وسئل الشيخ ولي الدين العراقي عن ابن العربي وابن الفارض فأجاب: ينبغي عندي أن لا يحكم على ابن العربي نفسه بشيء, فإني لست على يقين من صدور هذا الكتاب عنه, ولا استمراره عليه إلى وفاته.
قال: وأما ابن الفارض فالاتحاد في شعره ظاهر, لكن علماء عصره رووا عنه في معاجمهم, ولم يترجموه بشيء من ذلك.
فقال الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري في معجمه: عمر بن علي بن مرشد الشافعي الأديب, سمع من القاسم بن أبي القاسم بن عساكر, وحدث عنه, سمعت عنه شيئا من شعره.
وقال الحافظ رشيد الدين العطار في معجمه: الشيخ الفاضل الأديب: كان حسن النظم متوقد الخاطر, وكان يسلك طريق التصوف, وينتحل مذهب الشافعي, وأقام بمكة مدة, وصحب جماعة من المشايخ.
وقال الحافظ أبو بكر بن مسدي في معجمه: بارع في الأدب, وكان رقيق الطبع, عذب النبع, فصيح العبارة, دقيق الإشارة, سلس القياد, نبيل الإصدار والإيراد, متطرق متصوف, كالروض الملفوف, وتخلق بالزي, وتزيَّا بالخلق وجمع من كرم النفس كل متفرق. انتهى.
وأما (عدم الإذن في قراءة هذه الكتب) فنقول: إما أن تكون لا تأويل لها صحيح, فواضح أن قراءة مثل ذلك لا تجوز.
أو يكون لها تأويل صحيح, ومخلص سائغ, وحينئذ فهنا كلامان.
أحدهما: القارئ، ونقول له: ما مرادك بقراءتك هذه الكتب: أمجرد فهم العلم؟ فهل أتقنت علوم الشريعة المهمة, من الفقه الذي هو تكاليف محضة, والحديث الذي هو آداب سنية, والتفسير الذي هو معارف عليَّة, والآلات التي بها يتوصل إلى فهم ذلك؟ كلا والله لا أتقنت ذلك ولا بعضه, ولا المقرئ أيضًا, فهذا خروج عن قانون الأدب والعقل, حيث تترك الاشتغال بالعلم المهم إلى غير المهم, وإن كان مرادك أن تصير بقراءتها صوفيًا محققا, فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة, لو قرأت من هذه الكتب عدد رمل عالج, في مدة عمر نوح, لم تصر صوفيًا ﴿حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾ [الأعراف: من آية 40].
إنما التصوف: الدوءْب في الطاعات, وترك المخالفات, وفطم النفس عن المألوفات, وعدم التطلع إلى ما في أيدي الناس من الأموال المباحات, فضلاً عن الشبهات, وترك التوصل بالخلق, والاعتماد على الله في كل الحالات, وترك النظر إلى صحبة الملوك والأمراء فضلا عمن سواهم من أهل الهيئات.
قال الجنيد: ما أخذنا التصوف من القال والقيل، ولكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات.
وإذا كان أهل الطريق ذموا من يشتغل بدقائق الفقه التي لا يحتاج إليها إلا نادرًا, كعويص مسائل الحيض والإجارة والمساقاة وغير ذلك, ورأوا العكوف على لزوم الطاعة وتطهير النفس أولى, فكيف يسمحون للسالك بقراءة هذه الكتب التي لا تدخل لها في السلوك, ولا في تربية المريد, وإنما هي إشارات محضة عن وجدانيات حصلت لهم عند انتهائهم, فرمزوا إليها, وليس للسالك حاجة بها, ولا تعويل في سلوكه عليها.
وقد ذكر الغزالي في الإحياء سرًا من الأسرار, ثم قال: لعل القدر الذي ذكرناه كان الأولى تركه, إذ سالك هذه الطريق لا يحتاج إلى أن يسمعه من غيره, والذي لم يسلكه لم ينتفع بسماعه, بل ربما يتضرر به, إذ يورثه ذلك دهشة من حيث لا يفهم. انتهى.
ولم يعهد لأحد من أئمة الطريق قديمًا ولا حديثًا عقد حلقة لتدريس مثل هذه الكتب وتقريرها, كما يقرر سائر العلوم, وإنما يأخذون المريد بالخلوة والانفراد وملازمة العبادات والذكر والأوراد ومجاهدة النفس ونحوها من وظائفهم المعروفة إلى أن يفتح الله عليه.
وكان المتوجه منهم ممن أذن له يعقد مجلسًا للوعظ يتكلم فيه على الناس بالمواعظ الحسنة, والحكم المستحسنة, ويشير إلى ما في بواطنهم من الخبائث بما أطلعه الله عليه من الكشف, ويصدع بالحق بصدق وإخلاص, فيصلح الله بمواعظه خلقًا, ويشفي أدواءً وينور قلوبًا, ويهدي بصائر من حيث لا يشعرون.
هذا مصطلح القوم, وبه كانوا يعملون, ولمثل ذلك كان ابن سريج يحضر مجلس الجنيد, والشيخ أبو إسحاق الشيرازي يحضر مجلس أبي نصر القشيري في الكلام.
الثاني: يتعلق بالمقري، فنقول له أيها الشيخ -نفعنا الله وإياك- عليك أن تأخذ المريدين بالآداب التي قررها أهل الطريق, ولا تمكنهم من قراءة هذه الكتب التي هي مضلة الفهوم, على تقدير أن يكون من المحققين العالمين بتأويله على أحسن المسالك, فإن اشتغالهم بهذه يشغلهم عما هم بصدده من السير.
هذا على تقدير أن يكونوا مستعدين لفهمها, ذوي أذهان صحيحة, لا يقبلون البدعة, ولا تروج عليهم الشبهة, فكيف إذا كانوا على خلاف ذلك؟
ولو لم يكن إلا عدم معرفتهم بقواعد علم الكلام, وما يجوز على الله وما يستحيل عليه من الصفات, وما يتعلق بالنبوات, وما يتعلق بحدوث العالم, وما يترتب على ذلك من الأمور المهلكات.
عافانا الله من كل بلية, وعصمنا من الزيغ, إنه جواد كريم, ﴿رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾ [آل عمران:8], وأخْرِج حب الدنيا من قلوبنا فإنه رأس كل خطيئة, وانزع حب الرئاسة من رؤوسنا, فان النفس أمارة بالسوء, حبًا للمراتب العلية.
اللهم ارزقنا عصمة بك, واستمساكا بكتابك, ووقوفا تحت أقدام نبيك سيد المرسلين, وإمام المتقين, وقائد الغُرّ المحجلين, لا أريد بسنته بدلاً, ولا أبغي عنها حِوَلاً, ولا أتزحزح عن آدابها السنية لا قولا ولا فعلا, في ليلي ونهاري وعشيتي وإبكاري ويقظتي ومنامي ومحياي ومماتي. من ذا الذي يصل إلى مولاه من غير بابه, ومن ذا الذي يوثق بعراه سوى كريم أحبابه؟ صلى الله عليه وسلم, وعلى سادات السادات: آله وأصحابه.