الاختلاف بين الطرق الصوفية ليس اختلافًا في الحقيقة والهدف، وإنما الاختلاف هو في الوسيلة، والأساليب، والمناهج ليس إلا.
فالطرق الصوفية الشرعية على تعددها سبل تعدد إلى الله، لتلائم حاجات كل سالك إليه، فيجد فيها كل مريد ما يناسب طاقته ووقته، ومزاجه وبيئته، قطعًا لأعذار القاعدين عن الهحرة إلى الله -عز وجل-، فليس كل الناس سواء في الطاقة والمزاج، وإذن فتأمل بإمعان قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت:69].
إذن فهناك سبل شتى توصل إليه تعالى كما قال تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ﴾ [المائدة:16].
وهذه السبل المتعدد القويمة تمضي متوازية متحاذية في اتجاه واحد فكأنها طريق واحد، ولذلك جاءت في أكثر من آية بلفظ المفرد نحو: (سبيلي، أو سبيله، أو سبيل ربك) لاتحاد البداية والنهاية، فهي مجتمعة صراط الله المستقيم الواحد المتبع، أي أقرب مسافة بين العبد وربه.
وذلك أن الطرق الشرعية جميعًا تبدأ من التوبة، وتنتهي بالمعرفة. فإذا فرضنا (دائرة ذات مركز) كانت كل الطرق الشرعية خطوطًا داخلية تصل ما بين محيط الدائرة ونقطة المركز، وكيفما كان اتجاه نقطة البداية فلا خلاف في النهاية ولا في الأصول العامة، ولكن في فروع كيفية الوصول.
وبهذا يندفع اعتراض الباحثين عن المشكلات، المفرقين بين الجماعات، والمحتجين بقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام:153]. فالمنهي عنه طرق الشيطان والكفران التي تتقطع وتتعارض مع سبل الرحمن، وأما سبل الرحمن فالله ذكرها كما فصلنا، ووعد المجاهدين فيه بهدايتهم إليه قال تعالى: ﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾[العنكبوت:69]. واعتز بها الأنبياء فقالوا: ﴿وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا﴾ [إبراهيم:12] فكلها متوازية متحاذية، وكلها شرائح يتكون منها (سبيله) تعالى، فهي وإن تعددت سبيل واحد للاتحاد في البداية والنهاية، والنية والهدف الأعظم.
إن الحق واحد لا يتعدد، ولكن السبل تتعدد في إدراكه، أو الوصول إليه. فلو تصورنا مصباحًا معلقًا، فقد تصورنا أن النظر إليه وإدراك وجوده ممكن من الجهات الست وما بينها، وهكذا تعددت سبل رؤية المصباح، وهو واحد مستقر في مكانه غير مكرر، وهذا هو شأن الناظرين إلى الشمس والقمر في كافة أقطار الدنيا، يختلف موقع الطالب ويتعدد ولا يختلف المطلوب المحدد.
وفي ذهابك إلى الكعبة مثلًا تستطيع الوصول بالطائرة أو الباخرة أو السيارة أو ركوب الدواب أو المشي على الأقدام، وكلها سبل توصل إلى الحقيقة الواحدة التي لا تتعدد.
وفي موقف المسلمين حول الكعبة في الصلاة تختلف الاتجاهات اختلافًا تامًا، ولكنها جميعًا تلتقي في نقطة المركز الواحد، الذي ترمز إليه بناية الكعبة الشريفة الموحدة.
وفي صلاة الوتر مثلًا تستطيع أن تصلي ركعة واحدة أو ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر، ولكها سبل موصلة صحيحة، فالصلاة واحدة ووسائل الأداء متعددة إلى الغاية الواحدة المتوحدة.
أما ما أشار إليه حديث: خَطَّ لَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم خَطًّا، وَخَطَّ عَن أيْمَانِهِ وَشَمَائِله خُطُوطًا، وقال صلى الله عليه وسلم: «هَذَا سَبِيلُ الله، وَهَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ». ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا﴾ [الأنعام:153]([1]).
فإن فهم هذا الحديث محكوم بفهم كل ما يتعلق به مما قد فصلناه وبيناه هنا، فلا تعارض بين القرآن والقرآن، ولا بين السنة والقرآن.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خط الخط المستقيم، وخط عن يمينه وشماله خطوطًا (متعارضة أو متقاطعة) معه فلا هي محاذية له، ولا متوازيه معه بل هي مخالفة عنه، والفرق هائل جدًا بين هذا وبين سبل الله المتوازية المتحاذية المتوحدة البداية والنهاية، فلا تقاطع فيها ولا تعارض.
ألا ترى الشارع الواحد والطريق الواحد وقد قسم إلى (حارات أو مسارات) تتعاون في الخدمة ولا تختلف؟ (ولله المثل الأعلى).
ألا ترى إلى كابل الكهرباء أو التليفون، وقد جمع آلاف الأسلاك والحبال متناسقة جميعًا في أنبوب أو ماسورة واحدة، كذلك شأن سبيل الله وتعدد الطرق إليه.
أما ما عسى أن يصيب هذه الطرق من أمراض المبتدعات، والمناكر، والمحرمات فأمر طارئ دخيل أو مدسوس لا يغير من نقاء الخامة الأصلية، وحكمها الشرعي معروف.