أما الكرامات: فتقدم بيان حدها. وأما المواهب: فجمع موهبة، وهي أمر ليس بخارق للعادة، ولكنه قليل مستبعد في العادة، يتميز به بعض الناس، ولا يختص ذلك بالأولياء بل يكون لهم ولغيرهم، وأنا أذكر في هذا الباب جملًا من الكرامات والمواهب المستحسنة إن شاء الله تعالى. قال الله تعالى: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [هود:120]. وقال الله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام:90].
أخبرنا شيخنا الشيخ الإمام الصالح القاضي أبو محمد عبد الرحمن بن الشيخ الإمام الصالح أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة قال حدثنا أبو جعفر عمر بن محمد بن معمر بن طبرزد قال حدثنا أبو الفتح عبد الملك بن أبي القاسم الكروخي قال حدثنا أبو عامر محمود بن القاسم بن محمد الأزدي وأبو بكر أحمد بن عبد الصمد الخزرجي، وأبو نصر عبد العزيز بن عمر الرفاني قال حدثنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد بن عبد الله بن الجراح الجراحي قال حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد بن محبوب المحبوبي قال حدثنا الإمام أبو عيسى الترمذي قال حدثنا عمران بن حفص حدثنا عبد الله بن وهب عن عمر بن الحارث عن دراج عن أبي القاسم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لن يشبع المؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة». قال الترمذي: حديث حسن.
وبهذا الإسناد إلى الترمذي قال حدثنا علي بن حجر قال حدثنا مسلمة بن عمرو قال كان عمر بن هانئ يصلي كل يوم ألف سجدة يعني ألف ركعة ويسبح مئة ألف تسبيحة. أخبرنا شيخنا أبو البقاء الحافظ قال حدثنا أبو محمد حدثنا أبو بكر حدثنا الخطيب حدثنا الحسن بن محمد البزار حدثنا محمد بن جعفر الآدمي حدثنا محمد بن موسى الشطوبي حدثنا هارون بن معروف حدثنا ضمرة عن عثمان عن عطاء عن أبيه قال: قالت امرأة أبي مسلم -يعني الخولاني-: يا أبا مسلم ليس لنا دقيق. قال: عندك شيء؟ قالت: درهم بعنا به غزلًا. قال: أبعينيه أي أعطينيه وهاتي الجراب. فدخل السوق فوقف على رجل يبيع الطعام، فوقف عليه سائل وقال: يا أبا مسلم تصدق علي، فهرب منه وأتى حانوتًا آخر، فتبعه السائل، فقال: تصدق علينا. فلما أضجره أعطاه الدرهم، ثم عمد إلى الجراب فملأه من نحاتة النجارين مع التراب، ثم أقبل إلى باب منزله فنقر الباب، وقلبه مرعوب من أهله، فلما فتحت الباب رمى بالجراب وذهب. فلما فتحته إذا هي بدقيق حواري، فعجنت وخبزت، فلما ذهب من الليل الهوى، جاء أبو مسلم فنقر الباب، فلما دخل وضعت بين يديه خوانا وأرغفة حواري. فقال: من أين لكم هذا؟ فقالت: يا أبا مسلم من الدقيق الذي جئت به. فجعل يأكل ويبكي. قلت: ما أنفس هذه الحكاية وأكثر فوائدها. قوله: الجراب بفتح الجيم وكسرها. لغتان الكسر أفصح. قوله: الحواري هو بضم الحاء المهملة وتشديد الواو وفتح الراء وتخفيف الياء، وهو الأشهر. وقوله: الهوي هو بكسر الواو وتشديد الياء. وأما الهاء فتفتح وتضم لغتان الفتح أفصح وأشهر، هو قطعة في الليل قبل نحو ربعه أو ثلثه. وقوله: خوانًا هو بضم الخاء وكسرها، لغتان الكسر أفصح وأشهر، وهو عجمي معرب، وجمعه أخونة وخون. وأما أبو مسلم صاحب هذه الكرامة، فاسمه: عبد الله بن ثوب، بثاء مُثَلَّثَةٍ مضمومة، ثم واو مفتوحة مخففة، ثم باء موحدة. ويقال: ابن ثواب، ويقال: ابن أثوب، ويقال: ابن عبد الله، ويقال: ابن عوف، ويقال: ابن يسلم، ويقال: اسمه يعقوب بن عوف والصحيح المشهور ما قدمناه. وهو من أهل اليمن سكن الشام بداريا بالقرية المعروفة بجانب دمشق، وكان من كبار التابعين وعبادهم وصالحهم، وأهل الكرامات الظاهرات، والأحوال السنية المتظاهرات. وكان قد رحل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الطريق، فجاء ولقي أبا بكر الصديق، وعمر، وغيرهما من الصحابة. ومن نفائس كراماته ما رواه الإمام أحمد بن حنبل في كتاب الزهد له: أن أبا مسلم الخولاني مر بدجلة وهي ترمي الخشب من برها، فمشى على الماء ثم التفت إلى الصحابة فقال: هل تفقدون من متاعكم شيئًا فتدعوا الله عز وجل؟ ورواه من طريق آخر، وفيه أنه وقف على دجلة، ثم حمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم ذكر آلاءه، وذكر سير بني إسرائيل في البحر، ثم نهر دابته فانطلقت تخوض في دجلة، واتبعها الناس حتى قطعها الناس. وبإسناد الإمام أحمد أيضًا: أن أبا مسلم كان بأرض الروم، فبعث الوالي سرية، ووقت لهم وقتًا، فأبطئوا عن الوقت، فاهتم أبو مسلم بإبطائهم، فبينما هو يتوضأ على شط نهر وهو يحدث نفسه في أمرهم إذ وقع غراب على فأرة مقابلة فقال: يا أبا مسلم اهتممت بأمر السرية؟ فقال: أجل. فقال: لا تهتم فإنهم قد غنموا وسيردون عليكم يوم كذا في وقت كذا. فقال له أبو مسلم: من أنت يرحمك الله؟ فقال: أنا مفرح قلوب المؤمنين. فجاء القوم في الوقت الذي ذكر على ما ذكر. وبإسناد أحمد: أن أبا مسلم كان جالسًا مع أصحابه في أرض الروم يحدثهم، فقالوا: يا أبا مسلم قد اشتهينا اللحم فلو دعوت الله تعالى فرزقنا. فقال: اللهم قد سمعت قولهم، وأنت على ما سألوا قادر. فما كان إلا أن سمعوا صياح العسكر، فإذا بظبي قد أقبل حتى مر بأصحاب أبي مسلم فوثبوا إليه فأخذوه. وبإسناد أحمد: أن الناس قحطوا على عهد معاوية، فخرج يستسقي بهم، فلما وصلوا إلى المصلى قال معاوية لأبي مسلم: قد ترى ما حل بالناس فادع الله تعالى. قال: أفعل على بعض شرط. فقام وعليه برنس، فكشف البرنس عن رأسه، ثم رفع يديه ثم قال: اللهم إنا منك نستمطر، وقد جئت إليك بذنوبي، فلا تخيبني عندك لي خير فاقبضني إليك وكان ذلك يوم الخميس فمات أبو مسلم يوم الخميس المقبل رضي الله تعالى عنه. وبإسناد الحافظ إلى طاهر السلفي عن شرحبيل بن مسلم أن الأسود بن قيس العنسي الكذاب، لما ادعى النبوة باليمن بعث إلى أبي مسلم الخولاني فلما جاءه قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: ما أسمع؟ قال: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم. فردد ذلك عليه، فأمر بنار عظيمة فأججت، فألقى فيها أبا مسلم فلم تضره. فقيل: انفه عنك وإلا أفسد عليك من تبعك. فأمره بالرحيل. فأتى أبو مسلم المدينة وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فأناخ أبو مسلم راحلته بباب المسجد، فقام يصلي إلى سارية، فبصر به عمر، فقام إليه، فقال: ممن الرجل؟ فقال: من أهل اليمن، قال: فلعلك الذي حرقه الكذاب بالنار؟ قال: ذلك عبد الله بن ثوب. قال: نشدتك الله أنت هو؟ قال: اللهم نعم، فاعتنقه ثم بكى، ثم ذهب به حتى أجلسه فيما بينه وبين أبي بكر فقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم صلى الله عليه وسلم خليل الرحمن. قلت: هذا من أجل الكرامات، وأنفس الأحوال الباهرات. وقوله: لا أسمع. يحتمل وجهين: أحدهما: معناه: لا أقبل. الثاني: أنه على ظاهره وأن الله تعالى سد مسامعه عن هذا الباطل الشديد الفحش. وقد اقتصر بعض الأئمة على الاحتمال الأول، والاحتمال الثاني عندي أظهر. وقال أحمد بن أبي الحواري في كتاب الزهد له: حدثني سليمان: كان عبد الواحد بن زياد رضي الله تعالى عنه، أصابه الفالج فسأل الله عز وجل أن يطلقه في أوقات الوضوء، فكان إذا كان وقت الوضوء قام من سريره حتى يذهب فيتوضأ، فإذا عاد إلى سريره عاد إليه الفالج والله أعلم. وروينا بإسنادنا السابق للقشيري -رحمه الله- قال: سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: دخلنا تُسْتَر فرأينا في قصر سهل بن عبد الله -رحمه الله- بيتًا كان الناس يسمونه بيت السباع، فسألنا الناس عن ذلك فقالوا: كانت السباع تجيء إلى سهل فكان يدخلها هذا البيت ويضيفها ويطعمها اللحم ثم يخليها. قال أبو نصر: ورأيت أهل تستر كلهم متفقين على هذا وهم الجمع الكثير. وبه إلى القُشَيْرِي قال: سمعت أحمد بن محمد اليمني يقول: سمعت عبد الله بن علي الصوفي يقول سمعت حمزة بن عبد الله العلوي يقول: دخلت على أبي الخير التيناتي رحمه الله وكنت اعتقدت في نفسي أن أسلم عليه وأخرج ولا آكل عنده طعامًا، فلما خرجت من عنده ومشيت قدرًا، وإذا به أتى خلفي وقد حمل طبقًا عليه طعام وقال: يا فتى، كل هذا، فقد خرجت الساعة من اعتقادك. قال: وأبو الخير هذا مشهور بالكرامات.
حكي عن إبراهيم الرقي قال: قصدته مسلمًا عليه، فصلى المغرب فلم يقرأ الفاتحة مستويًا، فقلت في نفسي: ضاعت سفرتي. فلما سلمت خرجت للطهارة فقصدني السبع، فعدت إليه وقلت: إن الأسد قصدني، فخرج وصاح على الأسد وقال: ألم أقل لك لا تتعرض لضيفاني. فتنحى وتطهرت، فلما رجعت قال: اشتغلتم بتقويم الظواهر فخفتم الأسد، واشتغلنا بتقويم القلب فخافنا الأسد. قلت: قد يتوهم من يتشبه بالفقهاء ولا فقه عنده أن صلاة أبي الخير هذا كانت فاسدة لقوله: لم يقرأ الفاتحة مستويًا. وهذه جهالة وغباوة ممن يتوهم ذلك، وجسارة منه على إرسال الظنون في أولياء الرحمن. فليحذر العاقل من التعرض لشي من ذلك، بل حقه إذا لم يفهم حكمهم المستفادة، ولطائفهم المستجادة، أن يتفهمها ممن يعرفها، وكل شيء رأيته من هذا النوع مما يتوهم من لا تحقيق عنده أنه مخالف ليس بمخالف مخالفًا، بل يجب([1]) تأويل أفعال أولياء الله تعالى، وجواب هذا من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه جرى منه لحن لايخل بالمعنى ومثل هذا لا يفسد الصلاة بالاتفاق. الثاني: أنه مغلوب على ذلك بخلل في لسانه فتصح صلاته بالاتفاق. الثالث: أنه لو لم يكن له عذر، فقراءة الفاتحة ليست بمتعينة عند أبي حنيفة وطائفة من العلماء، ولا يلزم هذا الولي أن يتقيد بمذهب من أوجبها، ورأيته بخط الشيخ رضي الله تعالى عنه.
([1]) قوله: يجب تأويل أفعال أولياء الله ومن أين لنا أن نعرف أنهم أولياء الله ما داموا لا يحسنون العبادة ولا يؤدون الصلاة على الوجه المشروع وكيف يجوز لنا ترك الشريعة لأجل شخص يدعي الولاية والقرب من ربه ولا يعرف تأدية ما أمر به من العبادة؟ ولا أدري ماذا أقول والمصنف من أركان مذهب الشافعي وأهل الترجيح؟ الذي تميل إليه النفس أن هذه العبارة مدسوسة على النووي رحمه الله؛ لأن الأجوبة التي أتى بها غير كافية. فأما الجواب الأول وهو كونه لا يخل المعنى فإن كان عامدًا فقد استخف بكلام الله ولم يهتم بحفظ أم الكتاب وفاتحته، وإن كان غير عامد فلا يصلح للولاية من لم يتعلم قراءة فاتحة الكتاب. وأما الجواب الثاني وهو دعوى وجود خلل بلسانه فإنه غير واف بالمرام؛ لأن مثل هذا لا يعترض عليه العامي فضلًا عن أهل العلم إذ ليس في مقدوره أن يقوم لسانه. وأما الجواب الثالث فإنه بعيد عن الحقيقة؛ لأن مذهب أبي حنيفة وإن لم يقل بفرضية قراءة الفاتحة فقد قال بوجوبها وأن إعادة الصلاة واجبة في الوقت إذا لم يقرأْهَا وأنه آثم بتركها لارتكابه كراهية التحريم التي هي أقرب استفادة من شهرة المؤلف العلمية لتكون لجهلة المتصوفة ردءًا وحجة. والحق أن الاعتراض على كل ما خالف الشرع لا بد منه ولا ينفعهم التملص من مخالفة المشروع متمسكين بحبل موهوم. الولاية هي تقوى الله وعبادته فعدم تأديتها على الوجه اللائق لا يتناسب مع دعوى الولاية وعليه أن يتعلم أمور دينه ولو أراد الله به خيرًا لعلمه كيف يعبده فقد جاء في الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ يُرِدِ الله بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ». رواه الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه.