فخر المتأخرين، ونادرة المحققين المنصفين، والمحدث، الفقيه، الأصولي، المنطقي، المتكلم، المؤرخ، النظار، البحاثة، النقادة، الإمام الشيخ أبو الحسنات محمد عبدالحي الأنصاري اللكنوي الهندي، ابن العلامة المحقق الإمام المتفق على براعته وإمامته الشيخ محمد عبدالحليم الأنصاري اللكنوي الهندي، المنتهى نسبه إلى سيدنا أبي أيوب الأنصاري صاحب سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم.
ولد في بلدة (باندا) في الهند في يوم الثلاثاء 26 من ذي القعدة سنة 1246، وشرع في حفظ القرآن الكريم حين بلغ الخمس سنين، وفرغ من حفظه وهو ابن عشر سنين، ومنح منذ نشأته قوة الحفظ الواعية حتى قال عن نفسه وهو في عشر الأربعين «ورزقت قوة الحفظ من زمن الصبا، حتى إني أحفظ كالعيان جميع وقائع، تقريب قراءة الفاتحة، حين كان عمري خمس سنين».
قرأ أول ما قرأ على والده: بعض الكتب الفارسية و الإنشاء والخط أثناء حفظه للقرآن، وكان يدارس والده فيه أيضا. و بعد أن فرغ من ذلك كله شرع في تحصيل العلوم الشرعية وآلاتها، فقرأ الكتب الدرسية في الفنون الآتية: الصرف، والنحو، والمعاني، والبيان، والمنطق، والحكمة، والطب، والفقه، وأصول الفقه، وعلم الكلام، والحديث، والتفسير، وغيرها من العلوم. و كانت أكثر قراءته لهذه العلوم على والده، كما قرأ على خاله الشيخ محمد نعمت الله العلومَ الرياضية بعد والده.
وقد ألقي في قلبه من مستهل شبابه محبة التدريس والتأليف، فلم يقرا كتابا إلا درٌسه بعد قراءته، فحصل له من ذلك التمكن في العلوم، وتسنى له بما صار لديه من الملكة في الفهم والعلم أن يقرأ الكتب التي لم يكن قرأ ها على أستاذ ككتاب «شرح الإشارات» للطوسي، و«قانون الطب»، و «علم العروض»، وغيرها.
وأعطي في تدريسه القبول والرضى من طلبته والآخذين عنه، وشاع الثناء عليه من شيوخه وعارفيه.
ولما توفي والده رحمه الله تعالي وكان ناظما للعدالة في مدينة (حيدر آباد الدكن)، عرض عليه بإصرار أن يتولى مكان أبيه في تلك الإدارة العليا للمدينة فأبى واعتذر، لأن ذلك يعوقه عن التدريس والتأليف، و قنع باليسير من المورد راضيا مسرورا، متوجها إلى التعليم والتصنيف ونشر العلم لوجه الله تعالى.
وكان أحب إليه العلوم إليه: الحديث الشريف، وفقه الحديث وما إليه من علوم المنقول، مع تفوقه في العلوم العقلية، وحدث عن نفسه: أنه يجد في تدريس الحديث الشريف وفقهه والتصيف فيهما من اللذة والسرور ما لا يجده في سواهما من سائر العلوم و الفنون.
و كان ذا فتوح رباني عظيم في المسائل المعضلية، و المباحث الدقيقة المشتبكة، فكان كما قال عن نفسه:« ومن منحه تعالى: أنه جعلني سالكا بين الإفراط والتفريط، لا تأتي مسألة معركة الآراء بين يدي إلا ألهمت الطريق الوسط فيها، ولست ممن يختار طريق التقليد البحت، بحيث لا يترك قول الفقهاء وإن خالفته الأدلة الشرعية، ولا ممن يطعن عليهم ويهجر الفقه بالكلية، وما كان من المسائل خلاف الحديث الصحيح الصريح أتركه وأظن المجتهد فيه معذورا بل مأجورا، ولكني لست ممن يشوش العوامٌ الذين هم كالأنعام، بل أتكلم بالناس على قدر عقولهم».وقد يسر الله تعالى له الحج إلى بيته الكريم مرتين، مرة مع والده سنة 1279، ومرة بعد وفاة والده سنة 1292، وقد جمع في هاتين الحجتين الشيء الكثير من الفوائد العلمية من العلماء الحرمين الشريفين، كما اقتنى كثيرا من الكتب النادرة المخطوطة والمطبوعة من البلاد التي مر بها.
كثرة تصانيفه و سعة مكتبته:
إذا ذُكِر المصنفون أصحابُ التصانيف الكثيرة التي زادت على الخمسين أو المئة كتاب، ذكِر الإمام عبدالحي في طليعتهم ومقدمتهم غير مدافع، ذلك لأن تصانيفه بلغت نحو مئة وعشرة كتب، وإذا قيست كثرتها هذه في جانب عمره القصير الذي كان 39 سنة، بدت كثيرةً جداً.
وقد وقع لي أكثر مؤلفاته، وأنا في استكمال باقيها، ومن عزمي أن أحصي صفحات تلك التآليف العديدة المفيدة، لأوزعها على أيام عمره رحمه الله تعالى، فيظهر منها نبوغه النادر في التأليف و التصنيف،وظني أنها تفوق في كثرة صفحاتها الموزعة على أيام حياته ما قيل في كثرة تصانيف الإمام ابن جرير وابن الجوزي وأمثالهم، من الذين طالت أعمارهم وكثرت تواليفهم، هذا مع تأخر العصر وفتور الهمم واجترار العلم عند أغلب المؤلفين المتأخرين.
ويقر كل من نظر في تآليف الشيخ عبدالحي أنها تستوفي التحقيق العلمي الناصع، وتحوي النقول النادرة الفاصلة، والاستيعاب لكل ما في المسألة أو الباب حتى كأنه تخصص طوال عمره في الموضوع الذي يبحثه لا غير، و لا تجد في شيء من كتبه هذه الكثيرة يجترٌ العلم اجترارا، أو يعاد فيها مُعادا مكرورا، حتى في كتبه التي تبلغ مجلدات ضخمة كحاشيته على «الهداية» للإمام المرغيناني وكتابه «السعاية في كشف ما في شرح الوقاية» وغيرهما.
ولقد آتاه الله تعالى ذوقا مرهفا، وحسا علميا نقيا، ودقة نادرة في الفهم، وقوة بالغة في الحفظ، وقدرة عجيبة في التأليف بأسرع وقت و أنصع أسلوب، حتى إنك لا تكاد تلمح في كلامه مَسْحة العُجْمة وهو هندي الدار والمولد واللغة، ولايمكن أن تشك مرة واحدة في ذوقه فيما يكتب أو ينقل أو يناقش، حتى في ثورته على مناوئيه ومخالفيه يتجلى لك من أسلوبه التزام الأدب، وتحكيم العلم في ميدان المناقشة، لا السفسطة والإقذاع.
وكان له حرص نادر بالغ في الاستفادة من الوقت، وإنك لتدهش حين تراه ـ مثلا ـ في كتابه: « الفوائد البهية في تراجم الحنفية » يُعَدٌِدُ مؤلفات العلماء الذين يترجمهم ثم يقول: طالعت من كتبه كذا و كذا، ويسرد كتبا كثيرة يبلغ بعضها مجلدات ضخمة.
وقد يقع في خَلَد بعض ذوي الهمم القاصرة والعزائم الخائرة أن يحملوا هذه المطالعة من الشيخ اللكنوي على مثل (مطالعتهم) التي يفعلونها، وهي تقليب البصر في أوراق الكتاب حين شرائه أو أثناء اقتنائه! ولكن الشيخ رحمه الله تعالى كان إذا يطالع الكتب والأسفار يَفليها فَلْيا، وينخلها نخلا ويستخرج منها مكنون العلم وعويصه و غاليه، ويدل على ذلك أوضح دلالة جودة تصانيفه التي تحفل بالنقول النادرة والنصوص الناضرة، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقد كانت لديه مكتبة جامعة عامرة غنية في كل فن وعلم، تبدو ضخامتها واستيعابها من تواليفه التي تطفح بالنقول عن كتب لاتزال مغمورة في عالم المخطوطات، قل أن يُسمع بها أو يعرف عن وجودها شيء.(1)
وحسبك شاهدا على هذا أن كتابه: «الرفع والتكميل» وهو كتاب صغير في حجمه، كبير في فوائده وعلمه: قد استقاه من نحو 150 كتابا. و حين خرٌَجت نصوصه ونصوص كتابه هذا: «الأجوبة الفاضلة» كنت أتعجب كثيرا من قدرة الشيخ على استخراج تلك النصوص من بطون تلك الكتب وأكثرها كان مخطوطا، ومن اهتدائه إلى استلالها من مطاويها، حتي كأن بيده مِنْورا تمتدٌ أشعته الكاشفة إلى بطون الكتب في الخزائن المعتمة فتنير عباراتها وتُخرج مكنوناتها، كما قيل هذا في شيخنا الإمام الكوثري رحمهما الله.
وإن مما يلحظه القارىء لكتب الإمام اللكنوي أنه لا يُرى فيها أي أثر للعُنجهية أو الاستعلاء والانتفاخ في العلم، بل يلمس القارىء فيها مسحة التصوف الرقيق البصير، والتواضع الجم النبيل، المصحوب بالعلم والأدب الشرعي الحنيف.
ولما زرت أسرته وبيته في (فرنكي محل) في (لكنو) التقيت فيه بعدد غير قليل من العلماء، ثم صار المجلس بذكر فضائل الشيخ اللكنوي فقلتُ: لقد رُزق الشيخ القبولَ في الناس وعند العلماء كافة، بخلاف منافسه صديق حسن خان فإنه لم يَحُُز ذلك، فارتضى الجميع هذا القول واستحسنوه.
أشهر مؤلفاته المطبوعة
للإمام اللكنوي قرابة مئة وعشرة كتب كما سبق ذكره، وقد استوفيت أسماءها وتعدادها في تقدمة كتابه «الرفع والتکمیل»، وأغلبها مطبوع في حياته أحسن طباعة بأتقن تصحيح وأنضر إخراج يتمتع به عصر الكتابة الذي كان فيه. وما من كتاب من تلك الكتب المطبوعة ـ في الغالب ـ إلا أعيد طبعه غير مرة في حياته أو بعد وفاته، ولكنك لا تجد له في المكتبات اليوم أثرا ولا عينا، ومن كتبه ما هو مقرر في كتب الدراسة في معاهد الهند والباكستان كحواشيه على «الهداية» للمرغيناني، وهو من أشهر مؤلفاته الجامعة المحرٌَرة النافعة.
ومن أشهرها أيضا: «التعليق الممجٌَد على موطأ الإمام محمد»، و«عمدة الرعاية على شرح الوقاية»، و«تذكرة الراشد برد تبصرة الناقد»، و«طرب الأماثل في تراجم الأفاضل»، و«الفوائد البهية في تراجم الحنفية»، و«الرفع والتكميل في الجرح والتعديل»، و«الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة»، و«ظفر الأماني في شرح مختصر الجرجاني» في المصطلح، و«نفع المفتي والسائل بجمع متفرقات المسائل»، و«إقامة الحجة على أن الإكثار في التعبد ليس ببدعة»، و«تحفة الأخيار في إحياء سنة سيد الأبرار». وسيكون هذان الكتابان الثالث والرابع من سلسلة نشر مؤلفات الإمام اللكنوي إن شاء الله تعالى، محقٌَقَيْن على غرار هذا الكتاب وسابقه بعون الله تعالى.
وكانت وفاته لليلة بقيت من ربيع الأول سنة أربع وثلاثمائة وألف في بلدة لكنو، ولم يكتمل له من العمر أربعون سنة، رحمه الله تعالى وجزاه عن العلم والدين والإسلام خيراً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- في مكتبة جامعة عليكره بالهند بقية كبيرة من (مكتبته)، أهداها إلى الجامعة سبطه مولانا الشيخ محمد أيوب ونجله الأستاذ محمد مهدي أيوب أستاذ العربية في الجامعة المذكورة حفظهما الله تعالى. وتبلغ عدتها 1071 كتابا في العربية، 1870 كتابا في الفارسية. كما أفادنيه الأستاذ الفاضل الشيخ سبط الحسن الحسيني مدير المخطوطات في جامعة عليكره. وقد اكتحلت عيناي من تلك الكتب النفيسة في رحلتي للهند والباكستان سنة 1382 فبقيت طوال يوم الأربعاء 12 من ربيع الآخر فيها، ثم غادرتها مضطرا متمثلا:
فوالله ما فارقتها قاليا لها ــــــــــــــــــــ ولكن ما يقضى فسوف يكون!