يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد:7] فدل على أن قضية المعلم الهادي، والدليل المرشد ضرورة لزومية، طبعًا وشرعًا، ومن هنا أرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾[الإسراء:15]. ولم يدع الناس لأفكارهم وحدها وإن سمت، فإن العقل مهما بلغ فهو محل للخطأ، ولأن العلم وحده قد يكون طريق الهلاك، والأدلة شتى في تواريخ الفلاسفة، والمفكرين العقليين، والعلميين، وأصحاب المذاهب الاجتماعية المختلفة والواقع المكرر.
ومن هنا وجد الإشراف والتوجيه البشري في كل شيء، سواء كان وظيفة أو تجارة أو تعليمًا أو احترافَا أو إدارة أو حكومة أو غير ذلك.
ومن هنا جاء أمر الله باتخاذ القدوة الصالحة: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب:21]، ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الممتحنة:4]. ولا تكون القدورة حسنة إلا إذا كان الله غايتها: ﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ﴾ [لقمان:15]، ﴿وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ﴾ [الأعراف:142]، و﴿يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [غافر:38]، ﴿يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [غافر:38]، ﴿اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [يس:21]. وعندما ذكر الله أنماطًا من أهل القدوة الصالحة الداعية إليه تعالى في سورة الأنعام قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام:90] ولو شاء الله لأنزل كتابًا بغير نبي، ولكنه لم ينزل كتابًا إلا ومعه نبيه صلى الله عليه وسلم؛ ليبين للناس ما نزل إليهم.
ربما كان الأخذ السليم عن الكتاب السليم فيه الأجر فقط، أما الأخذ عن الشيخ ففيه الأجر وفيه الوصول معًا، لأن فيه سر الإمداد بالبركة، وربط المريد بالحبل المحمدي، وذلك أشبه بالتيار الكهربائي لا ينتقل إلا بالموصل.
وفي قضية جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم معنى اتخاذ المرشد الهادي والدليل المعلم، وإلا فربما كان يكفي النور الإلهي المنقدح في القلب المحمدي عن مصاحبة جبريل، والأخذ عنه.
وقد طلب موسى الشيخ المعلم، المرشد الهادي، الدليل وسعى إليه حتى وجده في العبد الصالح وتتلمذ عليه، ولم يكتف موسى بأنه كليم الله.
وهل يمكن لأي إنسان أن يقرأ القرآن قراءة صحيحة بغير موقف خبير؟ وكذلك شأن جميع الصناعات والفنون.
وقد كان الله هو المرشد الأعظم والمعلم الأكبر، فخلق الإنسان علمه البيان، وعلمه ما لم يكن يعلم، وهداه النجدين.
ثم إن اتخاذ الشيخ مما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، كما رأيت طبعًا وشرعًا مؤيدًا بالواقع العلمي والتاريخي، والموضوعية التي لا تقبل النقاش.
ومجال اتخاذ الشيخ إن خلا شغله الشيطان بيقين، والله الموفق.
التعصب للطرق والأشياخ
ولا عصبية في الإسلام، وفي الحديث الثابت: ليس منا من دعا إلى عصبية، مؤمن تقي، وفاجر شقي، كلكم لآدم، وآدم من تراب.
ويوم قال الصحابي وهو يدفع قناته -حربته- في عنق أحد المشركين: خذها وأنا الفتى الفارسي. غضب الرسول صلى الله عليه وسلم حتى رُئِيَ في وجهه وقال: «هلا قلت: خذها وأنا الفتى المسلم أو الأنصاري»([1]).
ومن هنا جاءت دعوتنا الموصولة إلى التقارب، والتعارف، والتعاطف، والتعاون، ونبذ التعالي والتغالي بين الصوفية أجمعين، شأن أتباع المذاهب الأربعة، كل منهم على مذهبه محب لغيره مقتد به، معتقد فيه.
وحسب الأمة تمزيقًا مذهبيًا، فليس من الدين ولا من التصوف أن نستحدث فيها تمزيقًا جديدًا بالتعصب لولي صالح ضد آخر، ولا لطريق شرعي دون سواه ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد:7]. ونحن لا ندري ماذا وراء الستار، ولعل ضريحًا يزار وصاحبه من شر أهل النار.
تحريم زيارة الأشياخ:
ولا أفهم -وعذري قصوري- ما هو السر في تحريم بعض الشيوخ علىٰ مريديهم زيارة مشاهد أولياء الله، إلا إن كانوا من طريقهم، فتلك حزبية ضد الموتى، وحرب عليهم، ليست من دين الله ولا من التصوف، والموتى لا يمكلون الدفع عن أنفسهم ولا بيان حقيقة درجاتهم عند الله.
ربما فهمت سر تحريمهم زيارة الأشياخ أحياء حتى لا تنعقد المقارنة بين الجهل والعلم، والحق والدعوى، والهدى والضلال، فينصرف بعض العقلاء عن بعض الجهلاء أو الأدعياء، وما أقل العقلاء حول هؤلاء.
ولكن أكرر أنني عاجز عن فهم سر تحريم زيارة الموتى من الدعاة إلى الله، ونحن قد سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث على زيارة الموتى والاعتبار بهم مفاضلة، فهل نتبع قول النبي صلى الله عليه وسلم أم أقوال الشيوخ المتحزبين.
وعندما يحاولون فلسفة هذا المنع فلسفة مذهبية سفسطائية فإننا نقر هنا بالعجز كما أقررنا به هناك، لأننا نمقت الجدل، فإن الحلال بين، والحرام بين.
شر مشهود:
وإن بعض شر ما نشهده في أيامنا هذه في بعض مجالس الذكر الصوفي عند بعض الطرق أنه إذا ذكر المنشد أو المتحدث أو غيره اسم الله تعالى تلقاه الحاضرون بالهدوء والصمت والفتور، وإذا ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم تلقوه بمثل ما تلقوا به اسم الله من الهدوء والصمت والفتور، وقد بخلوا حتى بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.
فإذا ما ذكر المنشد أو المتحدث أو غيره اسم الشيخ جن الجنون، واضطربت الأجساد، وتشنجت الأذرع، وتعالت الأصوات في صخب ونصب، تتصايح (بالنظرة والمدد)، هرجًا ومرجًا غير معقول ولا مقبول، لا عقلًا ولا شرعًا.
ومعنى هذا أن منزلة الشيخ عندهم أرفع من منزلة الله والنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، ولو كان هذا المعنى مقصودًا لكان كفرًا، أو شركًا صريحًا. فاتقوا الله عباد الله، فالدنيا فانية، والله شديد العقاب، وهو الغفور الرحيم، إن أصلحتم وتبتم إليه.
خطيئة التعصب الجامح:
أجدني مضطرًا إلى العودة إلى الإشارة إلى موضوع المفاضلة بين أولياء الله ومأثوراتهم برجاء تخفيف الغلواء التي تهيمن على بعضهم من جانب مشايخه حتى يرفعهم زورًا إلى رتبة الألوهية، وينزل بالآخرين إلى أسفل المراتب.
وليس في أي دين ولا في مذهب، ولا في أي مشرب أن يتقرب العبد إلى الله ببغض أوليائه، وكراهة أحبائه والبعد عن أصفيائه، واستصغار شأن كل ولي أو داعية أو عالم أو حاكم ليس من مذهبه ولا مشربه.
إن مجرد التفكير في البغض أو التحقير أو الاستصغار أو حتى في الإهمال، بل الإغضاء أو مجرد التجنب؛ فرع من الخطيئة التي قد لا تغتفر. وهو نوع من العصبية الحمقاء أو التحزب التجاري أو الإقطاعية البشرية التي لا يعرفها دين الله ولا تصوف المسلمين مهما دسوا ذلك عليه، وعللوه بما لا يقبله تشريع ولا تحقيق. وفي يقيني أن كبار الأشياخ من هذا القول برآء.
إن التصوف صفاء، ولا يمكن أن يتفق الصفاء مع الجفاء، فضلًا عن احتقار الناس والسقوط بمنازلهم التي لا يمكن الشهادة على الله بعلمها أو ترتيب مستوياتها.
ولا يكون معنى التعلق بالأفضل، في رأيك، أن تحتقر الفاضل، فقد يكون هذا الفاضل عند الله هو الأفضل في الواقع ونفس الأمر، والحكم على الناس بما لا يقين للإنسان به من غيب الله كذب جزاف، حتى إن وافق الصواب اعتباطًا، ومدد الله دائم مستمر خالد متجدد: ﴿وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الإسراء:20].
إن تمجيدك لأبيك ليس معناه احتقارك لعمك، فبمقدار ما يكون تمجيد الأب فرضًا يكون احتقار العم خطئية موبقة.
وإن القول بأن الولي مهما كانت شهرته في الناس هو أفضل من غيره من بقية أولياء الله نوع من الكذب والافتراء على الله؛ لأن مقامات الأولياء غيب لا يعلمه إلا الله وحده.
لكن هناك حماقة يضيق بها العلم، ويضيق بها الفهم، ويضيق بها الأدب مع الله، ومع أولياء الله، ومع قداسة الغيب الإلهي.
زارنا مرة جماعة من بلاد الشام يحملون إلينا اشتراكات إخوانهم في (المسلم)، وكانت قد أهديت إلينا نسخ جيبية لطيفة من طبعة خاصة من الدلائل، فقدمنا إليهم منها قدرًا على سبيل التحية والتكريم والهدية، فقال كبيرهم: ما هذا؟ قلنا: دلائل الخيرات. قال: وما حاجتنا إليها وعندنا الصلاة (الفلانية) تلقيناها عن شيخنا، وكل مرة منها بكذا ألف مرة من الدلائل. قلنا: وما دليلك على ذلك؟ قال: كلام المشايخ. قلنا: وكلام المشايخ لا يكون في ذاته دليلًا من غير سند منصوص في كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس. قال: بل كلام شيخنا نص والإيمان به فرض، والبحث عن دليله شك وزندقة!!
ولقد سمعت مثل هذا وقرأته مدسوسًا على بعض سادتنا التجانية، والإدريسية، والحامدية، والدسوقية، وبعض الخلوتية، والأحمدية، وغيرهم. ولا أنسى ليلة جاءني شاب تكاد تحطمه الأوهام، فقد أذنه الشيخ أن يكتفي بتلاوة الصلاة المنسوبة للطريقة، ثم أعجبته صيغة أخرى، فطلب من الشيخ الإذن له بالتعبد بها، فاستشاط الشيخ، وهدد المريد بالويل، والثبور، وفواجع الدهور إذا هو فكر مرة أخرى في هذا أو فعله، وقال له: إن قراءة مرة من هذه الصلاة تعدل قراءة القرآن كله مئة مرة، وتعدل دلائل الخيرات مئة ألف مرة، ومن شك في هذا أحيط بالبلايا والمحن، والعياذ بالله.
فَحَتَّمَ هذا التغالي المسرف في التعصب، والحزبية، وإهدار حق الشرع والعقل والناس، واتهام الأشياخ بما هم منه برآء.
وقد أعاد بعضهم طبع كتاب في الصلوات عليه صلى الله عليه وسلم للهاروشي، وهو يقول فيه: إن هذه الصلاة وحدها تعدل كذا مرة من دلائل الخيرات، وهذه الصلاة تعدل ألف أو آلاف المرات من الدلائل، وهكذا. بل ينقل عن بعض المغالين إن بعض الصلوات تعدل قراءة القرآن مما هو إلى الإلحاد والمروق أقرب، عياذًا بالله.
إن كثرة القياس على دلائل الخيرات هو وحده الدليل على رتبتها، وأنها الفريدة غير المكررة. ولو كان هناك ماهو في مستواها ما كانت هي المثل الأعلى في القياس والموازنة، ومع هذا نقول: مسكينة دلائل الخيرات، ومسكينة عقول ونفوس كثير من المتمصوفة، وصدق الله تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ﴾ [النحل:116].
إن بين أيدينا رسالة (أنوار الحق) لأخينا في الله المرحوم الشيخ عبد المقصود سالم، وهي من آيات البيان اللغوي والروحي، ولكن أحدًا لم يقل إنها أفضل من الدلائل وإلى الله ترجع الأمور. وكم من ولي مستور أفضل من ألف ولي مشهور. انظر إلى موقف نبي الله موسى المشهور من ولي الله الخضر المستور، ثم انظر إلى شهرة إبليس وعدم شهرة نبي الله إليسع وذي الكفل، ثم اعلم أن تفضيل ولي على ولي مهما كان مشهورًا وذاك مستورًا ليس من تصوف المسلمين.
ولهذا نقرر عن علم وإيمان أنه ليس بصوفي على الإطلاق من يمنع أتباعه من زيارة أولياء الله، الموتى منهم خاصة، فإن لكل ولي مزية، ولم يأت في عقل ولا شرع أن الله جمع كل مزاياه في شخص واحد، فمن تبعه استغنى به عن كل البشر إلا أن يكون سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نبي بعده.
بل إن الله ابتلى سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما ابتلاه بمن يقول إنه كان خطاء ولا عصمة له إلا في القرآن فقط -ولا قوة إلا بالله-، ثم نحن نجد من هؤلاء الجهلة من يقول بالعصمة المطلقة لبعض الأولياء والأشياخ، بل ربما ذهب الجهل والحمق بهم إلى قول بأن أرواح أشياخهم كانت في الأزل تمد أرواح أهل الله، بل ربما ذهب السفه والتغفل بهم إلى القول بأشنع من هذا، ألا تراهم إذا ذكر الله ورسوله خرسوا وصموا، وإذا ذكرت أشياخهم تصايحوا وتصاخبوا، أشبه شيء بما قال الله: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [الزُّمر:45]. وهو شيء خطير في الدين عنيف رهيب للغاية.
ثم إن في هذا نوعًا من الاسترقاق، والعبودية، والاتجار بالبشر، وإهدار الآدمية بعد إلغاء حكم الشريعة والحقيقة والطريقة والمعقولية والتاريخ، الأمر الذي لا يقبله على نفسه إنسان يؤمن بالله ورسوله، أو مسلم يحس بوجوده، وكرامته، ورسالته في الحياة. ولا يغفر الله قط لعالم لا يُنَبِهُ عليه ولا لصوفي يرضى به.
مرة أخرى مسكينة دلائل الخيرات:
شاء الله تعالى أن يكتب لرسالة دلائل الخيرات إقبال من الناس ومحبة وثقة لم تعرف لكتاب، ولا رسالة في الصلوات على رسول الله صلى الله عليه وسلم لسبب أو لآخر على مرور الزمان.
وقد أوقعها هذا في تنافس شديد مع أشباهها، مما لا نرى فيه بأسًا كلما خلصت النية واتجهت إلى استباق الخير، فذلك من مطالب الإسلام. وفيوض الفتوحات لا تنتهي، وعطاء الله ليس له حدود.