشوع والوجد الصحيح كافر بالله تعالى ولا خصوص للحركة التي هي أثرُ الوجد المذكور كيفما كانت، وهؤلاء الفقراء وإن كانوا قاصرين على زعم المتفقِّه الجاهل؛ فإنَّهُم متشبهون بالكاملين قبلهم في عمل السماع والتواجد، كما ورد في الحديث: «من تشبَّه بقوم فهو منهم»، وقال العارف السهروردي قدس الله سره:
إن لم تكونوا مثلهم فتشبهوا * إن التشبُّه بالكرام فلاح