1) سنة نبوية:
أجمع المسلمون في المشارق والمغارب، على اختلاف المذاهب والمشارب، أن الميت ينتفع بالدعاء والاستغفار له، والصَّدقة عليه، والحج عنه، وسداد ديونه، وصلاة الجنازة عليه، وزيارة قبره، وليس في هذا خلاف على الإطلاق.
ولكنهم اختلفوا -والاختلاف في الفروع الاجتهادية شريعة وطبيعة ستبقى إلى يوم القيامة- فيما إذا كان الميت ينتفع بقراءة القرآن له، أم لا .
ومن المسلَّمَات عند أهل العلم وعند محققي السَّلف وموثقي الخلف، والراجح في أكثرية المذاهب أن قراءة القرآن على الميت سنة نبوية ثابتة، وسنة صحابية وتابعية أكيدة، وهي قربة من أبرك القرب في الإسلام.
أمّا إنَّها سنة نبوية فالثابت الذي أخذ به السَّلف هو قراءة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الفاتحة على الميت أثناء صلاة الجنازة، وهو دليل محكم، كُنَّا استدللنا به -ولا نزال-، وهو يكفي وحده في حسم الكلام في هذا الباب، ثم إنَّ أحاديث هذا الباب كثيرة بحمد الله.
منها: ما رواه البخاري، عن طلحة رضى الله عنه قال: صليتُ مع ابن عَبَّاس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب، وقال: إنَّها من السُّنَّة([1]).
وروى الشَّافعي في مسنده، عن أبي أمامة بن سهل أنَّه أخبره رجلٌ من أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أنَّ السُّنَّة في الصَّلاة على الجنازة أن يكبر الإمام، ثُمَّ يقرأ بفاتحة الكتاب ...» إلخ([2]).
قال الحافظ في «الفتح»: وإسناده صحيح، ورواه الترمذي بنحوه، وعَلَّقَ عليه بأنه قول الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم.
ومن حججهم أيضًا: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ »([3])، وقال صلى الله عليه وسلم: «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، أو فَاتِحَةِ الْكِتَابِ»([4])، وكُلُّ هذا من أدلة سادتنا علماء الصُّوفية في قراءتهم (الفاتحة) بالذات للأموات، وبالتالي لكُلِّ قارئ قرآن على الميت لعدم الخصوصية، أو لصحة القياس، والميت في النعش كالميت في القبر، فعلا وحكما، سواء بسواء([5]).
2) وسنة صحابية وتابعية:
وأمَّا إنَّها سنة صحابية: فإنَّ ابن القيم -وهو من أول مَنْ يرجع إليهم المتسلفة- نقل عن الخَلاَّل في الجامع، قال: أخبرنا العَبَّاس بن محمد الدوري، حَدَّثَنَا يحيى بن معين، حَدَّثَنَا مبشر الحلبي، حَدَّثَني عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج، عن أبيه، قال: قال أبي: «إذا أنا مت فضعني في اللحد، وقل: بسم الله وعلى سنة رسول الله، وسن عليَّ التراب سنًّا، واقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها، فإنِّي سمعتُ عبد الله ابن عمر يقول ذلك»([6]).
3) إجازة أحمد بن حنبل:
قال عباس الدُّوري : سألتُ أحمد بن حنبل قلتُ : تحفظ في القراءة على القبر شيئًا ؟ فقال : لا، وسألتُ يحيى بن معين : فحَدَّثَني بهذا الحديث.
قال الخلاّل : وأخبرني الحسن بن أحمد الورَّاق ، قال : حَدَّثَني عليّ بن موسى الحدَّاد -وكان صدوقًا- قال: كنتُ مع أحمد بن حنبل، ومحمد بن قدامة الجوهري في جنازة، فلمَّا دُفِنَ الميت جلس رجلٌ ضرير يقرأ عند القبر، فقال أحمد: قم ؛ فإنَّ القراءة عند القبر بدعة، فلمَّا خرجنا من المقابر، قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله ، ما تقول في مبشر الحلبي !! قال: ثقة . قال : كتبتَ عنه شيئًا ؟ ، قلتُ : نعم ، قال ابن قدامة : فأخبرني مبشر، عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج ، عن أبيه، أنَّه أوصى إذا دفن أن يُقْرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها، وقال: «سمعتُ ابن عمر يوصي بذلك» ؛ فقال له أحمد: فارجع، وقل للرجل يقرأ([7]).
ثُمَّ قال ابن القيم: «وذكر الخَلاَّل عن الشَّعبي، قال: كانت الأنصار إذا مات لهم الميت اختلفوا إلى قبره يقرءون عنده القرآن»([8]) .
وقَدَّمْنَا أنَّ الميت هو الميت، سواءً كان في النعش، أو في القبر، وكُلُّ مَنْ ذكرنا أسماءهم فيما أسلفنا ثقاتٌ عدولٌ من سادة أئمة الحفظ والضبط بحمد الله.
4) مراتب رواة هذا الحديث:
فالعلاء بن اللجلاج: تابعيٌّ ثقةٌ، كما ذكره الحافظ في «تهذيب التهذيب»، وقد وثَّقَه ابنُ حِبَّان، كما وثَّقَ ولدَه عبد الرحمن، وكذلك وثَّقَ ابنُ حِبَّان مبشرًا الحلبي، ووثَّقَه ابنُ سعد وابنُ معين.
وهكذا يثبتُ بما لا مجال للشَّكِّ فيه أنَّ القراءة للميت سنة نبوية ثابتة، وسنة صحابية وتابعية ثابتة، وإنَّما البدعة كُلُّ البدعة هي القول ببدعيتها، وربما كان هذا الذي قَدَّمْنَاه وما هو منه سندًا أكبر السند لمن قال بأنَّ حديث: «اقرءوا على موتاكم يس» ونحوه، شامل لمن حضره الموت، ولمن مات بالفعل، وهو قول طائفة من السَّلف، وعلى رأسهم الإمام الصَّنْعاني، ومن فهم فهمه، وقد بيَّن وجهة نظره في كتابه «سبل السَّلام» ثُمَّ خَصَّ الموضوع برسالة سماها «ضوء النهار»، أثبت فيها أنَّ الأمر بقراءة «يس» يشمل المحتضر والميت جميعًا، و«يس» قرآن، ما يجري عليها يجري على كل سور القرآن من حيث الحكم العام، لا من حيث الخصوص الذاتي ﴿فَمَالِ هَؤُلَاءِ القَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 78].
5) توجيه حديث انقطاع العمل:
أمَّا أنَّ هذا يتنافى مع حديث انقطاع عمل الميت، فإنَّ العلم العاقل الواضح يقرر أنَّ هذا الحديث قرر انقطاع عمل الميت نفسه لنفسه، لكنه لم ينف استمرار انتفاع الميت بعمل غيره له، كالحَجِّ عنه، والدعاء له، والصدقة عليه، وسداد ديونه، وإنفاذ عهده، وصلاة الجنازة عليه، مما جاء بالنصِّ في السُّنَّة الصحيحة، وهو كثير لا خلاف عليه، ثُمَّ أليس قد ضحى الرسُول عن أمته، واستغفر لها، وكُلُّ هذا وأمثاله من عمل الغير الذي يصل ثوابه إلى المقصود به؟!
وقد أثبت ابن تيمية صحة انتفاع الميت بعمل غيره له بنحو عشرين دليلًا، فيما ذكره تلميذه ابن القيم في كتابه ((الروح)) أفلا يتدبرن؟ ﴿أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد:24].
6) توجيه آية ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾:
أمَّا آية ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39] على القول بحجيتها، وعلى أنَّها ليست حكاية عن شريعة أمَّة سابقة، كما يدلُّ عليه السياق الواضح للآيات ؛ فإنَّها تفيد ملكية العمل لصاحبه، بحيث لا يملكه سواه، ولكن هذا التملك لا يمنع الانتفاع بالمملوك للغير، كما قَرَّره ابن تيمية وعلماء الأمَّة، وفيما نقله عنه تلميذه الشيخ ابن القيم في كتاب الرُّوح وغيره.
ويقول سادتنا العلماء: «إنَّ دعوى ملكيتك لما لا تملك قضية، ودعوى انتفاعك بما لا تملك قضية أخرى» ؛ فإذا أركبك أخوك سيارته أو أسكنك عمارته فقد انتفعت بها دون أن تملكها، كما لو أعطاك قلمه أو كتابه أو جلبابه مثلًا، فأنت تنتفع به دون أن تملكه، وهكذا يظهر من الآية أن سعي ابن آدم مملوك له يجازي به؛ فلا يظلم ولا يظلم، وليس معناها أن الإنسان لا ينتفع بعمل غيره له ؛ ففرق بين لفظ ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾، وبين لفظ «ألا ينتفع الإنسان إلا بما سعى»؛ فتأمل حتى تجمع بين النصوص المختلفة !!، على طريقة أهل العلم الأبيض !!.
7) وجوه أخرى لانتفاع الميت بالقرآن:
وبهذا يتأكد انتفاع الميت بقراءة القرآن على هذا الوجه ، أو على وجه أنَّ القرآن عَمَلٌ صالحٌ، يتوسَّل الحيُّ به إلى الله في رحمة الميت، ورفع درجاته، أو على نيته ، أو رجاء جعل الثواب للميت ، كما ثبت في حديث «أن تُصَلِّي لهما مع صلاتك ، وتصوم لهما مع صيامك» ([9]) ، وكما في الحج عن الغير، أو على أيِّ وجه شرعيٍّ يتساوى مع هذا الباب، وهو واسع مفصَّل في مظانه، وإن لم يكن فيه إلا التماس البركة للحيِّ والميت واستئناس الرُّوح بالتلاوة وتنزل الملائكة والسكينة والذكر لكفى ؛ فالقرآن كما أنَّه كتاب هداية وإرشاد، فهو كتاب بركة وأسرار، ورحمة وشفاء([10]).
8) البدعة في الصورة والكيفية:
وعند القول بأنَّ البدعة موجَّهَة لا إلى القرآن، ولكن إلى الصُّورة والكيفية والتوقيت، فيكون هذا بحثًا آخر، فإنَّ ما نقصد إليه هنا: هو إثبات انتفاع الميت بقراءة القرآن له، سواء كان في النعش أو في القبر.
أمَّا أنَّ القراءة جماعية أو فردية، فالقرآن هو القرآن، وبركته هي بركته، سواء أكان على لسان الفرد أم الجماعة، لا يغير من ذلك أنَّ القارئ خالف أم لم يخالف في الصُّورة والكيف والتوقيت، فإنَّه عند التسليم بالمخالفة فإنَّما إثمه على نفسه، لا يتحكم هذا في فضل القرآن، ولا في بركته وخصيصته.
وكُلُّ هذه فروع هامشية ، والخلاف فيها طبعي جدًا ، ولكُلِّ جانب دليله ، وفي مثل هذا يأخذ الإنسان بما يرجحه ويرتاح إليه ، والأعمال بالنيات .
9) ملحقات بالموضوع:
1- جاء في بعض الآثار -موقوفًة ومرفوعًة- الترغيب في قراءة «آية الكرسي»، ثُمَّ «قل هو الله أحد» إحدى عشرة مرة أو أكثر، مع المعوِّذتين والفاتحة، عند زيارة القبور، بالإضافة إلى ما جاء في سورة «يس» كما أشرنا إليه آنفًا.
وقد سبقت الإشارة إلى مشروعية قراءة فواتح البقرة وخواتيمها.
2- وللإنسان أن يضيف إلى ذلك ما يستطيع قراءته من كتاب الله بنية جعل ثوابه للميت، وهذا يكفي، أو بأن يدعو بعد القراءة بأن يقول مثلًا: «اللهم بفضلك اجعل ثواب ما قرأته لفلان، وأسألك بما تلوتُه من آياتك أن ترحمه، وتعفو عنه، وترفع درجته في جنتك... إلخ»، ويستغني بهذه الصيغة الجامعة عن قولهم: «وهبتُ ثواب ما قرأتُ لفلان» أو «أهديتُ الثواب لفلان» ؛ ففيه أقوال فقهية مختلفة.
3- أمَّا أخذ الأجر على القراءة، فإذا قرأ القارئ لله وأعطى المعطي لله فالمرجو ألا يكون بذلك بأس ؛ ففي الحديث: «خير ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله»، وكون الحديث جاء في أمر الرُّقَي، لا يمنع أن ينسحب على مطلق القراءة، ما دامت شرعية سليمة مستوفاة الشروط؛ فالقرآن هو القرآن، هنا وهناك.
وقراءة القرآن عبادة، كخطبة الجمعة، وإمامة الصَّلاة، ودروس العلم والتعليم ، والوعظ والدعوة ، وقد أجاز العلماء أخذ الأجرة في مقابل الانقطاع لها وخدمتها بلا خلاف، حتى لا تهمل أو تنسى أو تنقرض، أو يعفي عليها الزمان بشكل أو بآخر، وكذلك شأن الانقطاع لخدمة القرآن تلاوًة أو تعليمًا، وبخاصة في هذا الزمان بما فيه من (العلمانية والشيوعية والإلحاد).
أمَّا المفاصلة والاشتراط قبل القراءة فمنوع، وليكن معلومًا بأن الأجر ليس على الألفاظ والكلمات القرآنية، ولكن على الجهد والوقت المبذول من أجلها؛ فكلام الله لا يقدر بثمن مهما بلغ قدره، وكذلك بقية ما ذكرنا من العبادات والقربات.
([6]) انظر: الروح لابن القيم (ص10)، قال شيخنا الإمام الرائد رحمه الله تعالى: «وفي المختصر النفيس في فقه الشافعي محمد بن إدريس (1: 2: 3): «أوصى سيدنا عمر بن الخطاب ت أن يقرأ عند رأسه إذا دفن فاتحة الكتاب، وختام سورة البقرة»، وقد ثبت علميًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم صَلَّى على بعض الصحابة في قبورهم، ومن أشهرهم تلك السيدة التي كانت تخدم مسجده صلى الله عليه وسلم .
([7]) كتاب الروح لابن القيم (ص10). وقد روى الطبراني في معجمه الكبير (19/220) عن العلاء بن اللجلاج، عن أبيه قال: قال لي أبي: يا بني إذا أنا مت فألحدني، فإذا وضعتني في لحدي فقل: بسم الله، وعلى ملة رسول الله، ثم سن علي الثرى سنًا، ثم اقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك». قال الحافظ نور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد (3/414): «رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون» .