وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن اللّهَ تعالى كتَبَ الحَسَناتِ والسَّيِّئات، فمَنْ همَّ بِحَسنةٍ فلمْ يعْمَلْها كتَبها اللّهُ عندَه حسَنةً كاملةً وإنْ همَّ بها فعَملَها كتَبها اللّهُ عشْرَ حسَناتٍ إلى سَبْعِمئة ضعْفٍ إلى أضْعافٍ كثيرةٍ».
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الجيش الذين يقصدون الكعبة: «يُخْسَفُ بأوَّلهمْ وآخرِهم». فقالتْ عائشةُ رضيَ الله تعالى عنها: يا رسولَ اللّهِ كيفَ يخْسفُ بأوَّلهمْ وآخرِهم وفيهمْ أشرافٌ، ومَنْ ليْسَ منهمْ؟ فقال: «يُخْسفُ بأوَّلهم وآخرِهمْ ثم يُبعثُونَ على نيَّاتهم».
وثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا هِجْرة بعدَ الفَتْح ولكنْ جِهادٌ ونيَّةٌ».
قلت: اختلف أصحابنا وغيرهم من العلماء في معنى لا هجرة بعد الفتح فقيل: معناه لا هجرة من مكة إذ صارت دار إسلام. وقيل: لا هجرة بعد الفتح كاملة الفضل. وأما الهجرة من دار الكفار اليوم فواجبة وجوبًا متأكدًا على من قدر عليها إذا لم يقدر على إظهار دين الإسلام هناك فإن قدر استحب ولا يجب؛ والله تعالى أعلم.
وروينا عن السيد الجليل أبي ميسرة عمر بن شرحبيل التابعي الكوفي الهمذاني بإسكان الميم وبالدال المهملة رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا أخذ عطاءه تصدق منه فإذا جاء إلى أهله فعده وجدوه سواء فقال لابن أخيه: ألا تفعلون مثل هذا؟ فقالوا: لو علمنا أنه لا ينقص لفعلنا. قال أبو ميسرة: إني لست أشرط هذا على ربي عز وجل. وقال إمامنا أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله: خير الدنيا والآخرة في خمس خصال غنى النفس وكف الأذى وكسب الحلال ولباس التقوى والثقة بالله عز وجل على كل حال.
وروينا عن السيد الجليل حماد بن سلمة رحمه الله وكان يعد من الأبدال قال: من طلب الحديث لغير الله تعالى مكر([1]) به. وقال أحمد بن أبي الحواري السيد الجليل في كتاب «الزهد» الذي صنفه وسترى ما أنقل من النفائس إن شاء الله تعالى ولم يحصل إلى الآن إسناده ولكن عندي منه نسخة جيدة محققة متقنة ذكر لي بعض أهل العلم والخبرة أنها بخط الدارقطني رحمه الله. قال أحمد حدثنا إسحاق بن خلف قال حدثنا حفص بن غياث قال: كان عبد الرحمن بن الأسود رضي الله تعالى عنه لا يأكل الخبز إلا بنية. قلت لإسحاق: وأي شيء النية في أكل الخبز؟ قال: كان يأكل فإذا ثقل عن الصلاة خفف ليخف بها فإذا خفف ضعف فأكل ليقوى فكان أكله لها وتركه لها. قلت: معنى يخف أي ينشط وتسهل عليه ويلتذ بها. وأحمد ابن الحواري يقال بفتح الراء وبكسرها والكسر أشهر والفتح سمعته مرات من شيخنا الحافظ أبي البقاء يحكيه عن أهل الإتقان وعن بعضهم. والله تعالى أعلم.
وقال أحمد بن أبي الحواري سمعت أبا سليمان يعني الداراني رحمه الله يقول: عاملوا الله بقلوبكم معناه طهروا قلوبكم وصفوها وهذبوها ولا تخلوا شيئًا من الأعمال الظاهرة. والداراني يقال بالنون بعد الألف الثانية. ويقال بهمزة بدل النون وهو بالنون أشهر وأكثر استعمالًا. والهمز أقرب إلى الأصل وهو منسوب إلى دارنا القرية الكبيرة النفسية بجانب دمشق. وكان أبو سليمان من كبار العارفين وأصحاب الكرامات الظاهرة والأحوال الباهرة والحكم المتظاهرة واسمه عبد الرحمن بن أحمد بن عطية وسيمر بك إن شاء الله تعالى جمل ما أنقله عنه من النفائس وهو أحد متأخري بلادنا دمشق وما حولها رضي الله تعالى عنه قال: ما أدرك ما عندك من أدرك بكثرة صلاة ولا صوم ولكن بسخاء([2]) النفس وسلامة الصدر والنصح للأمة. وقال إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه: من أراد أن يقضي الله تعالى له بالخير فليحسن الظن بالناس. أخبرنا شيخنا الإمام الحافظ أبو البقاء بقراءتي عليه قال أخبرنا الحافظ عبد الغني إجازة أخبرنا أبو طاهر السلفي أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد الدوني قال سمعت أبا الحسن علي بن محمد الأسدآبادي أخبرنا علي بن الحسين بن علي أخبرنا أبو منصور يحيي بن أحمد المروزي قال سمعت أبا العباس أحمد بن منصور قال سمعت أبا طاهر محمد بن الحسين بن ميمون يقول سمعت أبا موسى هارون بن موسى يقول قال أبو حاتم محمد ابن إدريس سمعت أبا قبيصة يقول: رأيت سفيان الثوري في المنام فقال: ما فعل الله تعالى بك فقال:
نظرت إلى ربي كفاحا فقال لي |
* | هنيئا رضائي عنك يا ابن سعيد |
لقد كنت قواما إذا أظلم الدجا |
* | بعبرة مشتاق وقلب عميد |
فدونك فاختر أي قصر أردته |
* | وزرني فإني منك غير بعيد |
قلت: السلفي بكسر السين المهملة وفتح اللام منسوب إلى جده يقال له سلفة كان هذا الجد مشقوق الشفة فقلب بالفارسية سيه لفة بكسر السين وفتح اللام؛ أي ذو ثلاث شفاه ثم عربت فقيل سلفة. وكان أبو طاهر السلفي أحد حفاظ عصره, وأما الدوني بضم الدال وإسكان الواو فمنسوب إلى الدون قرية بخراسان من أعمال الدينور, وأما الأسدآبادي فمنسوب إلى بني ثور بن عبد مناف بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان, وأما قوله: نظرت إلى ربي كفاحًا فهو بكسر الكاف. ومعناه: معاينة من غير حجاب ولا رسول. وقوله: إذا أظلم الدجا هو الظلام. وقوله: عميد؛ أي محب صادف الحب لله. قال أهل اللغة: العميد القلب الذي هزه العشق.
أخبرنا شيخنا الإمام الحافظ أبو البقاء رحمه الله أخبرنا أبو محمد عبد العزيز ابن معالي أخبرنا القاضي أبو بكر الخطيب أخبرنا أبو الفتح محمد بن أحمد بن أبي الفوارس أخبرنا محمد بن أحمد الوراق قال سمعت عبد الله بن سهل الرازي يقول سمعت يحيي بن معاذ الرازي رضي الله تعالى عنه يقول: كم من مستغفر ممقوت وساكت مرحوم هذا استغفر الله وقلبه فاجر وهذا ساكت وقلبه ذاكر. وبالإسناد إلى الخطيب قال حدثنا أبو الحسن الواعظ قال سمعت أبا عبد الله أحمد بن عطاء الروزبادي رحمه الله يقول: من خرج إلى العلم يريد العلم به نفعه قليل العلم. وبهذا الإسناد قال أبو عبد الله بن عطاء: العلم موقوف على العمل به. قلت: يعني العلم النافع المطلوب كما قال إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه: ليس العلم ما حفظ. العلم ما نفع. وأخبرنا شيخنا أبو البقاء أخبرنا أبو محمد أخبرنا أبو بكر أخبرنا الخطيب أخبرنا علي ابن محمود الصوفي أخبرنا عبد الوهاب بن الحسن الكلابي حدثنا سعيد بن عبد العزيز الحلبي قال: سمعت قاسمًا الجوعي رضي الله تعالى عنه يقول: الدين الورع, فأفضل العبادة مكابدة الليل. وأفضل طريق الجنة سلامة الصدر. قلت: الجوعي بضم الجيم وإسكان الواو. وقال الإمام الحافظ أبو سعيد السمعاني في كتاب «الأنساب»: قاسم الجوعي هذا له كرامات منسوب إلى الجوع. قال: ولعله كان يبقى جائعًا كثيرًا. وأخبرنا شيخنا أبو البقاء أخبرنا أبو محمد أخبرنا أبو بكر أخبرنا الخطيب أخبرنا أحمد بن الحسين ابن السماك قال سمعت أبا بكر الدقي قال سمعت أبا بكر الزقاق رضي الله تعالى عنه يقول: بني أمرنا هذا على أربع لا نأكل إلا على فاقة ولا ننام إلا عن غلبة ولا نسكت إلا عن خيفة([3]) ولا نتكلم إلا عن وجد. (قلت) الدقي بضم الدال وإسكان القاف المشددة وهو من كبار الصوفية وأهل المعارف والكرامات توفي سنة ستين وثلاثمئة. وأما الزقاق فبفتح الزاي وتشديد القاف. قال السمعاني: هو نسبة إلى الزق وعمله وبيعه. كان أبو بكر الزقاق هذا من كبار الصوفية أصحاب الكرامات الظاهرات والمعارف المتظاهرات وبهذا الإسناد إلى الزقاق قال: كل أحد ينسب إلى نسب إلا الفقراء فإنهم ينسبون إلى الله عز وجل وكل حسب ونسب ينقطع إلا حسبهم فإن نسبهم الصدق وحسبهم الفقر، وبلغنا عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فيما رواه البيهقي رحمه الله بإسناده عن يونس بن عبد الله وقيل: ابن عبد الأعلى قال: قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: يا أبا موسى لو اجتهدت كل الجهد على أن ترضي الناس كلهم فلا سبيل إليه فإن كان كذلك فأخلص عملك ونيتك لله عز وجل.
وأخبرنا شيخنا أبو البقاء أخبرنا أبو محمد أخبرنا أبو بكر أخبرنا الخطيب أخبرنا أحمد بن الحسين الواعظ قال سمعت أبا بكر الطرسوسي يقول سمعت أبا بكر بن شيبان يقول سمعت أبا عبد الله المغربي يقول: صوفي بلا صدق الروزجار أحسن منه([4]) قلت: هو براء مضمومة، ثم واو ساكنة، ثم زاي، ثم جيم، ثم ألف، ثم راء وهو الذي يعمل في الطين بالمجرفة ونحوها.
وروينا بأسانيد متعددة عن مقاتل بن صالح الخراساني قال: دخلت على حماد بن سلمة رضي الله تعالى عنه فإذا ليس في البيت -بيته- إلا حصير وهو جالس عليه ومصحف يقرأ فيه وجراب فيه علمه ومطهرة يتوضأ فيها فبينا أنا عنده إذ دق داق الباب فقال: يا صبية اخرجي انظري من هذا قالت: هذا رسول محمد بن سليمان. قال: قولي له يدخل وحده. فدخل وسلم وناوله كتابًا فقال: اقرأه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن سليمان إلى حماد بن سلمة أما بعد فصبحك الله بما صبح به أولياءه وأهل طاعته وقعت مسألة فإنا نسألك فيها. فقال: يا صبية هلمي بالدواة ثم قال: اكتب في ظهر الكتاب:
أما بعد: فأنت صبحك بما صبح به أولياءه وأهل طاعته أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحدًا فإن وقعت مسألة فائتنا فتسألنا عما بدا لك وإن أتيتني فلا تأتني إلا وحدك ولا تأتني بخيلك ورجلك فلا أنصحك ولا أنصح نفسي والسلام. فبينا أنا عنده جالس إذ دق داق الباب فقال: يا صبية اخرجي انظري من هذا فقال: محمد بن سليمان. قال: قولي له يدخل وحده. فسلم ثم جلس بين يديه فقال: ما لي إذا نظرت إليك امتلأت رعبًا؟ فقال حماد: سمعت ثابتًا يعني البناني يقول: سمعت أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «العالم إذا أراد بعلمه وجه الله تعالى هابه كل شيء وإذا أراد يكثر به الكنوز هاب من كل شيء». فقال: ما تقول يرحمك الله في رجل له ابنان وهو عن أحدهما أرضى فأراد أن يجعل له في حياته ثلثي ماله. فقال: لا ويرحمك الله فإني سمعت ثابتًا البناني يقول: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عز وجل إذا أراد أن يعذب عبدًا بماله وفقه عند موته لوصية جائرة». قال: فحاجة. قال: هات ما لم تكن رزية في دين الله. قال: أربعين ألف درهم تستعين بها على ما أنت عليه. قال: ارددها على من ظلمته بها. قال: والله ما أعطيتك إلا ما ورثته. قال: لا حاجة لي فيها. قال: اروها عني روى الله عنك أوزارك. قال: فغير هذا. قال: هات ما لم يكن رزية في دين الله. قال: تأخذها فتقسمها. قال: فلعلي إن عدلت في قسمتها أن يقول بعض من لم يرزق منها أنه لم يعدل في قسمتها فيأثم اروها عني روى الله عنك أوزارك قلت(1): ما أحسن([5]) هذه الحكاية وما أحسن فوائدها وما جمعت من النفائس والتنبيه على قواعد مهمة وهي بارزة لا تحتاج إلى التنصيص عليها ولكن فيها أحرف من اللغة نضبطها وإن كانت معروفة صيانة لها. فقوله: ومصحف يقرأ فيه يقال: مصحف بضم الميم وكسرها وفتحها ثلاث لغات الضم أفصح وقد أوضحتها وبينت أصولها واشتقاقها في كتاب «تهذيب الأسماء واللغات». وقوله: جراب هو بكسر الجيم وفتحها لغتان والكسر أجود. وقوله: مطهرة هي بكسر الميم وفتحها لغتان وهي كالإبريق والركوة وغيرهما مما يتطهر به. وقوله: هلمي بمعنى أعطيني وهذه إحدى اللغتين، والأخرى هلم للرجل والمرأة والمثنى والمجموع وهي أفصح وبها جاء القرآن قال الله عز وجل ﴿هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ﴾ [الأنعام:150]. و﴿هَلُمَّ إِلَيْنَا﴾ [الأحزاب:18].
وقوله هات هو بكسر التاء بلا خلاف. أخبرنا شيخنا الحافظ أبو البقاء بقراءتي عليه أخبرنا الحافظ عبد الغني إجازة أخبرنا محمد بن عبد الباقي أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الخطيب أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران أخبرنا الحسين بن صفوان حدثنا عبد الله بن محمد حدثني أبو عبد الله التميمي عن أبيه قال رأيت حماد بن سلمة في النوم فقلت: ما فعل بك ربك؟ قال: خيرًا. قلت: ماذا؟ قال: قال لي طالما كَدَّت نفسك فاليوم أطيل راحتك وراحة المتعوبين من أجلي بخ بخ ماذا أعددت لهم.
([1]) قوله: مكر به لأن العلم شبيه بالأسد الغضنفر والحديث الذي هو لب العلم يقال الضرغام الفاتك من السباع ولا يمكن الاستيلاء على هذا الأسد إلا بمعونة الله تعالى وتمهيد وصولها للمرء أن يتقي الله وتخلص النية حتى يستطيع أن يركب الأسد أو يجعله تحت قهره وسلطانه ومع هذا فإنه لو غلبه يحتاج أيضًا إلى المراقبة الشديدة لأن إغفال الأسد وإهماله يساعده على نقض الاستسلام فيفتك بصاحبه فيقتله وهذا ما أراده حماد بن سلمة رحمه الله من أن الحديث يمكر بطالبه لغير الله تعالى.
([2]) قوله: بسخاء النفس وذلك لأن الصلاة باعثة للمرء على فعل الأعمال المرضية واجتناب الأعمال المذمومة قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت:45]. فسخاء النفس لا يجتمع إلا مع الصلاة ولا يرد على خاطرك أن كثيرًا من تاركي الصلاة عندهم نصح وسخاء نفس وسلامة صدر؛ فاعلم وتأكد بأن عمله لذلك غش للناس ليخدعهم فيؤثر على عقولهم وأموالهم أو يكتفي منهم بالمدح والثناء وإلا لو كان أراد وجه الله تعالى بعمله لكان أطاعه فهو لك فإن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء:103]. ولا يخلو عمل المرء من أن يكون إما لوجه الله فمن ادعاه مع ترك الصلاة فهو كاذب لأن الوصول لإرادة الله لا تحصل بعصيانه وإما لأجل الناس وهذا ليس بسخاء وإنما هو كالصياد الذي يضع الطعم ليصطاد به وأما إذا كان لا يريد الدين ولا الدنيا فذلك آلة مسخرة لا يوصف عمله بالمدح والثناء؛ فإذن لا شك أن مراده من كثرة الصلاة ما كانت على غير وجهها لأن الصلاة هي منبع الفضائل والدرج الذي يرقى به إلى الكمالات الدنيوية والأخروية.
([3]) قوله: «إلا عن خيفة»؛ أي إذا شرع في الكلام لا يبالي من غضب المخاطب أو رضائه فيصدع بالحق ولا يسكت إلا إذا خاف على مخاطبه من أن يضل ويزيغ أو خاف على نفسه أن يتسلط عليها الرياء والعجب فيصيبه من المرض أكثر مما أراد به معالجة غيره وهذا هو معنى الخيفة كي لا تغر المرء نفسه فيندفع بسرد الأقوال ويكون هو الضحية كالشمع يضيء على غيره ويحترق هو إذ يجوز ألَّا يصدق المثل فلا ينفع وعظه وتكون كصيحة في واد أو نفخة في رماد. وقوله: لا يتكلم إلا عن وجد بحيث يضطر للكلام فيجعله من قبيل العلاج لا يزيد على القدر اللازم فالمراد من الوجد أن يتحقق بما يقول فلا يكون مقلدًا لغيره في الخطاب بل يفهم القول ويعلمه ليستطيع التعبير عنه ويكون أبلغ في التأثير على النفوس.
([4]) قوله: أحسن من أفضل التفضيل على غير بابه لأن الذي يعمل بالمجرفة ينفع الناس في الدنيا وإن أخلص في عمله نفع في الآخرة أيضًا، وأما الصوفي بلا صدق فإنه لا حسن فيه أصلًا؛ لأنه بعد عن الآخرة ولا فائدة فيه للناس لأنه نقمة وبلاء عليهم، وإنما هو صياد مهيئ شبكته وناصب شراكه ليوقع بها الناس فهو لم يكسب دينًا ولا دنيا خسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين. وفي حديث عبد الله بن جراد قال: يا نبي الله هل يكذب المؤمن؟ قال: «لا». ثم أتبعها صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللهِ﴾ [النحل:105]. رواه ابن عبد البر في «التمهيد».
([5]) ويرحم الله القاضي أبا الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني حيث يقول:
يقولون لي فيك انقباض وإنما
|
* | رأوا رجلا عن موقف الذل احجما |
أرى الناس من داناهم هان عندهم |
* | ومن أكرمته عزة النفس أكرما |
وإني إذا ما فاتني الأمر لم أكن |
* | أقلب كفي إثره متندما |
ولم أقض حق العلم إن كان كلما |
* | بدا مطمع صيرته لي سلما |
وما كل برق لاح لي يستفزني |
* | ولا كل من في الأرض أرضاه منعما |
إذا قيل هذا منهل قلت أرى |
* | ولكن نفس الحد تحتمل الظما |
أنهنها عن بعض ما لا يشينها |
* | مخافة أقوال العدا فيم أو لما |
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي |
* | لأخدم من لاقيت لكن لأخدما |
أشقى به غرسا وأجنيه ذلة |
* | إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما |
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم |
* | ولو عظموه في النفوس لعظما |
ولكن أهانوه فهان ودنسوا |
* | محياه بالأطماع حتى تهجما |