سمعت الشيخ أبا العباس } يقول: كنت وأنا صبي عند المؤدب، جاء رجل فوجدني أكتب في لوح، فقال لي: «الصوفي لا يُسَوِّدُ بياضًا»، قال: فقلت: «ليس الأمر كما زعمت، ولكن لا يُسَوِّدُ بياضَ الصحائف بسواِد الذنوب».
وسمعته يقول: عمل إلى جانب دارنا خيال الستارة -وأنا إذ ذاك صبي فحضرته- فلما أصبحت أتيت إلى المؤدب، وكان من أولياء الله تعالى فأنشد حين رآني:
يَا نَاظِرًا صُوَرَ الْخَيَالِ تَعَجُّبًا |
* | وَهْوَ الْخَيَالُ بِعَيْنِهِ لَوْ أَبْصَرَا |
وقال }: رأيت ليلة كأني في سماء الدنيا، وإذا برجل أسمر اللون قصير الطول كبير اللحية، فقال: «قل: اللهم اغفر لأمة محمد، اللهم ارحم أمة محمد، اللهم استر أمة محمد، اللهم اجْبُرْ أمة محمد»، هذا دعاء الخضر، من قاله كل يوم كتب من الأبدال»، فقيل: «هذا الشيخ ابن أبي شامة»، فلما انتهيت وأتيت إلى الشيخ أبي الحسن جلست ولم أخبره بشيء؛ فقال: «اللهم اغفر لأمة محمد...» الدعاء، «من قاله كل يوم كتب من الأبدال».
وقال }: كنت أخرج كل يوم من باب البحر نحو المنار، فخرجت يومًا إلى المنار، فنمت عند الجانب الشرقي، وكان قد خطر في نفسي: ما سبب قلة رواية أبي بكر الصديق } عن رسول الله > مع كثرة ملازمته له؟ فإذا علي يقول لي: «أعلم الناس بعد رسول الله > أبو بكر الصديق، وإنما قَلَّتْ روايته عنه لتحققه به».
وقال }: طالعت مقام الرحمة فإذا علي يقول لي: «واللهِ ليكونن من رحمة يوم القيامة ما ينال منها ابن أبي الطواجن»، وكان هذا ابن أبي الطواجن قد قبل الشيخ القطب عبد السلام بن مشيش شيخ الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنهما.
وقال }: كنت مع الشيخ في مدينة الرسول >، فأردت أن أزور حمزة }؛ فخرجت من المدينة، فتبعني رجل، فأتينا إلى التربة، فإذا الباب مغلق فانفتح الباب ببركة رسول الله >، فدخلنا فوجدنا هنالك رجلًا من الأبدال، فقلت للرجل الذي تبعني: «ادعُ في هذا الوقت بما تريد؛ فإنه مستجاب
لك»، فدعا ذلك الرجل أن يعطيه الله دينارًا، فلما رجعنا إلى المدينة لقيه رجل فأعطاه دينارًا، فلما دخل على الشيخ أبي الحسن قال له: «يا بطال، صادفت وقت إجابة، فسألت الله دينارًا! هلَّا سألت الله كما سأله أبو العباس! سأله أن يكفيه هَمَّ الدنيا وعذاب الآخرة، وقد استجاب الله تعالى له ذلك».
وقال }: كنت جالسًا بين يدي الأستاذ، فدخل عليه جماعة من الصالحين، فلما خرجوا من عنده، قال: «هؤلاء الأبدال»، فنظرت ببصيرتي فلم أجدهم أبدالًا، فتحيَّرت بين ما أخبر به الشيخ وبين ما شهدته بصيرتي، فبعد ذلك بأيام قال الشيخ: «من بُدِّلَتْ سيئاته حسنات فهو بدل»؛ فعلمت أن الشيخ أراد أول مراتب البدلية.
وأخبرني الشيخ العارف نجم الدين الأصفهاني، قال: «قال لي الشيخ أبو العباس يومًا: ما اسم كذا وكذا بالعجمية؟» فخطر لي أن الشيخ يجب أن يقف على اللغة العجمية، فأتيت إليه بكتاب الترجمان.
فقال الشيخ }: «ما هذا الكتاب؟» قلت: «كتاب الترجمان»، قال: فضحك الشيخ وقال: «سَلْ ما شئت بالعجمية أُجِبْكَ بالعربية، أو سَلْ ما شئت بالعربية أُجِبْكَ بالعجمية»، فسألته بالعجمية فأجابني بالعربية، وسألته بالعربية فأجابني بالعجمية، وقال: «يا عبد الله، ما أردت بقولي ما اسم كذا؟ إلا مباسطتك، وإلا فلا يكون صاحب هذا الشأن ويخفى عليه شيء من الألسنة».
وأخبرني أيضًا قال: قال لي الشيخ أبو العباس يومًا: «كم بين بلدة كذا وبلدة كذا من نهر لبلدتين من بلاد العجم؟»، فقلت: «أربعة أنهار»، فقال: «والنهر الذي غرقت فيه!». فذكرت أني نسيت نهرًا أتيت لأخوضه فكدت أن أغرِق فيه.
وأخبرني العارف ياقوت، قال: عزم عليَّ إنسان، فَقَدَّمَ لي طعامًا، فرأيت عليه ظُلْمَةً كالمكب، فقلت في نفسي: «هذا حرام» فامتنعت من أكله، ثم دخلت على الشيخ أبي العباس فقال لي أول ما جلست: «ومن جهل بعض المريدين أن يقدم له طعام فيرى عليه ظلمة، فيقول: هذا حرام، يا مسكين ما يساوي ورعك بسوء ظنك بصاحبك المسلم، هل قلت هذا طعام لم يردنِ الله به».
ودخلت أنا عليه وفي نفسي ترك الأسباب والتجرد، وترك الاشتغال بالعلم الظاهر، قائلًا: «إن الوصول إلى الله لا يكون على هذه الحالة»، فقال لي من غير أن أبدي له شيئًا: «صحبني بقوص إنسان يقال له ابن ناشي، وكان مدرسًا
بها ونائب الحكم، فذاق من هذا الطريق شيئًا على يدينا، فقال: يا سيدي، أترك ما أنا فيه وأتفرغ لصحبتك؟ فقلت له: ليس الشأن ذا، ولكن امكث فيما أقامك الله، وما قسم لك على أيدينا هو إليك واصل». ثم قال: «هكذا شأن الصديقين، لا يخرجون من شيء حتى يكون الحق هو الذي يتولى إخراجهم»، فخرجت من عنده وقد غسل الله تلك الخواطر من قلبي، وكأنها ثوبٌ نزعته، ورضيت عن الله فيما أقامني فيه.
وأخبرني بعض أصحابنا، قال: رأيت وأنا بالمغرب دائرة من الرجال ورجل في وسطها، وكل من في تلك الدائرة متوجه إليه، فقلت في نفسي: «هو القطب»، وعرفت ذلك الرجل بصفته، وبقيت كلما ذكر لي عن رجل آتي إليه، وأقول: «عسى أن يكون ذلك الرجل» حتى قيل لي عن الشيخ أبي العباس المرسي؛ فأتيته وإذا هو ذلك الرجل الذي رأيته في وسط تلك الدائرة، فأخبرته، فقال: «نعم، أنا القطب، أما الذين يقابلون بطني لهم المدد من باطن حقيقتي، والذين يقابلون ظهري لهم المدد من ظاهر علمي، والذين يقابلون جنبي لهم المدد من العلوم التي بين جَنْبَيَّ».
وأخبرني بعض أصحابنا، قال: رأى إنسان من أهل العلم والخبر كأنه بالفرقة الصغرى، والناس مجتمعون يتطلعون إلى السماء، وقائل يقول: «الشيخ أبو الحسن الشاذلي ينزل من السماء والشيخ أبو العباس مترقب لنزوله متأهب له»، فرأيت الشيخ أبا الحسن قد نزل من السماء وعليه ثياب بيض، فلما رآه الشيخ أبو العباس ثَبَّتَ رجليه في الأرض، وتهيأ لنزوله عليه، فنزل الشيخ أبو الحسن عليه، ودخل من رأسه حتى غاب فيه، واستيقظت.
وأخبرني الشيخ محمد السراج قال: كنت ليلة من الليالي نائمًا، وأنا أرى في المنام قائلًا يقول لي: «اذهب إلى خارج الإسكندرية من باب السدرة، فأول بستان تلقاه من الجانب الأيسر فادخل فيه؛ تجد هناك جماعة من الناس، الجالس منهم تحت أطول نخلة هناك رجل من الرجال»، ثم قيل لي: «إن في الجامع حلقة من دخل فيها فهو آمن».
فلما أصبحت خرجت إلى ظاهر الإسكندرية فدخلت أول بستان من الجانب الأيسر فوجدت حلقة هناك، فرفعت بصري لأنظر إلى أطول نخلة، فإذا قائل يقول: «كلها طوال»، فإذا هو الشيخ أبو العباس المرسي فسلمت وجلست، وقلت: «يا سيدي، رأيت البارحة كذا وكذا» وقصصت عليه الرؤيا، فقال: «أنا الجامع، والحلقة هم أصحابي، ومن دخل فيها فهو آمن»؛ أي من دخل في شروطنا فهو آمن. ثم قال: «أنا الليلة آتيك»، فقلت: «يا سيدي، أنتظرك على الباب، أو أترك لك
الباب مفتوحًا؟»، قال: «لا، ولكن اغلق الباب وأنا آتيك»، قال: فلما كان الليل أخذني شبه الوهم، وصرت أقول: «من أين يأتي؟ من هنا يأتي، لا بل من ها هنا يأتي»، فلم أُطِقِ المكث، فخرجت إلى رباط الواسطي فصعدت المأذنة، وقفت لأصلي فأنا في الصلاة، وإذا الشيخ أبو العباس قد أتى في الهواء، وقال: «يا محمد، أتظن أنك إذا جئت إلى هنا يخفى عليًّ مكانك؟» فقلت: «يا سيدي، إنما جئت ها هنا؛ لأني لم أطق، وهالني الأمر» وكان المخاطِب له مني لسان آخر غير الذي كنت أقرأ به.
وأخبرني بعض أصحابه قال: كنا مع الشيخ بمدينة قوص، وكان من أصحاب الشيخ أبي العباس المرسي أبو الحسن المرسي، وكان في خُلُقِه حدة، فنزل يومًا ولد الشيخ يلعب كما تلعب الصبيان، فقال له الشيخ أبو الحسن المرسي: «اطلع لا أطلعك الله»، فسمعه الشيخ أبو العباس فنزل، وقال: «يا أبا الحسن حَسِّن خلقك مع الناس، بقي لك عام وتموت»؛ فمات تمام العام.
وأخبرني أبو عبد الله الحكيم المرسي، قال: قدم علينا شيخ أُشْمُونَ، فلما جَنَّ الليل دعاني الشيخ، وقال: «ادنُ مني يا حكيم»، فدنوت فوضع يده خلف ظهري وفعلت أنا كذلك، وضَمَّنِي إليه وبكى، وبكيت لبكائه ولا أدري مِمَّ بكاؤه. فقال: «يا حكيم، ما جئتكم إلا مُوَدِّعًا، يا حكيم أذهب إلى المقر فأودع أخي، ثم أعود إلى الإسكندرية فأبيت بها ليلة وأدخل في اليوم الثاني قبري»، فسافر فأقام عند أخيه مدة يسيرة، ثم انحدر إلى الإسكندرية فأقام ليلة، ودخل اليوم الثاني قبره كما قال.
وأخبرني سيدنا جمال الدين ولد الشيخ رضي الله عنهما، قال: ورد رسول الإفرنج إلى الإسكندرية فذهبت لأنظره ولم أُعلم الشيخ، فلما جئت قال: «أين كنت؟» قلت: «ها هنا»، قال: «لا، بل ذهبت تنظر رسول الأفرانج، أتظن أن شيئًا من أحوالك يخفى عليَّ؟ كان الرسول لابسًا كذا، راكبًا عن يمينه فلان، وعن يساره فلان»، فوصف الحال على ما كان عليه.
وأخبرني عبد العزيز المديوني، قال: قال لي الشيخ: «يا عبد العزيز، سقيت الفرس؟»، وما كنت سقيتها، فقلت: «نعم»؛ خوفًا من الشيخ، فقال: «يا عبد العزيز، سقيت الفرس؟» قلت: «نعم»، فكرر عليَّ ذلك مرارًا، وأنا أقول: «نعم»، ففي المرة الأخيرة قال: «يا الله»، وطار في الهواء حتى غاب عن بصري، فلما كان في اليوم الثاني، قال: «يا عبد العزيز، ما الذي يحوج الإنسان منكم أن يقول غير الحق؟ كنت تقول ما سقيتها، وماذا كنت أصنع
بك إذا كنت لم تسقها؟».
وكنت أنا سمعت الطلبة يقولون: «من صحب المشايخ لا يجيء منه في العلم الظاهر شيء»؛ فَشَقَّ عليَّ أن يفوتني العلم، وشَقَّ عليَّ أن يفوتني صحبة الشيخ، فأتيت إلى الشيخ فوجدته يأكل لحمًا بخل، فقلت في نفسي: «ليت الشيخ يطعمني لقمة من يده»، فما استتممت الخاطر إلا وقد دَفَع في فمي لقمة من يده، ثم قال: «نحن إذا صحبنا تاجرًا ما نقول له اترك تجارتك وتعال، أو صاحب صنعة ما نقول له اترك صنعتك وتعال، أو طالب علم لا نقول له اترك طلبك وتعال، ولكن نُقِرُّ كل واحد فيما أقامه الله تعالى فيه وما قَسَمَ له على أيدينا هو واصل إليه، وقد صَحِبَ الصحابةُ رسولَ الله > فما قال لتاجر: اترك تجارتك، ولا لذي صنعة: اترك صنعتك، بل أَقَرَّهُمْ على أسبابهم، وأَمَرَهم بتقوى الله فيها».
وسمعته يقول: سافرت إلى قوص ومعي خمس أنفس: الحاج سليمان، وأحمد بن الزين، وأبو الربع، وأبو الحسن المرسي، وفلان، فقال لي إنسان: «ما الذي تقصد بسفرك يا سيدي؟» فقلت له: «أدفن هؤلاء بقوصَ وأجيء»، فدفنت الخمسة بها، أما الحاج سليمان فما مات حتى شرب من حوض الكوثر.
وأخبرني بعض أصحابه قال: نزل عنده بعض الأعيان، فقال في نفسه: «أشتهي من ينبهني قبل الفجر بمنزلة، ويأتيني بإبريق ماء ساخن، ويأتيني بسراج ويريني محل الطهارة»، قال: وأنا قبل الفجر إلَّا وطارق يطرق الباب، فخرجت وإذا هو الشيخ؛ فقال: «الوقت قبل الفجر بمنزلة، وهذا إبريق فيه ماء ساخن، وهذه شمعة، وتعالَ حتى أريَك محل الطهارة»، وكنت قد قلت لبعض أصحاب الشيخ: «أريد لو نظر إليَّ الشيخ بعنايته وجعلني في خاطره»، فقال ذلك الشيخ: فلما دخلت على الشيخ قال: «لا تطالبوا الشيخ بأن تكونوا في خاطره، بل طالبوا أنفسكم أن يكون الشيخ في خاطركم؛ فعلى مقدار ما يكون عندكم تكونون عنده»، ثم قال: «أي شيء تريد أن يكون؟ والله ليكونن لك شأن، والله ليكونن لك شأن عظيم، والله ليكونن كذا، والله ليكونن كذا»، لم أثبت منه إلا قوله: «ليكونن لك شأن عظيم»؛ فكان من فضل الله سبحانه وتعالى ما لا تنكره.
وأخبرني سيدنا جمال الدين ولد الشيخ قال: قلت للشيخ: «هم يريدون يصدرون ابن عطاء الله في الفقه»، فقال الشيخ: «هم يصدرونه في الفقه، وأنا أصدره في التصوف» ودخلت أنا عليه فقال لي: «إذا عوفي الفقيه ناصر الدين؛ يجلسك في موضع جدك، ويجلس
الفقيه من ناحية، وأنا من ناحية، وتتكلم إن شاء الله في العِلْمَيْنِ»؛ فكان ما أخبر به.
وسمعته يقول: «أريد أن أستنسخ كتاب «التهذيب» لولدي جمال الدين»، فذهبت أنا فاستنسخته من غير أن أعلم الشيخ وأتيته بالجزء الأول فقال: «ما هذا؟» فقلت: «كتاب «التهذيب» استنسخته لكم» فأخذه، فلما نهض ليقوم، قال: «اجعل بالك الولي لا يتفضل عليه أحد؛ تجدْ هذا إن شاء الله في ميزانك»، فلما أتيته بالجزء الثاني، لقيني بعض أصحابه بعد نزولي من عنده، وقال: قال الشيخ عنك: «والله لأجعلنه عينًا من عيون الله، يُقْتَدَى به في العلم الظاهر والباطن»، فلما أتيته بالجزء الثالث ونزلت من عنده لقيني بعض أصحابه وقال: طلعت عند الشيخ فوجدت عنده مجلدة حمراء، فقال: «هذا الكتاب استنسخه لي ابن عطاء الله، واللهِ ما أرضى له بجِلسة جَدِّهِ، ولكن بزيادة التصوف».
وأخبرني بعض أصحابه قال: قال الشيخ يومًا: «إذا جاء ابنُ فقيه الإسكندريةِ فأعلموني به»، فلما أتيتَ أعلمنا الشيخ بك، فقال: «تقدم»، فقدمك بين يديه، ثم قال: «جاء جبريل — إلى رسول الله >، ومعه ملك الجبال حين كَذَّبَتْهُ قريشٌ، فقال له جبريل: هذا ملك الجبال أمره الله أن يطيع أمرك في قريش فسلم عليه ملك الجبال، وقال: «يا محمد، إن شئت أطبق عليهم الأخشبين فعلتُ»، فقال رسول الله >: «لا، ولكن أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يوحده ولا يشرك به شيئًا»، فصبر عليهم رسول الله >؛ رجاءَ مَنْ يخرج من أصلابهم، كذلك صَبَرْنَا على جَدِّ هذا الفقيه لأجل هذا الفقيه».
وخرجت يومًا من عند الفقيه المكين الأسمر }، وخرج معي أبو الحسن الجريري، وكان من أصحاب الشيخ أبي الحسن، فسلمت عليه، فسلم عليَّ ببشاشة وإقبال، فقلت له: «من أين تعرفني؟»، فقال: «وكيف لا أعرفك؟ كنتُ يومًا جالسًا عند أبي العباس، وكنت أنت عنده فلما نزلت قلت له: يا سيدي إنه ليعجبني هذا الشاب، انقطع فلان وفلان عن الملازمة وهذا الشاب ملازم. قال: فقال الشيخ: يا أبا الحسن لن يموت هذا الشاب حتى يكون داعيًّا يدعو إلى الله؛ فكان ما قاله الشيخ والحمد لله».
وأخبرني أبو الحسن هذا قال: كنت ليلة عند الشيخ أبي الحسن، وكان يقرأ عليه كتاب «ختم الأولياء» للترمذي الحكيم، فرأيت واحدًا جالسًا لم يطلُع معنا، ولم يكن عند الشيخ وقت طلوعنا، فقلت لإنسان إلى جانبي: «من
هذا الرجل الجالس إلى جانب فلان؟» فقال: «ما ها هنا أحد غير الجماعة الذين تعرفهم»، فسكتُّ وعلمت أنه لم يره، فلما انصرف الجمع سألت الشيخ أبا الحسن } فقلت: «يا سيدي، رأيت ها هنا رجلًا لم يطلع معنا، ولم يكن عندك قبل طلوعنا!»، فقال الشيخ: «ذاك أبو العباس المرسي، يأتي كل ليلة من المقسم حتى يسمع الميعاد، ثم يعود من ليلته إلى مكانه» والشيخ أبو الحسن إذ ذاك بالإسكندرية، وكنت كثيرًا ما يطرأ عَلَيَّ الوسواس في الطهارة، فبلغ ذلك الشيخَ، فقال: «بلغني أن بك وسواسًا في الوضوء؟» فقلت: «نعم»، فقال: «هذه الطائفة تلعب بالشيطان لا الشيطان يلعب بهم»، ثم مكثت أيامًا ودخلت عليه، فقال: «ما حال ذلك الوسواس؟» فقلت: «على حاله»، فقال: «إن كنت لا تترك الوسوسة فلا تعد تأتنا»، فشق ذلك عليَّ وقطع الوسواس عني، وكان } يلقن للوسواس: «سبحان الملك الخلاق، ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ﴾ [فاطر: 16-17]».
وعملت قصيدة أمدحه بها، مذكورة في آخر هذا الكتاب، فقال حين أنشدت: «أيدك الله بروح القدس»، ثم عملت قصيدة أخرى بإشارته جوابًا لقصيدة مدحت بها إنسانًا من بلاد أخْمِيم، وسيأتي في آخر الكتاب ذكرها، فلما قرئت عليه قال: «هذا الفقيه صحبني وبه مرضان وقد عافاه الله منهما، ولا بد أن يجلس ويتحدث في العِلمين» يشير إلى مرض الوسوسة؛ فلقد انقطع ببركات الشيخ، حتى صرت أخاف أن أكون -لشدة التوسعة التي أجدها- قد تساهلت في بعض الأمر، والمرض الآخر كان بي ألم برأسي فشكوت ذلك إليه، فدعا الله لي فعافاني الله وشفاني، وبت ليلة من الليالي مهمومًا، فرأيت الشيخ في المنام فشكوت إليه ما أنا فيه فقال: «اسكت، واللهِ لأعلمنَّك علمًا عظيمًا»، فلما انتبهت أتيت إلى الشيخ فقصصت عليه الرؤيا، فقال: «هكذا يكون إن شاء الله».
وجاء يومًا من السفر فخرجنا للقائه، فلما سلمت عليه قال: «يا أحمد، كان الله لك، ولطف بك، وسلك بك سبيل أوليائه، وبهاك بين خلقه»، فلقد وجدتُ بركة هذا الدعاء.
وعلمت أنه لا يمكنني الانقطاع عن الخلق، وأني مراد بهم؛ لقوله: «وبهاك بين خلقه»، وكنت أنا لأمره من المنكرين، وعليه من المعترضين، لا لشيء سمعته منه، ولا لشيء صح نقله، حتى جرت بيني مقاولة وبين أصحابه، وذلك قبل صحبتي إياه، وقلت لذلك الرجل: «ليس إلا أهل العلم الظاهر، وهؤلاء القوم يَدَّعُونَ أمورًا عظيمة وظاهر الشرع يأباها»، فقال ذلك الرجل
بعد أن صحبت الشيخ: «أتدري ما قال لي الشيخ يوم تخاصمنا؟» قلت: «لا»، قال: دخلت عليه فأول ما قال لي: «هؤلاء كالحجر، ما أخطأك منه خير مما أصابك»؛ فعلمت أن الشيخ كوشف بأمرنا، ولعمري لقد صحبت الشيخ اثني عشر عامًا، فما سمعت منه شيئًا ينكره ظاهر العلم من الذي كان ينقله عنه مَنْ يقصد الأذى، وكان سبب اجتماعي به أن قلت في نفسي بعد أن جرت المخاصمة بيني وبين ذلك الرجل: «دعني أذهب أنظر إلى هذا الرجل؛ فصاحب الحق له أمارات لا يخفى شأنه»، فأتيت إلى مجلسه فوجدته يتكلم في الأنفاس التي أمر الشارع بها، فقال: «الأول إسلام، والثاني إيمان، والثالث إحسان. وإن شئت قلت: الأول عبادة، والثاني عبودية، والثالث عبودة. وإن شئت قلت: الأول شريعة، والثاني حقيقة، والثالث تحقق» أو نحو هذا، فما زال يقول: «وإن شئت قلت، وإن شئت قلت...»، إلى أن أبهر عقلي، وعلمت أن الرجل إنما يغترف من فيض بحر إلهي ومدد رباني؛ فأذهب الله ما كان عندي، ثم أتيت تلك الليلة إلى المنزل؛ فلم أجد فيَّ شيئًا يقبل الاجتماع بالأهل على عادتي، ووجدت معنى غريبًا لا أدري ما هو؛ فانفردت في مكان أنظر إلى السماء وإلى كواكبها، وما خلق فيها من عجائب قدرته، فحملني ذلك على العود إليه مرة أخرى، فأتيت إليه فاستؤذن عليَّ، فلما دخلت عليه قام قائمًا، وتلقاني ببشاشة وإقبال، حتى دهشت خجلًا، واستصغرت نفسي أن أكون أهلًا لذلك؛ فكان أول ما قلت له: «يا سيدي، أنا -واللهِ- أحبك»، فقال: «أحبك الله كما أحببتني»، ثم شكوت إليه ما أجده من هموم وأحزان؛ فقال: «أحوال العبد أربع لا خامس لها: النعمة، والبلية، والطاعة، والمعصية؛ فإن كنت بالنعمة فمقتضى الحق منك الشكر، وإن كنت بالبلية فمقتضى الحق منك الصبر، وإن كنت بالطاعة فمقتضى الحق منك شهود منته عليك فيها، وإن كنت بالمعصية فمقتضى الحق منك وجود الاستغفار»، فقمت من عنده وكأنما كانت الهموم والأحزان ثوبًا نزعته.
ثم سألني بعد ذلك بمدة: «كيف حالك؟»، فقلت: «أفتش على الهم فما أجده!»، فقال:
لَيْلِي بِوَجْهِكَ مُشْرِقٌ |
* | وَظَلَامُهُ فِي النَّاسِ سَارِي |
وَالنَّاسُ فِي سَدَفِ الظَّلَا |
* | مِ وَنَحْنُ فِي ضَوْءِ النَّهَارِ |
«الزم، فوالله لئن لزمت لتكوننَّ مفتيًا في المذهبين»، يريد مذهب أهل الشريعة أهل العلم الظاهر، ومذهب أهل الحقيقة أهل العلم الباطن.