1- النبي صلى الله عليه وسلم يشترك في الإنشاد الصوفي:
الإنشاد الصوفي سنة نبوية ثابتة في أعلى درجات الحديث الصحيح، أعني المتفق عليه بين الشيخين: البخاري ومسلم، فقد رويا في صحيحيهما عن البراء بن عازب رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينشد يوم الخندق من شعر ابن رواحة:
وَاللهِ لَوْلا الله مَا اهْتَدَيْنَا |
* | وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا |
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا |
* | وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا |
إلخ إلخ.
وروى البخاري أن النبي كان يمد صوته بالكلمات الأخيرة من كل مقطع على طريقة التلحين العربي وقتئذ فيقول: (لاقينا...أبينا...إلخ) فيردد الصحابة عليه الإنشاد كذلك (لاقينا...أبينا...إلخ) ([1]).
والمفهوم الفقهي من هذا الخبر الثابت أن الإنشاد الفردي والجماعي بالتلحين كلاهما أصبح لهذا سنة مندوب إليها، ولعل سر المدد في هذا الخبر هو الذي كان سبب نجاح الدعاة إلى الله بالإنشاد مع الجهاد، كذي النون المصري في الرجال، ورابعة العدوية في النساء، إذا صح ما روي عنها.
وقد ثبت في الصحاح وعند أصحاب التواريخ والسير: أن المسلمين كانوا في بناء مسجد المدينة يحملون لبنة لبنة أو حجرًا حجرًا، وكان عمار بن ياسر يحمل اثنتين اثنتين، وهو ينشد قائلًا:
نحن الهداة نبتني المساجدا
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم مع بقية المسلمين يرددون عليه قائلين (المساجدا)، وفي وراية (المسلمون) بدل الهداة.
ومن هاتين الروايتين يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مرة ينشد ويرد الصحابة عليه كما جاء في الخبر الأول، ومرة كان يرد الصحابة على الذي ينشد منهم كما جاء في الخبر الثاني، واشتراك الرسول صلى الله عليه وسلم هنا وهنا شرف ضخم خالد للإنشاد والمنشدين.
2- من أناشيد الصحابة:
وثبت كذلك أنه صلى الله عليه وسلم رأى في يوم الخندق رجلًا اسمه جعيل، وجُعَيْل تصغير اسم جُعَل، بضم الجيم وفتح العين، والجُعَل: حشرة معروفة تسمى في مصر (الجعران) تحريفًا، فسمَّىٰ النبي هذا الرجل عَمْرًا كعادته صلى الله عليه وسلم في تغيير بعض الأسماء بما هو أجمل وأفضل، فإذا بالصحابة يحفورن وينشدون بين يديه صلى الله عليه وسلم قائلين:
سَمَّاهُ مِنْ بَعْد جُعَيْلٍ عَمْرا |
* | وَكَان لِلْبَائِسِ يومًا ظَهْرا |
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم قائلًا: (عمرا...ظهرا) مَادًّا بها صوته منشدًا.
وثبت أن خالدًا بن الوليد كان يهدم صنم العزى وهو ينشد:
يا عز كفرانك لا سبحانك |
* | إني وجدت الله قد أهانك |
وكان الطفيل بن عمرو الدوسي يؤجج النار في صنم ذو الكفين وهو يرتجز مغنيًا:
يا ذا الكفين لست من عبادكا |
ميلادنا أقدم من ميلادكا |
إني حششت النار في فؤادكا |
ولما وضع النبي صلى الله عليه وسلم رداءه وأخذ يعمل بنفسه في بناء مسجد المدينة جعل علي بن أبي طالب ينشد قائلًا:
لا يستوي مَن يعمر المساجدا |
* | يدأب فيها راكعا وساجدا |
وقائمًا طورًا وطورًا قاعدًا |
* | ومَن يرى عن الغبار حائدا |
وهنا وضع الصحابة أرديتهم وجعلوا ينشدون قائلين:
لئن قعدنا والنبي يعملُ |
* | لذاكَ مِنَّا العملُ المُضَلَّل |
وكذلك صح أنه صلى الله عليه وسلم كان ينقل اللبن مع القوم ويقول:
هَذَا الْحِمَالُ لَا حِمَالَ خَيْبَرْ |
* | هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ([2]) |
وكذلك صح أنه صلى الله عليه وسلم كان ينشد مع صحابته:
اللهم إن العيش عيش الآخرة |
* | فارحم الأنصار والمهاجرة([3]) |
وفي رواية (فبارك أو اغفر) لِلأَنْصَارِ وَالمُهَاجِرَةِ.
ومن الثابت الصحيح عند أهل العلم أنه كان لرسول لله حاد يغني لإبله في الركب النبوي هو عبد الله بن رواحة، وكان رسول الله يسمع له ويطرب منه، ويشجعه ولا ينهاه كما في الخبر: «رفقًا بالقوارير»([4]) عند منصرفه من خيبر.
ويوم الحديبية أخذ ابن رواحة بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حاديًا منشدًا قوله:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ |
* | خَلُّوا فَكُلُّ الْخَيْرِ فِي رَسُولِهِ |
...إلخ([5]).
وفي منصرف المسلمين من بدر كان عدي بن الزغباء يحدو بجيش المسلمين قائلًا:
أقم لها صدورها يا بسبس |
* | ليس لدي الطلح لها معرس |
إن مطايا القوم لا تخيس |
* | فحملها علىٰ الطريق أكيس |
قد نصر اللّٰه وفرَّ الأخنس |
وفي يوم أحد أخذ أبو دجانة السيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصب رأسه بعصابة الموت الحمراء، وجعل يقاتل أعظم القتال وهو يرتجز منشدًا:
أَنَا الَّذِي عَاهَدَنِي خَلِيلِي |
* | وَنَحْنُ بالسَّفْحِ لَدىٰ النَّخِيل |
أَلَّا أقوم الدهر في الكبول |
* | أضرب بسيف الله والرسول |
ونحو هذا روي صحيحًا عن علي بن أبي طالب، وكعب بن مالك، وبعض الصحابة الأبرار. ثم هذا ناجية بن جندب في غزوة خيبر يرتجز مغنيًا:
يا لعباد الله فيما يرغب |
* | ما هو إلا مأكل ومشرب |
وجنة فيها نعيم معجب |
كل هذا والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ويطرب، أو يشترك في الإنشاد لما له من الأثر العاطفي العميق الأبعاد في النفوس تشجيعًا أو ترويحًا، أو تبتلًا وابتهالًا، أو علاجًا نفسانيًا وشحنة روحية آمن بها العلم الحديث.
3- من أناشيد الصحابيات:
حتى الصحابيات كن يرتجزن وينشدن في الأفراح وغيرها كما ثبت في البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة وغزل الأنصار وغنائهم: أتيناكم أتيناكم فحينا وحياكم، وكيف استملحه بل أشار به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكيف ترك الجواري يغينين في داره وهو فيها يوم عيد.
وكيف استمع إلى غناء الجواري بأحد المخيمات كما جاء في حديث الربيع بنت معوذ عند البخاري.
وكيف أذن للمرأة أن تضرب عنده بالدف وتغني وفاء لنذرها. راجع تفاصيل كل هذا في الصحاح والسير المعتمدة.
كما لم ينه صلى الله عليه وسلم عن الرجز في النوح والبكاء، كما جاء عن أم سعد بن معاذ رضى الله عنه أنها عندما احتمل نعشه جعلت ترتجز قائلة:
وَيْل أمّ سعد سعدا |
* | صرامة وجدا |
وسؤددا ومجدا |
* | وفارسا معدا |
سد به مسدا |
* | يقد الهام قدَّا |
أو في القتال في الله كما جاء عن إحدى المسلمات يوم بدر قولها ترتجز:
غلبت خيل الله خيل اللات |
* | والله حق منك بالثبات |
أو في الاستقبال كما هو نشيد بنات النجار لرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دار حول المدينة من قباء ودخلها من الثنيات:
طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا |
* | مِن ثَنِيَّاتِ الْوَدَاع |
وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا |
* | مَا دَعَا لِلهِ داع |
4- الرجز والتغني والصوت الحسن:
والرجز هو الشعر الذي كانوا يترنمون به ملحنًا أغاني بلحون العرب، وذلك بإجماع علماء الأدب، والفن، والتاريخ، وفي صدرهم الأخفش، والأصمعي، والجاحظ. ثم إن العلم والواقع وسابق التجربة، كل ذلك قد سلم بالأثر النفساني البليغ الذي يحدثه الإنشاد، وفيما ذكرناه مقنع لمن شاء أن ينتصف.
ومن مجموع ما قدمنا يثبت ثبوتًا قاطعًا أن الإنشاد الصوفي سنة نبوية وصحابية مندوب إليها، ولها أثها النفساني العميق، سواء أكان المنشد منفردًا، أو كان معه آخرون يرددون نشيده، بشرط ألا يكون فيه قول ممنوع لفظًا أو معنى.
والكلام في تحسين الصوت بالإنشاد جزء منه، وحسبك قصة بلال في ممارسة الأذان، وقصة ابن مسعود في قراءة القرآن. ويكفي أن تذكر ما جاء في تحسين الصوت عن ابن رواحة، وأنس بن مالك، وأبي محذورة المؤذن وغيرهم، بل بحسبك ما جاء في جمال صوت النبي صلى الله عليه وسلم وكيف أنكر القرآن الصوت القبيح فقرر بهذا مشروعية القول المليح. وما جاء في الإنشاد النبوي والصحابي ينطبق شرعًا على الأنشايد الصوفية، والوطنية، والحربية. فسقط الاعتراض والمعترض.
ومعروف ما ذكره العلماء في باب الإنشاد والسماع من تفريع وتفصيل وتخصيص وتعميم، فليرجع إليه في مظانه من كتب الصوفية والمحدثين وغيرهم.
وإنما أردت أن أثبت أصل هذا الشيء من صميم السنة والتاريخ على أسلوب المنهج العلمي الثابت مغضيا عن أكثر التعليلات النفسية، والفنية، والعلمية وما يتعلق بها.
نعم، إن الإنشاد أمر ممنوع كالكلام المستهجن أو كالصفير والطبل وما هو منه تغير الحكم، لا بالنسبة للأصل، ولكن بالنسبة لما طرأ عليه، وهذا هو الحق.
وحسبنا قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً﴾ [الأنفال:35]، ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا﴾ [الأنعام:70].
([4]) أخرجه البخاري: (6210) عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ رضى الله عنه أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي سَفَرٍ، وَكَانَ غُلاَمٌ يَحْدُو بِهِنَّ يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: «رُوَيْدَكَ يَا أَنْجَشَةُ، سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ». قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: يَعْنِى النِّساءَ.