فرق كبير بين أهل السنة وأهل اللحية:
هذا سؤال وجه إليَّ عدة مرات، وأحسست مع تكرار السؤال بخطورة سوء الفهم الذي أشاعته الطائفية المقيتة حوله أو حولنا، فكان لابد من لمسة عاجلة نسجل فيها مفهوم أهل العلم وجمهور المسلمين في هذا الموضوع، رغم ما أعرف من شدة حساسيته، وما يمكن أن يكون من ورائه.
والسنة في اصطلاح علماء الدين هي قول النبي صلى الله عليه وسلم أو عمله أو إقراره. فهي شعب ثلاث، من عمل بإحداها، ولو مرة واحدة من عمره، أصبح من أهل السنة، هذا هو مقرر علم الأصول.
ومعنى هذا كل من آمن بصاحب السنة صلى الله عليه وسلم فهو من أهل السنة، وإن قصر في التنفيذ والالتزام، فكل مسلم هو من أهل السنة بقدر ما التزم وأدى، فليست المفاضلة إلا في محاولة تحصيل الأجر، بمحاولة المحافظة على ما يتيسر لكل إنسان من العلم والتطبيق.
أما تخصيص النسبة إلى السنة بنفر معين ممن وفقهم الله إلى إعفاء اللحى فهو إطلاق عامي، أو اصطلاح طائفي مبتدع لا علاقة له بأصول علوم الدين ولا حتى بهوامش علم الجتمع، وإنما هو من خصائص علم النفس العلاجي.
ثم كيف يُتَّخَذُ هذا المظهر بالذات مؤشرًا خاصًا على اتباع السنة، ونحن نرى أكثرية كاثرة من الفلاسفة المنحرفين، وكذلك ممن يسمونهم الفنانين، على اختلاف لون الفن وصورته وحقيقته السوية والغوية، ثم من يسمونهم الهيبز، ومن يسمونهم الخنافس، ثم أصحاب ديانات السيخ، والهندوك، والبراهما، واللاما، والبوذيين، وكذلك مئات من ملاين البدو التي لم تصلها دعوة الدين في أفريقا، وإستراليا، والشرق الأقصى وغيره، كل أولئك يعفون لحاهم، وقد يهتمون بتصفيفها وترجيلها أضعاف ما كان يعمله اليونان والرومان فهل يقال إن هؤلاء هم أهل السنة؟!
كما أن جميع رجال الأديان، والمذاهب المسيحية واليهودية يرخون اللحى، فكيف يكون إعفاء اللحى بعد كل هذا علامة مميزة للمسلم؟ بل للمسلم من أهل السنة بخصوصه؟
ما من شك أبدًا أن إعفاء اللحى سنة نبوية لا خلاف عليها قولًا وعملًا وإقرارًا، والموفق إلى إعفائها اليوم بطل جدير بالتقدير والتوقير، وحساب نيته على الله، ولكن ليس معنى هذا أن الذي لم يوفق إلى إعفاء لحيته قد شطب اسمه من ديوان الإسلام، حتى تكون السنة كل السنة هي مجرد إعفاء اللحية، وإن اختفى من ورائها إبليس.
في الحديث الثابت بألفاظ مختلفة وروايات متعددة: أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يجب الارتباط به من أمر الدين بعد الشهادتين، فذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس، وصيام رمضان، وإخراج الزكاة إلا أن يتطوع، أي أنه مخير في أن يأتي بالسنن بعد الإتيان بهذه الفروض، فانطلق الرجل وهو يقول: والله لا أزيد عليها. فكان التعقيب النبوي السمح علىٰ ذلك قوله صلى الله عليه وسلم أفلح الرويجل أو قال: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا الرجل، أو أفلح إن صدق على ما ذكرته الروايات.
فهل هذا الذي أقسم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يزيد شيئًا من السنن على ما فرض الله لا يعتبر من أهل السنة؟ مع أنه صرح بأنه لن يزيد شيئًا عن الفرض من السنن التعبدية، فكيف بالسنن غير التعبدية؟
إن الإيمان بالسنة شيء والتقصير في عملها شيء آخر، هذا هو منطق العلم الحاسم، إن التزام المسلم بالسنن التعبدية، وهي شتى متكاثرة، أجدى عليه من الظهور بسنة ليست شرطًا في صحة الدين، ولا في صحة العبادة، ولا شرطًا في صحة الخلق، ولا في صحة الحياء، ولا في صحة العلم كإعفاء اللحية ونحوها.
إن إعفاء اللحية من سنن الفطرة كما ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم دون مفاضلة، ومن سنن الفطرة قص الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة، فمن قال إنها من سنن العبادة خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم إن صاحب اللحية إن لم يعصمه الله قد يدخل بها في متاهات من معاصي القلوب، والاستشراف على مهاوي الرياء، وتزكية النفس، واحتقار الناس، وتربية الغل في قلبه لبقية المسلمين غير الملتحين، مما لا نزال نعاني منه ألعن المعاناة في شأن الدنيا والدين حتى كأن الدين هو إعفاء اللحية ليس إلا، عند هؤلاء الناس.
إن أكثر من تسعة أعشار علماء الأزهر الشريف اليوم لا يعفون اللحى، ولا يستطيع أحدٌ أن يقدح في علمهم ولا خلقهم ولا عقيدتهم، وهم لا ينكرون الإعفاء أبدًا بل يتمونه عندما يشعرون أنهم قد أصبحوا أهلًا له، وعندما يكونون قد قاموا بجميع سنن العبادة وجميع سنن الآداب، وسنن العادة حتى يكون إعفاء اللحية إكمالًا للصورة الدينية وختمًا عليها، لا أن يكون فضيحة لها، وستار على ركام من الحمق والغل، والجهل والعصبية المدمرة.
نعم نحن نأخذ ديننا عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا عن علماء الأزهر، ولكن كثرة هؤلاء العلماء وتمكنهم جعل لهم تقديرهم العلمي، وتوقيرهم الذاتي، وحجيتهم في مسائل الدين، وهم يعلمون أن مسألة إعفاء اللحى ليست من أمهات مسائل الدين عمومًا، ولا أمهات مسائل السنة خصوصًا، فهي سنة كريمة لا مرية فيها، ولكنها لا ترتبط أبدًا بأصول الاعتقاد، ولا بحقائق العبادة، ولا بقواعد المعاملة، إنما هي نوع من الكمال لا شك في ذلك.
وها نحن أولًا: بدأنا نرى سماحة الفهم تعبق بنسيمها الهادئ في صفوف بعض الجمعيات الكبرى والطوائف الراشدة، فقد كان رجل له منزلته الرفيعة في الدولة يرأس إحدى هذه الجماعات، وكان سكرتير هذه الجمعية وهو من أسرة مؤسسها ولا لحية لهما.
وكان رجل عظيم في مثل منزلة الأول أو يزيد يرأس -أيضًا- جمعية لا تقل خطرًا عن الأولى ولا لحية له، بالإضافة إلى جمعيات أخرى كانت ولا زالت مجاهدة بحق، وهذا هو شأن رجالها، ثم هذه الجموع المبرورة من الشباب التي تتردد على دور هذه الجماعات أعفت نفسها من لحية المظهر الآن، حتى تبلغ الرتبة التي يجوز فيها أن تطمئن إلى إصلاح المظهر، بعد أن تكون قد أصلحت الباطن، فلا يجذبه إعفاء اللحى من الجانب النفسي والذاتي إلى كبائر موبقة من أمراض القلوب والبواطن.
إن توقير اللحية فيما نرى، ونستغفر الله، كطابع البريد لا ينبغي أن يوضع على ظرف الخطاب إلا بعد أن تكمل الكتابة، ويتم العنوان على الوجه الصحيح، وكما يجب أن يكون الخطاب تامًا، والعنوان صحيحًا، يجب أن يكون الطابع سليمًا نظيفًا لا عيب فيه.
نحن نعرف ما قال السلف والخلف بحمد الله في شؤون السنة وأقسامها، ومراتبها بين الوجوب، والندب، والاستحباب خصوصًا وعمومًا، فلسنا في حاجة إلى حمق الحمقى، ولا إلى تهور المتهورين، ولا إلى العناية بالسباب والشتم الذي ننتظره، ونعرف أنه حيلة من لا حيلة لهم من علم يحترم، أو دين يقدس، وخصوصًا هؤلاء الذين جعلوها وسيلة لتحقيق عرض الدنيا، ونحن نعرف حساسية هذا الموضوع ودقته تمامًا، ولكننا لا نستطيع أن نقبل إخراج (99%) من المسلمين من دين الله بسبب عدم إرخاء اللحى، أو أن يسود الاعتقاد بأن أهل السنة هم فقط أهل اللحى كيفما كانوا سفلًا أو علوًا.
إن الإسلام:
1- عقيدة.
2- ثم عبادة.
3- ثم أدب.
4- ثم معاملة.
5- ثم أخيرًا جدًا مظهرًا وعادة.
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أين التقوى؟ فأشار إلى صدره ثلاثًا وهو يقول: «التقوى ها هنا»، ولم يشر إطلاقًا إلى عضو آخر. ثم إن أحاديث الإخلاص وصدق النية هي الأصل الأول في دين الله، وإلا كان من أهل الجنة كل من أرخى لحيته من غير المسلمين، وزعماء الفسق، والزندقة، والشيوعية، ورجال الدعارة، والكهنوت من كل دين آخر.
لقد أسر بعض السائلين في أذني: هل حقيقة أن اللحية مفتاح الجنة؟ فمهما عمل المسلم من عمل صالح ولا لحية له فهو من أهل النار؟
قال السائل: لقد قيل لي فيما قيل: إنه لا بد إذا غسلت يدك قبل الطعام أن تأتي بأصابعك تقطر ماءً على الخبز والإدام، ولا بد أن تلعق أصابعك، أو تلعقها غيرك أو تمسحها في بطن قدمك، أو تفركها في الرمل بعد الأكل. قال: وقد فعلت هذا فكان سببًا في الشقاق بيني وبين أهلي وأصدقائي، بل كان سببًا فيما هو أكثر من ذلك من التقزز والاشمئزاز المر، حتى مع أبنائي وزوجتي وبناتي.
وقالوا لي: لا تجفف ماء الوضوء عن وجهك، وقد فعلت مرات فأصبت بعد قليل بمرض جلدي حاد، لا أزال أعالجه حتى كدت أيأس من الشفاء كما ترى.
وقالوا: لا تشرب ولا تتبول قائمًا أبدًا، مما يسبب لي حرجًا قاتلًا. وقالوا: لا تحمل المرود، والمكحلة، والعصا، وأن تترك شعرك يطول حتى يغطي قفاك، وقالوا... وقالوا... وإلا فأنت من أهل النار.
وأظن أن الدعوة إلى الله عندما يهبط بها رجل، أي رجل، إلى هذا المستوى فقد استوجب من المسلمين علاجًا عاجلًا نفسيًا، وعصبيًا أولًا، ثم علميًا وفقهيًا ثانيًا، ثم تأديبًا، ولا فقد تعين اعتقاله، ونفيه مع من رفع عنهم القلم.
أفكل هذه الموبقات العقائدية، والأخلاقية، والإعلامية المسموعة والمقرءوة، والمنظورة وغيرها لا تذكر ولا تكافح، ولا يدخل بها النار أحد إلا من أرجأ إعفاء اللحية، أو لو يعتصم بهذه الحاشيات من العادات التي كانت من ضرورات حياة العرب مواريث عاداتهم في ذلكم الوقت لأسباب وأسباب. إذا أراد رجل بالناس أن يستمسكوا بسن العادات فليأخذها كلًا لا يتجزأ في المسكن، والمطعم، والملبس، والمقام، والمظهر، والعمل، والعاملة، والمحادثة، وجميع مطالب الدنيا، ضبطًا بضبط، وتمامًا بتمام، إما أن يؤخذ البعض ويدع البعض بغير ما تعليل ولا فقه، كما هو شأن هؤلاء الناس، فقول مردود مرفوض.
وأخيرًا، فنحن لا ننكر أبدًا إعفاء اللحى ولله الحمد، بل نرجوه ونتمناه على الوجه الذي فهمناه وقدمناه، ولا نزال نعتقد أن من جمع إدراته فأصلح أمره باطنًا ابتداءً ثم أعلن بظاهره انتهاء، إنما هو بطل جدير بكل تقدير وتوقير. أما الإعفاء مجرد الإعفاء فأمر ليس هو كل السنة، ولا هو كل الدين، ولا يغني بذاته عن أصل ولا عن فرع، ولا في سنة ولا في فرض، ولا في الدين جميعًا.
ثم إن في السنة والدين ما هو أولى بالاهتمام من هذا، وفيما يحوطنا من متغيرات في غاية الخطورة أولى بالاهتمام من هذا، وفيما يفد إلينا من مذاهب وأفكار وتقاليد مخربة ما هو أولى بالاهتمام من هذا، وفي المعاصي العلنية الموبقة في مختلف المستويات وعلى مختلف الصور والأوضاع ما هو أولى من هذا.
ولن يسألنا الله عن انتشار اللحى قبل أن يسألنا عن تضييع الأصول، وتخريب العبادات والعقائد، والعمى عن مكافحة هذه الكبائر الموبقة متوطنة أو وافدة، فكرية أو عملية، ولسوف يسألنا الله عن إهادر أوقاتنا في هذا التلاحي الذي لا يأتي بخير، وإنما هو تمزيق للأمة، وتشتيت للشمل وتدمير داخلي للبناء الإسلامي المقدس ويا ليتنا مع ذلك نسلم.