اعلم أن هذا الباب وإن لم يكن من أبواب الزهد فهو مما تستريح النفس به إذا ملت. وكان الزاهد قد يحتاج إلى أحاديثَ غيره مما لا يؤثر في الزهد ولا يفهم كثيرًا، فربما يتحدثوا في أمور الناس وانجر بهم الكلام، إلى الحديث في حرام من غيبة ونحوها. فإذا اشتغلوا بهذا انبعثت نفوسهم لسماعه واشتغلوا به عن غيره من القبيح، ومع هذا فلا تخلو هذه الحكايات التي أذكرها إن شاء الله تعالى من فوائد ينتفع بها طالب الآخرة، وبالله التوفيق. روينا عن أبي حاتم الرازي الإمام أحد أركان الحديث قال: حضرت مجلس سليمان بن حرب -رحمه الله- ببغدادَ، فحزروا من حضر مجلسه أربعين ألف رجل. وكان مجلسه عند قصر المأمون، فبني له منبر وصَعِدَ سليمان وكان المأمون فوق قصره، وقد فتح باب القصر، وقد أرسل سترًا وهو خلفه يكتب ما يملي سليمان. فسئل عن أول شيء حدثت حوشب بن عقيل فلعله قد قال: حدثنا حوشب بن عقيل، أكثر من عشر مرار، وهم يقولون: لا تسمع حتى قالوا: ليس الرأي إلا أن يحضر المستملي، فذهب جماعة فأحضروه فلما حضر قال: من ذكرت؟ فإذا صوته خلاف الرعد. فسكتوا وقعد المستملون كلهم واستملى هارون، قال أبو حاتم: لا يسأل عن حديث إلا حدث من سمعه. وذكر أبو سعيد السمعاني: أنه كان يحضر مجلس إملاء الإمام القاضي أبو عبد الله المحاملي عشرة آلاف رجل. رأيت بخط الشيخ رحمه الله في مواضع مفرقة: سمعت شيخنا وسيدنا الإمام الحافظ زين الدين -رضي الله تعالى عنه- مرتين، آخرهما يوم الأربعاء الثالث من شهر رمضان المعظم سنة سبع وخمسين وستمئة، يقول: وعظ الشيخ الجليل شهاب الدين السهروردي -رضي الله تعالى عنه- بدمشق حماها الله تعالى وصانها، فقرأ القرآن الأعز بن إبراهيم بن محمد الممدوح بن علي الربيني بن عبد الله الجواد بن جعفر، فتواجد الشيخ وخلع أثوابه، فاشتراه منهم جمال الدين للتبرك بخمسمئة درهم. وكان رضى الله عنه لا يضيع من أوقاته شيئًا، بل لا يزال مشتغلًا بالصلاة والقراءة والذكر -رضي الله تعالى عنه-. وكان شيخنا رضى الله عنه قد لبس منه خرقة وصحبه مدة في بغداد بالرباط -رضي الله تعالى عنهما-. سمعت شيخنا وسيدنا الإمام الصالح العارف بقية شيوخ الطريقة، شرف الدين أبا إسماعيل محمد بن إبراهيم بن صري بن هرماس بن نجار بن عقيل بن جابر بن حكام بن حكمة بن يوسف بن جعفر الطيار بن أبي طالب. وهذا نسبه أملانيه يوم الجمعة الرابع عشر من شهر رمضان سنة تسع وخمسين وستمئة بالمدرسة الرواحية بدمشق حماها الله تعالى وصانها. سمعته يقول عن الشيخ الفقيه الإمام الصالح محمد البرسي، قال: ننظر الحافظ عبد الغني ونحن جماعة فيهم جماعة يفتون، فلما وضع رجله على درجة الكرسي قلت في نفسي: بأي شيء فضلك الله علينا؟ فالتفت إلي وقال: يا مدبر من خدم خدم، من خدم خدم، من خدم خدم، فقلت: آمنت بالله. وسمعت سيدنا الشيخ كمال الدين سلار -حفظه الله- تعالى يحكي عن بعض الفقهاء أنه وضع المهذب تحت رأسه ونام، فاحتلم في منامه، ورأى الشيخ أبا إسحاق مصنف المهذب في المنام فدفعه برجله وقال له: اقعد ما يكفيك أنك وضعت المهذب تحت رأسك، ثم صرت جنبًا، أو كما قال. سمعت شيخنا وسيدنا الإمام الفاضل، والعلامة البارع عز الدين أبا جعفر عمر بن أسعد بن أبي غالب الأيلي المفتي الشافعي رحمه الله يوم الثاني من شعبان سنة تسع وخمسين وستمئة بالمدرسة الرواحية بدمشق، حماها الله وصانها، وسائر بلاد الإسلام وأهلها آمين. يقول: قال لي بعض الفقهاء: كتب الشيخ كتاب نهاية المطلب، وكان لي عادة أن أكتب في الليل أوراقًا معلومة، فكنت ليلة أكتب فنظرت إلى السراج فوجدت زيته قليلًا لا يكفيني لتمام الوظيفة، قال: واشتغلتبالكتابة وذهلت عنها، فما ذكرت ذلك حتى كتبت الوظيفة فعددت الأوراق، فلما فرغت من عددها وذكرت دعائي فنظرت إلى السراج فانطفأ مع نظري إليه، أو كما قال. توفي إلى رحمة الله تعالى ورضوانه الشيخ الفقيه نجم الدين عيسى الكردي الشافعي، سنة ست وخمسين وستمئة أظنه في شعبان. وكان فقيهًا بالمدرسة الرواحية صانها الله تعالى بمدينة دمشق حماها الله تعالى، وصرف عنها كل قاصد لها بسوء، وأدامها دار الإسلام أبدًا وسائر بلاد الإسلام وأهلها. فرأيته في المنام بعد موته بأيام، ليلة الجمعة وعرفت أنه قد مات، فسلمت عليه وقلت له: أحييت يا نجم الدين وجئت. وقلت له: قد قال الغزالي في (كتاب الموت) من كتاب «إحياء علوم الدين»: إن الموت أمر عظيم، ولم يأتنا أحد بعد الموت يخبرنا عن حقيقته، ولا يعرف حقيقته إلا من ذاقه، ثم قلت: أخبرنا عن حقيقة الموت. فقال: هو وإن كان صعبًا لكنه لحظة يسيرة، ثم تنقضي. قلت: فما كان حالك بعده؟ فقال: هناك يعني عند الله تعالى خير كثير، كأنه يشير إلى أن حالته حسنة بفضل الله تعالى، وإن رحمة الله تعالى مؤخرة، أو كما رأيت. ومات في هذه السنة الفقيه شمس الدين محمد النووي -رضي الله تعالى عنه-، وعليه قرأت الختمة الشريفة، فرأيته في المنام رحمه الله بعد موته، فعرفت أنه ميت فقلت له: ما حالك يا شمس الدين أنت في الجنة؟ فقال: اليوم لا ندخل الجنة بل نتنعم في غيرها. يعني: وإنا لا ندخل الجنة إلا بعد قيام الساعة. فقلت له: صدقت. فإنه لا يدخل الجنة اليوم إلا الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم والشهداء، وأما غيرهم فينعم في غيرها قبل مجيء الآخرة، ثم يدخلون الجنة بعد قيام الساعة كما جاءت الشريعة. ثم قلت له: قد جاء أن الروح ترجع إلى البدن قبل مسألة منكر ونكير قبل رجوعها إلى الجسد بعد الوضع في القبر أو قبله في حال حمل الميت في النعش؟ فقال: بعد الوضع في القبر. رحمه الله وإياي ووالدينا ومشايخنا ومن نفعنا من أصحابنا ومن أسأنا إليه وسائر المسلمين آمين.
سمعت صاحبنا الشيخ الإمام الزاهد الورع العارف شمس الدين يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من جمادى الأولى سنة إحدى وستين وستمئة بالخانقاه السميصاتية بدمشق حماها الله تعالى يقول: جرى من أيام يعني قليلة كلام بين شيخين إمامين من أصحابنا شهود، ما عينهما لي، لا أوثر أنا ذكرهما، قال: وجرى بينهما مباحثة في أن القرآن في المصاحف والصدور لا على سبيل الحلول كما قاله أصحابنا، وأن نفس الحبر المكتوب ليس هو الكلام القديم، بل دال عليه. ثم إنهما طلبا الإرشاد لإمام الحرمين لينظرا ما ذكر فيه فنظراه ثم انصرفا. فرأيت في تلك الليلة كأن بحرًا في وسطه شيء، وذلك الشيء هو مطلوب الناس، وجميع علماء المسلمين يحيطون به، ينظرون إلى ذلك الشيء شاخصون إليه لا يدرون ما هو، ولا يدركونه. قال: ورأيت إمام الحرمين دخل بين الناس، وشمر ثوبه ودخل في ذلك البحر نحو خمسة عشر ذراعًا، ثم لم يقدر على مجاوزة فوقف هناك كما هو، وسائر العلماء كما هم يحيطون بالبحر ناظرون إلى ذلك الشيء. قال: ووراء العلماء خلق كثير ممن كان يشتغل بعلوم الأوائل، أعني العلوم العقلية كعلم الهيئة وعلم المنطق، وأصول الدين، ومن كان يشتغل بالخلاف ممن ينسبون إلى قلة الدين، وترك الصلاة، وسوء الاعتقاد، وهم من أعرفهم، فرأيتهم كلهم وراء الناس، وهناك كلاب تبول على جميعهم. وعين لي منهم إنسان أعرفه أنا ممن كان فنه الخلاف حسب ونسب إلى قلة الدين لا أوثر أنا تعيينه قال: رأيته سكران، أو كما قاله شرف الدين. نسأل الله الكريم المنان ذا العظمة والسلطان، والفضل والامتنان، الرءوف الرحمن، أن يحسن العاقبة لنا ولوالدينا ومشايخنا وأصحابنا ومن نحب والمسلمين أجمعين. آمين.
قال الحافظ أبو سعيد السمعاني في كتاب «الأنساب» ختم الشيخ أبو بكر محمد بن علي بن جعفر الكتاني في الطواف اثنتي عشرة ألف ختمة ومات سنة اثنين وعشرين وثلاثمئة. وذكر السمعاني في «الأنساب» أن أبا يعقوب إسحاق بن ممشاد الزاهد الكرامي، كان حسن الوعظ فأسلم على يده خمسة آلاف رجل وامرأة من أهل الكبائر والمجوس. وروينا عن الإمام أبي بكر الأنباري قال: سمعت أحمد بن يحيي -يعني أبا العباس- يقول: سمعنا من القواريري مئة ألف حديث؛ يعني بالقواريري: عبد الله بن عمر بن ميسر أبا سعيد الحشمي مولاهم البصري ثم البغدادي. ورأيت بخط الشيخ رحمه الله تعليقًا في مواضع متفرقة سمعت شيخنا القاضي الإمام مجموع أنواع المحاسن، بقية الشيوخ والعلماء: بدر الدين أبا عبد الله محمد بن إبراهيم بن خلكان الإربلي الشافعي -رضي الله تعالى عنه-، يوم الأربعاء السادس عشر من رجب سنة ستين وستمئة يقول: رأيت امرأة يظنها قال: صالحة، ومعناه حفظت القرآن العزيز كله في سبعين يومًا. سمعت شيخنا قاضي الإسلام كمال الدين سلار -رضي الله تعالى عنه- يقول: حفظت «التنبيه» في أربعة أشهر. سمعت شيخنا البتليسي حفظه الله مرات يقول: أحصيت كتب الغزالي -رحمه الله تعالى- التي صنفها ووزعت على عمره فخصت كل يوم أربع كراريس، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. قلت: ومن المشهودين بكثرة التصنيف إمامنا الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، والإمام أبو الحسن الأشعري -رضي الله تعالى عنهما-، وقد عدد الإمام أبو بكر البيهقي -رحمه الله تعالى- مصنفات الشافعي، وعدد الإمام حافظ الشام؛ بل حافظ الدنيا أبو القاسم المعروف بابن عساكر -رضي الله تعالى عنه- في كتابه: «تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري»، تصانيف الأشعري أنها نحو ثلاثمئة تصنيف. سمعت شيخنا وسيدنا الإمام الجليل والسيد النبيل، الحافظ المحقق والمقتبس المدقق، الضابط المتقن، والمشفق المحسن، الورع الزاهد، والمجتهد العابد، بقية الحفاظ المفتي شيخ الأئمة والمحدثين: ضياء الدين أبا إسحاق إبراهيم بن عيسى المرادي يقول في يوم الأربعاء السابع من شوال ثمان وخمسين وستمئة بالمدرسة البادرانية بدمشق حماها الله وصانها قال: سمعت الشيخ عبد العظيم -رحمه الله- يقول: كتبت بيدي تسعين مجلدة، وكتبت سبعمئة جزء، كل ذلك من علوم الحديث، تصنيف غيره، وكتب ذلك من مصنفاته وغيرها أشياء كثيرة. قال شيخنا: ولم أر ولم أسمع أحدًا أكثر اجتهادًا منه في الاشتغال، كان دائم الاشتغال في الليل والنهار. وقال: وجاورته في المدرسة -يعني بالقاهرة- حماها الله، بيتي فوق بيته اثنتي عشرة سنة، فلم أستيقظ في ليلة من الليالي في ساعة من ساعات الليل إلا وجدت ضوء السراج في بيته وهو مشتغل بالعلم. وحتى كان في حال الأكل والكتاب والكتب عنده يشتغل فيها. وذكر من تحقيقه وشدة بحثه وتفننه ما أعجز عن التعبير عنه، قال: وكان لا يخرج من المدرسة لا لعزاء، ولا لهناء، ولا لفرجة، ولا لغير ذلك، إلا لصلاة الجمعة، بل يستغرق الأوقات في العلم -رضي الله تعالى عنه وعن والدينا والمسلمين-. سمعت شيخنا ضياء الدين رضى الله عنه يقول: كتبت صحيح البخاري في ست مجلدات بقلم واحد، ولكن كنت أبريه، وكتبت بذلك القلم أشياء بعد البخاري وذلك بمدينة القاهرة حماها الله تعالى. قال ابن قتيبة في «أدب الكاتب»: بريت القلم أبريه بريًا. قال أبو سعيد السمعاني في كتاب «الأنساب»: ختم الشيخ أبو بكر محمد بن علي بن جعفر الكتاني في الطواف اثني عشر ألف ختمة ومات سنة اثنتين وعشرين وثلاثمئة.
كرر علي حديثهم يا حادي |
* | فحديثهم يجلي الفؤاد الصادي |
سمعت شيخي وسيدي الإمام العلامة المفتي المدقق المتقن مجموع أنواع المحاسن: عز الدين أبا حفص عمر بن أسد بن أبي غالب الإربلي الشافعي -رضي الله تعالى عنه مرات- آخرها يوم الجمعة الرابع والعشرين من رجب سنة تسع وخمسين وستمئة يقول: كل عامل لله عز وجل بطاعة، فهو ذاكر الله عز وجل. ثم رأيت ذلك منقولًا في «شرح السنة» لأبي محمد البغوي منقولًا عن سعيد بن جبير -رضي الله تعالى عنه-.
هذا آخر ما وجد رضي الله تعالى عن مؤلفه ولي الله الشيخ محيي الدين النووي، رضي الله تعالى عنه وعنا وعن والدينا ومشايخنا وأصحابنا وجميع المسلمين، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، صلاة وسلامًا متلازمين إلى يوم الدين.