تمهيد:
أعلم أن التصوف مبنى على الكتاب والسنى، كما قال الغمام الجنيد } (ت297هـ) حيث قال: طريقنا مقيد بالكتاب والسنة ، فمن لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث ولم يتفقه لايقتدي به.
وقال سهل بن عبد الله التستري (ت283هـ) وهو أحد أئمة القوم {: أصولنا سبعة أشياء: 1- التمسك بكتاب الله 2- والاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم 3- وأكل الحلال 4- وكف الأذى
5-وإجتناب المعاصي 6- والتوبة 7- وأداء الحقوق
وقال الشيخ الإمام أبو الحسن الشاذلي (ت656هـ) }: من دعا إلى الله تعالى بغير ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو دعي.
وحكى العارف الشعراني (ت973هـ): في مقدمة الطبقات: إجماع القوم على أنه لا يصلح للتصدر في طريق الله عز وجل إلا من تبحر في علم الشريعة.
ولكون التصوف مبني على الكتاب والسنة دخل فيه عظماء العلماء وأنضم إليه جملة من أهله من الكبراء أمثال: الحافظ أبى نعيم الأصفهاني، والأمام عز الدين ابن عبد السلام، والحافظ ابن الصلاح، والإمام النووي، وتقي الدين السبكي وابنه تاج الدين، والحافظ السيوطي، وشيخ الإسلام زكريا الأنصاري وغيرهم كثير.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: صحبت الصوفية فلم أستفد منهم سوى حرفين: قولهم: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، وقولهم: نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.
وقال حجة الإسلام الإمام الغزالي (ت505هـ) في (المنقذ من الضلال): إني علمت يقينًا أن الصوفية: هم السالكون لطريق الله -تعالى- خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق.
بل لو جمع عقل العقلاء، وحمكة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا ًا من سيرهم وأخلاقهم ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلًا، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم -في ظاهرهم وباطنهم- مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به.
تعريف التصوف:
إن التصوف الإسلامي درجة عليا من درجات الدين، خلاصته تسليم الأمور كلها لله والالتجاء إليه سبحانه في جميع الشئون مع الرضا بالمقدور من غير إهمال في واجب ولا مقاربة محظور.
وقد كثرت أقوال العلماء في تعريفه إلى ما يقرب من ألف تعريف كما جاء في الحلية لأبى نعيم الأفهاني (ت430هـ).
منها: التصوف خلق فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في الصفاء قاله أبو بكر الكتاني (ت322هـ).
وقد سئل أبو محمد الجريري (ت311هـ). عن التصوف فقال: الدخول في خلق سنى، والخروج من خلق دنى.
وقال أبو سعيد الخراز (ت268هـ):
الصوفي من صفى ربه قلبه، فأمتلأ نورًا، ومن دخل في عين اللذة بذكر الله. هذه بعض أقوال المتقديمن في تعريف التصوف.
وقال شيخ شيوخنا الأإمام الحافظ أحمد بن الصديق الغماري(*) (ت1380هـ) رحمه الله: التصوف: هو العمل بالعمل على وجه الإخلاص.
([1])
1- تعريف التصوف عند الشيخ أبى مدين
قال الشيخ رحمه الله: ليس التصوف بتشهيد الأحكام ولا بتدريج الأقدام وإنما التصوف: بسلامة الصدور، وسخاوة النفوس، والأقتداء بالمنزل والعمل بالمرسل.
وقال أيضًا رحمه الله: من خصال الفقير -يعني الصوفي- خمسة اشياء:
حفظ الأسرار، ومحبة الفقراء الأخيار، وإجتناب السفاء، وأمتثال أوامر القهار، وأتباع سنة النبي المختار.
وقال أيضًا علامات الفقير الصادق:
محبته للعلماء وخدمته للفقراء وصحبنه للفقراء .. إن نظر أعتبر، وإن تكلم ذكر، وإن سكت تفكر، القرآن عن يمينه والسنة عن شماله، ولا يرجو غير الله ولا يخاف لومة لائم.
وقال }: القرآن نور يستضاء به، والسنة برهان يقتدى به، والنبي > إمام أوضحهما، فمن خالف فيما ذكرناه فقد أصبح برداء الجهل متوحشًا ألا لعنة الله على من تمسك بغير الله والسنة.
2- الشيخ، شروطه، وآدابه:
لابد للمريد من إتخاذ شيخ كامل، يأخذ بيده، ويبره ويرشده ويقتدي به. فإن طريق القوم مبنية على الصحبة والاقتداء.
قال الإمام عبد الواحد بن عاشر أحد فقهاء المالكية المتوفي 1040هـ في شأن المريد:
يحبه شيخًا عارف المسالك |
* | يقيه في طريقه المهالك |
يذكره الله إذا رآه |
* | ويوصل العبد إلى مولاه |
قال الشيخ أبو مدين رحمه الله :
يجب على المريد إتخاذ شيخ عالم صادق، ورع، عارف بالدين، عالم بعلم
الظاهر([2]) والباطن، ويكون متبعًا غير مبتدع، صبورًا على تلميذه مربيًا له، ومتغافلًا عن زلاته، ولا يكلفه من الأوراد إلا ما يعلم أنه يدوم عليه؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ((أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)).
ويجب على الشيخ: أن يعلم تلميذه فرائض الصلاة وسننها وما يجزئ منها وما لا يجزئ، ويجوده أم القرآن إن كان غير عارف بها.
ويعلمه الحلال والحرام والأرتفاع عن الشبهات، ويأمره بالإحتياط عن إذلاله بسقوط الرياء، ولزوم الخلوة، وطهر النفس وغض البصر عن المحارم وحفظ الفرج، والدوام على الذكر.
3- آداب المريد
قال الشيخ أبو مدين رحمه الله :
وينبغي أن يكون المريد زاهدًا مرضيًا بشوشًا طائعًا باكيًا حزينًا على ما فات من طاعة ربه، حليمًا، باقيًا مع الصفات المحمودة، منحرفًا عن الصفات المذمومة، سائر نهاره صائم وليله قائم، إن نظر أعتبر وإن سكت تفكر وتأسف، ويحاسب نفسه وإن أكل قوته وأثنى بحمد ربه، ويستغفر ويتوب من الخواطر المذمومة، ويكون مجتهدًا يجوع نفسه ويطعم الفقير، ويرحم المسكين، ويعطف على الجار، ويزور القبور، ويصل الرحم، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويمشي إلى المساجد ويتحفظ على الأوقات، وينظف المطعم والمشرب والملبس والمسكن من الحرام، ويجتنب الأيمان الكاذبة، ويبعد عن الظلم وأهله وخلق السوء، ويشتغل بعيب نفسه عن عيوب الناس، ويستغفر من وسوسة الشيطان ويتوب بتوبة صادقة ويحج الفريضة ويحب الجهاد([3]). فهذه هى صفات الفقير الصادق.
(*) الشيخ الحافظ الأإمام المجتهد، الناقد الرواية، الكاتب المقتدر الفقيه، يعد من أكبر المحدثين بالديار المغربية، بل في العالم الإسلامي في عصره، له تآليف عديدة أكثر من مائتين كلها مفيدة على اختلاف أنواعها في الحديث والسير والفقه وغير ذلك وقد طبع بعضها.
توفى بمصر القاهرة مبعدًا عن بلده سنة 1380هـ
(1) المقصود بعلم الظاهر: العلم المتعلق بأفعال الجوارح من عبادات وعادات ومعاملات، وهو المسمى بالفقه، وحامله الفقيه، وهم أهل الفتيا وحرسة الدين.
أما علم الباطن: فهو معرفة الأحكام المتعلقة بأفعال القلوب، المحمودة منها مثل: الشجاعة والكرم والحلم والحياء والمذمومة مثل: الغضب والكبر والرياء والحسد، ويسمى علم القلوب، وعلم التصوف. وهذا النوع أهم من الأول عند الشارع، وإن كان الكل مهما، لأن الباطن سلطان الظاهر، كما أن الباطن أصل الأعمال الظاهر، فإن صلح صلحت آثاره، قال النبي صلى الله عليه وسلم إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد، وإذا فسدت فسد الجسد ألا وهى القلب رواه البخاري ومسلم.
(1) عملًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة نفاق رواه مسلم.
قال العارف بالله سهل بن عبد الله التستري: أصل هذا الأمر: الدق، والسخاء، والشجاعة. انظر إحياء علوم الدين (4/409).
وقال زكي مبارك: إنما كان الصوفية من الشجعان، لأنهم استهانوا بالدنيا وزهدوا في طيبات العيش. (التصوف الإسلامي بين الأدب والأخلاق لزكي مبارك (2/102).
وعلى هذا فالأساس الأول للصوفي هو تقوية الصلة بالله والشجاعة في القتال للجهاد ضد أعداء الأمة الإسلامية.
راجع كتاب البطولة والفداء عند الصوفية للأستاذ أسعد الخطيب ، توزيع دار الفكر، (سوريا)