مقام الخالق ومقام المخلوق
إن الفرق بين مقام الخالق والمخلوق هو الحد الفاصل بين الكفر والإيمان ، ونعتقد أن من خلط بين المقامين فقد كفر والعياذ بالله .
ولكل مقام حقوقه الخاصة ، ولكن هناك أموراً ترد في هذا الباب وخصوصا فيما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم وخصائصه التي تميزه عن غيره من البشر وترفعه عليهم هذه الأمور قد تشتبه على بعض الناس لقصر عقولهم وضعف تفكيرهم وضيق نظرهم وسوء فهمهم ، فيبادرون إلى الحكم بالكفر على أصحابها وإخراجهم عن دائرة الإسلام ظنا منهم أن في ذلك تخليطا بين مقام الخالق والمخلوق ، ورفعا لمقام النبي صلى الله عليه وسلم إلى مقام الألوهية ، وإننا نبراً إلى الله سبحانه وتعالى من ذلك .
وإننا بفضل الله تعالى نعرف ما يجب لله تعالى ، وما يجب لرسوله صلى الله عليه وسلم ، ونعرف ما هو محض حق لله تعالى وما هو محض حق لرسوله صلى الله عليه وسلم من غير غلو ولا إطراء يصل إلى حد وصفه بخصائص الربوبية والألوهية في المنع والعطاء والنفع والضر الاستقلالى [ دون الله تعالى] والسلطة الكاملة والهيمنة الشاملة والخلق والملك والتدبير والتفرد بالكمال ، والجلال والتقديس والتفرد بالعبادة بمختلف أنواعها وأحوالها ومراتبها.
أما الغلو الذي يعنى التغالى في محبته وطاعته والتعلق به ، فهذا محبوب و مطلوب كما جاء في الحديث : (لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم) ..
والمعنى أن إطراءه والتغالى فيه والثناء عليه بما سوى ذلك هو محمود ، ولو كان معناه غير ذلك لكان المراد هو النهي عن إطرائه ومدحه أصلا ومعلوم أن هذا لا يقوله أجهل جاهل في المسلمين ، فإن الله تعالى عظم النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن بأعلى أنواع التعظيم ، فيجب علينا أن نعظم من عظمه الله تعالى وأمر بتعظيمه .. نعم يجب علينا أن لا نصفه بشيء من صفات الربوبية ورحم الله القائل حيث قال : دع ما ادعته النصارى في نبيهم :: واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
فليس في تعظيمه صلى الله عليه وسلم بغير صفات الربوبية شيء من الكفر والإشراك ، بل ذلك من أعظم الطاعات والقربات، وهكذا كل من عظمهم الله تعالى كالأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وكالملائكة والصديقين والشهداء والصالحين ، قال الله تعالى : (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) ، وقال تعالى : (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه).
ومن ذلك الكعبة المعظمة والحجر الأسود ومقام إبراهيم عليه السلام ، فإنها أحجار وأمرنا الله تعالى بتعظيمها بالطواف بالبيت ومس الركن اليماني وتقبيل الحجر الأسود وبالصلاة خلف المقام ، وبالوقوف للدعاء عند المستجار وباب الكعبة والمللتزم ، ونحن في ذلك كله لم نعبد إلا الله تعالى ، ولم نعتقد تأثيرا لغيره ولا نفعا ولا ضرا فلا يثبت شيء من ذلك لأحد سوى الله تعالى .
مقام المخلوق
أما هو صلى الله عليه وسلم فإننا نعتقد أنه صلى الله عليه وسلم بشر يجوز عليه ما يجوز على غيره من البشر من حصول الأعراض والأمراض التي لا توجب النقص والتنفير كما قال صاحب العقيدة : وجائز في حقهم من عرض :: بغير نقص كخفيف المرض
وأنه صلى الله عليه وسلم عبد لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا إلا ما شاء الله ، قال تعالى : (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون) الأعراف : ۱۸۸ .
وأنه صلى الله عليه وسلم قد أدى الرسالة وبلغ الأمانة ونصح الأمة وكشف الغمة وجاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين ، فانتقل إلى جوار ربه راضيا مرضياً كما قال تعالى : ( إنك ميت وإنهم ميتون ) .
وقال : (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن من فهم الخالدون) .
والعبودية هي أشرف صفاته صلى الله عليه وسلم ، ولذلك فإنه يفتخر بها ويقول : [ إنما أنا عبد ] ووصفه الله بها في أعلى مقام (سبحان الذي أسرى بعبده) ، وقال : (وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا) .
والبشرية هي عين إعجازه فهو بشر من جنس البشر لكنه متميز عنهم بما لا يلحقه به أحد منهم أو يساويه كما قال صلى الله عليه وسلم عن نفسه في الحديث الصحيح : (إنى لست كهيئتكم إلى أبيت عند ربى يطعمني ويسقيني).. وبهذا ظهر أن وصفه صلى الله عليه وسلم بالبشرية يجب أن يقترن بما يميزه عن عامة البشر من ذكر خصائصه الفريدة ومناقبه الحميدة ، وهذا ليس خاصا به صلى الله عليه وسلم ، بل هوعام في حق جميع رسل الله سبحانه وتعالى لتكون نظرتنا إليهم لائقة بمقامهم ، وذلك لأن ملاحظة البشرية العادية المجردة فيهم دون غيرها هي نظرة جاهلية شركية ، وفى القرآن شواهد كثيرة على ذلك ، فمن ذلك قول قوم نوح في حقه فيما حكاه الله عنهم إذ قال : (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا) سورة هود : ۲۷ .
ومن ذلك قول قوم موسى وهارون في حقهما فيما حكاه الله عنهم إذ قال : (فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون) المؤمنون : ٤٧ .
ومن ذلك قول ثمود لنبيهم صالح فيما حكاه الله عنهم بقوله : (ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين) سورة الشعراء : ١٥٤ .
ومن ذلك قول أصحاب الأيكة لنبيهم شعيب فيما حكاه الله عنهم بقوله : (قالوا إنما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين) سورة الشعراء : ١٨٦ .
ومن ذلك قول المشركين في حق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد رأوه : بعين البشرية المجردة فيما حكاه الله عنهم بقوله : (وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الأسواق) ، ولقد تحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه حديث الصدق بما أكرمه الله تعالى به من عظيم الصفات وخوارق العادات التي تميز بها عن سائر أنواع البشر (۱) .
فمن ذلك ما جاء في الحديث الصحيح أنه قال : (تنام عيناى ولا ينام قلبي) .
وجاء في الصحيح أنه قال : (إنى أراكم من وراء ظهرى كما أراكم من أمامي) .. وجاء في الصحيح أنه قال : (أوتيت مفاتيح خزائن الأرض) .
وهو صلى الله عليه وسلم وإن كان قد مات إلا أنه حي حياة برزخية كاملة يسمع الكلام ويرد السلام وتبلغه صلاة من يصلى عليه وتعرض عليه أعمال الأمة فيفرح بعمل المحسنين ويستغفر للمسيئين وأن الله حرم على الأرض أن تأكل جسده فهو محفوظ من الآفات والعوراض الأرضية .
وعن أوس بن أوس رضي الله عنه قال : (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أفضل أيامكم يوم الجمعة : فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة ، فاكثروا على من الصلاة فيه ، فإن صلاتكم معروضة على) . قالوا : يا رسول الله ! وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت يعنى بليت ؟ فقال : (إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) ..
رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه .
وفي ذلك رسالة خاصة للحافظ جلال الدين السيوطي أسماها ( إنباء الأذكياء بحياة الأنبياء ) .
عن ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ، فإذا أنا مت كانت وفاتي خيرا لكم تعرض على أعمالكم فإن رأيت خيرا حمدت الله وإن رأيت شرا استغفرت لكم ) .
قال الهيثمي : رواه البزار ورجاله رجال الصحيح .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (ما من أحد يسلم على إلا رد الله على روحى حتى أرد عليه السلام) .
رواه أحمد وأبو داود . قال بعض العلماء : رد على روحي أي نطقي ، وعن عمار بن يسار رضى الله عنه قال : (قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : إن الله وكل بقبرى ملكا أعطاه الله أسماء الخلائق ، فلا يصلى على أحد إلى يوم القيامة إلا أبلغني باسمه واسم أبيه ، هذا فلان بن فلان قد صلى عليك) . رواه البزار وأبو الشيخ ابن حبان ولفظه : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (إن لله تبارك وتعالى ملكا أعطاه أسماء الخلائق فهو قائم على قبرى إذا مت ، فليس أحد يصلى على إلا قال : يا محمد ! صلى عليك فلان بن فلان ، قال : فيصلى الرب تبارك وتعالى على ذلك الرجل بكل واحدة عشرا) .. رواه الطبراني في الكبير بنحوه (2) .
وهو صلى الله عليه وسلم وإن كان قد مات إلا أن فضله ومقامه وجاهه عند ربه باق لا شك في ذلك ولا ريب عند أهل الإيمان ، ولذلك فإن التوسل به إلى الله سبحانه وتعالى إنما يرجع في الحقيقة إلى اعتقاد وجود تلك المعاني واعتقاد محبته وكرامته عند ربه وإلى الإيمان به وبرسالته، وليس هو عبادة له ، بل إنه مهما عظمت درجته وعلت رتبته فهو مخلوق لا يضر ولا ينفع من دون الله إلا بإذنه .
قال تعالى : (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سيأتي بحث خاص في هذا الموضوع بعنوان و الأنبياء بشر ولكن ..
(2) كثير من هذه الأحاديث سيأتي مفصلا في مباحث أخرى من هذه الرسالة المناسبة أخرى ، والحديث الواحد يستدل به العلماء على أكثر من مسألة في أكثر من موضع واحد .