هو الشيخ الفقيه المحقق، الواصل، القطب شيخ مشايخ الإسلام في عصره، إمام العباد والزهاد سيدى أبو مدين شعيب بن الحسين الأنصاري، الأندلسي التلمساني، أصله من أسبيلية، أخذ العلم عن أكابر علماء عصره أمثال:
-الشيخ الإمام سيدى عبد القادر الجيلاني قدس سره (المتوفي 560هـ) قرأ عليه بالحرم الشريف كثيرًا من الحديث وألبسه الخرقة، وأودعه كثيرًا من أسراره، وحلاه بملابس أنواره.
-والولي العارف العلامة أبى حسين على بن إسماعيل بن حرزهم (المتوفي بفاس سنة 559هـ) وينتهي نسبه إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان }. وهو من أقدم شيوخ أبى مدين، لازمه وقرأ عليه الرعاية للحارث المحاسبى.
-والعلامة الفقيه الحافظ أبى الحسن على بن غالب، فقيه فاس ومفتيها (المتوفي سنة 568هـ) قرأ عليه سنن الترمزي.
-والولي العارف الشيخ أبى على الدقاق (المتوفي بين القرن السادس والسابع) كان من أكابر الصوفية بالمغرب، وكان يفتخر بالشيخ أبى مدين، ويقول:
أنا أول من أخذ عنه الشيخ أبو مدين علم التصوف.
وقد ذكر العلامة ابن قنفذ كثيرًا من شيوخه وأصحابه وتلاميذه في أنس الفقير الذي بين أيدينا فصلا نطول بذكرهم، فإنما القصد التعريف -بإيجاز- بالشيخ }.
وقد ذكر العلامة المؤرخ يوسف بن يعقوب التادلى (المتوفي سنة 627هـ) في التشوف إلى معرفة رجال التصوف، والمقرى في نفخ الطيب ومحمد بن محمد مخلوف في شجرة النور الذكية وغيرهم من المحقيين أنه قد تخرج على يديه ألف شيخ من الأولياء والأفياء أولى الكرامات، منهم الإمام العارف المحقق الحافظ سيدى محى الدين ابن العربى صاحب الفتوحات المكية (المتوفي سنة 638هـ)،
والعارف الشيخ سيدى أبو محمد عبد الرحيم القنائى، والعارف الشيخ سيدى أبو عبد الله القرشى. وكان يحضر مجلسه ويثنى عليه الإمام الحافظ الفقيه أبو محمد عبد الحق الإشبيلى (المتوفي سنة 581هـ) احب الأحكام الكبرى في الحديث، كان يزور سيدى أبى مدين }، ويتردد عليه، وكان يقول في شأن سيدى أبى مدين: ((هذا وارث على الحقيقة)).
عقيدته المباركة
كان الشيخ أبو مدين رحمه الله على عقيدة السلف أهل السنة والجماعة، المبنية على هدى الكتاب والسنة التي لا يزيغ عنها إلا هالك.
وقد سجلها بقلمه في غاية من الحسن والبراعة وقد نشرت مصحوبة بترجمتها إلى الإنجليزية ضمن الأعمال الشعرية لأبى مدين نشر جمعية النصوص الإسلامية بكامبريدج -بريطانيا سنة 1996 ترجمة: فنست كورنيل وهى هذه:
الحمد الله الذي تنزه عن الحد والأين والكيف والزمان والمكان. المتكلم بكلام قديم أزلى -صفة من صفاته قائم بذاته لا منفصل عنه ولا عائًد إليه لايحل في المحدثات ولايجانس المخلوقات، ولايوصف بالحروف والأصوات -تنزهت صفات ربنا عن الأرض والسموات.
اللهم إنا نوحدك، ولانحدك، ونؤمن بك ولانكفيك، ونعبدك ولانشبهك. ونعتقد أن من شبهك بخلقك لم يعرف الخالق من المخلوق.
﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الاخلاص].
صدق الله الذي تقدست عن سمة الحدوث ذاته، وتنزهت عن التشبيه بصفة الجثث صفاته، وشهدت بوحدانيته آياته.
الأول الذي لابداية لأوليته، والآخر الذي لانهاية لأبديته، الظاهر الذي لاشك فيه، الباطن الذي ليس له شبيه، الحى الذي لايموت ولايفنى، القادر الذي لايعجز ولايعنى، المريد الذي أضل وهدى وأفقر وأغنى، السميع الذي يسمع السر والأخفي، البصير الذي يدرك دبيب النمل على السفلى، العالم الذي لايضل ولاينسى.
المتكلم الذي لايشبه كلامه كلام موسى عليه السلام. كلم موسى بكلامه القديم، المنزه عن التأخير والتقديم -لابصوت يقرع ولابنداء يسمع ولابحروف ترجع. كل الحروف والأصوات والنداء محدثة بالنهاية والابتداء- جل ربنا وعلا وتبارك وتعالى- له العظمة والكبرياء والقدرة والسناء ، وله الأسماء الحسنى والصفات العليا.
حياته ليست لها بداية فالبداية بالعدم مسبوقة، قدرته ليست لها نهاية فالنهاية بالتخصيص ملحوقة، إرادته ليست بحادثة فالحوادث بالأضداد مطروقة. سمعه ليس بجارحة فالجارحة مخروقة. بره ليس بحدقة فالحدقة مشقوقة. علمه ليس بكسبى فالكسبى بالتأمل والاستدلال يعلم. ولابضرورى فالضرورى على الإرادة والإنحراف يلزم. كلامه ليس بصوت فالأصوات توجد وتعدم. ولابحرف فالحروف تؤخر وتقدم.
جل ربنا عن التشبيه بخلقه وكل خلقه عن القيام بكنه حقه بل هو القديم الأزلى الدائم الأبدى الذي ليس لذاته قد ولا ليده زند ولا لوجهه خلل ولا له قبل ولا بعد.
ليس بجوهر فالجوهر بالتحيز معروف، ولا بعرض فالعرض بإستحالة البقاء مووف، ولا بجسم فالجسم بالجهة محفوف، فهو خالق الأجسام والنفوس.
ورازق أهل الجود والبؤوس، ومقدر السعود والنحوس، ومدبر الأفلاك والشموس.
هو الله لا إله هو الملك القدوس على العرش استوى من غير تمكن ولاجلوس. لا العرش له من قبله القرار، ولا التمكن له من جهة ولا الاستقرار. العرش له حد ومقدار والرب لاتدركه الأبصار. العرش تكيفه خواطر العقول، وتصفه بالعرض والطول وهو مع ذلك محمول. الذي لا يحول ولايزول. العرش بنفسه هو المكان وله جوانب وأركان، وكان إليه ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان. ليس له تحت فيقله، ولا فوق فيظله، ولا جوانب فتعدله، ولا خلف فيسنده، ولا أمام فيحده. جل عن التجريد والتقرير والتكيف والتصوير والتشبيه والنظير.
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصيرُ﴾ [الشُّورى:11]
آثاره العلمية
كتبه : لم تذكر لنا المراجع التي أرخت للشيخ أبى مدين } أنه ترك كثيرًا من المصنفات، وكذا المراجع المعنية بأسامى الكتب ومؤلفيها. فلم نعثر له إلا على كتأبين اثنين:
الأول : أنس الوحيد ونزهة المريد في علم التوحيد، نسبه إليه إسماعيل باشا في إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون (3/132) وقال: شرحه شهاب الدين أحمد بن عبد القادر، المعروف بباعشن، وسماه: البيان والمزيد المشتمل على معاني التنزيه وحقائق التوحيد.
وقد نسبه إليه أيضًا يوسف إليان سركيس في معجم المطبوعات 345، وذكر أنه طبع بمصر سنة 1300هـ ولم يذكر أسم المطبعة التي قامت بطبعه.
ويوجد منه نسختان بالمكتبة الأزهرية.
الأولى: ضمن مجموعة بخط محمد بن أحمد الحسنى التلمساني (ت962هـ) من الورقة (952) حليم (33586).
الثانية : ضمن مجموعة بخط محمد بن أحمد الحسنى التلمساني (ت962هـ) من الورقة (251 إلى 256) تحت رقم (861) مجاميع الجوهرى (42112).
الثاني: مفاتيح الغيب لإزالة الريب وستر العيب.
نسبه إليه الزركلى في الأعلام (3/166) وذكر أنه مخطوط في شستربتى تحت رقم (3259).
ب-شعره:
لقد كان الإمام الشيخ أبو مدين } إلى جانب كونه محدثاُ فقيهًا، كان شاعرًا أدبيًا وشعره في غاية الجودة والنفاسة، والحسن والبراعة لفظًا ومعنى. وقد نال شعره شهرة واسعة، كما أن البعض من شعره ينشد ويغنى في محافل الذكر.
هذا فضلًا عن اهتمام العلماء به، فقيدته الرائية المشهورة والتي مطلعها:
ما لذة العيش إلا حبة الفقرا |
* | هم السلاطين والسادات والأمرا |
قد قام بشرحها والتعليق عليها الإمام العارف ابن عطاء الله السكندرى احب الحكم المتوفي سنة (709هـ) ومن قبله الإمام سيدى محى الدين ابن العربى المتوفي سنة (638هـ) والذي قام بتخميسها.
وقد تفضل شيخ الإسلام الإمام الدكتور عبد الحليم محمود -شيخ الأزهر الأسبق رحمه الله- بنشر هذا الشرح والتخميس مع كثير من أشعاره في كتابه القيم الذي كتبه عن حياة أبى مدين رحمه الله([1])
القصيدة الرئية
ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا([2]) |
* | هم السلاطين والسادات والأمرا |
فأصبحهموا وتأدب في مجالسهم |
* | وخل حظك مهما قدموك ورا |
واستغنم الوقت وأحضر دائمًا معهم | * | وأعلم بأن الرضى يختص من حضرا |
ولازم الصمت إلا أن سئلت فقل |
* | لا علم عندي وكن بالجهل مستترا |
ولا تر العيب إلا فيك معتقدا |
* | عيبا بدا بينًا لكنه استترا |
وحط رأسك واستغفر بلا سببٍ |
* | وقم على قدم الإنصاف معتذرًا |
وإن بدا منك عيب فأعترف وأقم |
* | وجه أعتذارك عما فيك منك جرى |
وقل عبيدكم أولى بصفحكم |
* | فسامحوا وخذوا بالرفق يافقرا |
هم بالتفضل أولى وهو شيمتهم |
* | فلا تخف دركًا منهم ولا ضررًا |
وبالتفتى(2) على الإخوان جد أبدًا |
* | حسًا ومعنى وغض الطرف إن عثرا |
وراقب الشيخ في أحواله فعسى |
* | يرى عليك من إستحسانه أثرًا |
وقدم الجد وأنهض عند خدمته |
* | عساه يرضى وحاذر أن ترى ضجرًا |
ففى رضاه رضى الباري وطاعته |
يرضى عليك فكن من تركها حذرًا |
|
وأعلم بأن طريق القوم دراسة |
* | وحال مدن يدعيها اليوم كيف ترى |
متى أراهم وأنى لي برؤيتهم |
* | أو تسمع الأذن منى عنهم خبرًا |
من لي وأني لمثلي أن يزاحمهم |
* | على موارد لم آلف بها كدرًا |
أحبهم وأدريهم وأوثرهم |
* | بمهجتي وخصوصًا منهم نفرًا |
قوم كرام السجايا حيثما جلسوا |
* | يبقى المكان على آثارهم عطرًا |
يهدي التصوف من أخلاقهم طرفًا |
* | حسن التآلف منهم راقني نظرًا |
هم أهل ودي وأحبأبى الذين هم |
* | ممن يجر ذيول العز مفتخرًا |
لازال شملي بهم في الله مجتمعًا |
* | وذنبنا فيه مغفورًا ومغتفرًا |
ثم الصلاة على المختار سيدنا |
* | محمد خير من أوفى ومن نذرا |
ثناء العلماء عليه
-نقل العلامة المؤرخ أبو يعقوب التادلي المعروف بابن الزيات المتوفي سنة (627هـ)، في التشوف 314، 324.
عن الشيخ العارف أبى البر أيوب بن عبد الله الفهري: كان أبو مدين زاهدًا فاضلًا، عارفًا بالله تعالى، قد خاض من الأحوال بحارًا، ونال من المعارف أسرارً وخصوصًا مقام التوكل لايشق غباره ولا تجهل آثاره، وكان مبسوطًا بالعلم مقبوضًا بالمراقبة كثير الالتفات بقلبه إلى الله تعالى حتى ختم الله له بذلك اهـ
وقال ابن الزيات: سمعت محمد بن إبراهيم الأنصاري يقول: خرج أبو مدين ألف تلميذ ظهرت على يد كل واحدٍ مهنم كرامة.
-وقال العلامة الشيخ أبو العباس الغبريني المتوفي سنة (704هـ) في عنوان الدراية ص55.
الشيخ الفقيه، المحقق، الواصل، شيخ مشايخ الإسلام في عصره، إمام الزهاد والعباد وخاصة الخلصاء من العباد.
-وقال المؤرخ الأديب أبو العباس المقري المتوفي سنة (1041هـ) في نصخ الطيب (9/356) في وصف مدينة تلمسان:
وقد خرج بهلمسان من العلماء والصلحاء مالا ينبضط، ويكفيها افتخارًا دفن ولي الله سيدي أبى مدين بها، وهو شعيب بن الحسين الأندلسي، شيخ المشايخ، وسيد العارفين، وقدوة السالكين.
ونقل عن ابن عد التلمساني (ت901هـ) في النجم الثاقب قوله:
كان الشيخ سيدي أبو مدين فردًا من أفراد الرجال، ودرًا من دور الأولياء الأبدال، جمع الله له علم الشريعة والحقيقة، وأقامة ركن الوجود هاديًا وداعيًا للحق، فقصد بالزيارة من جميع الأقطار وأشتهر بشيخ المشايخ.. وكان من أعلام العلماء، وحفاظ الحديث خصوصًا جامع الترمزي، وكانت ترد عليه الفتاوى في مذهب مالك فيجيب عنها في الوقت.
-وقال المؤرخ ابن العماد الحنبلي ، المتوفي سنة (1089) في شذارت الذهب (4/303): كان من أهل العمل والإجتهاد، منقطع القرين في العبادة والنسك.
وفــاتــــه(*)
لما أشتهر أمر الشيخ أبى مدين } ببجاية سعى به عند خلفاء بني عبد المؤمن بمراكش، فامر السلطان بطلوعه من (بجاية) إلى (مراكش)، وكتب إلى والي بجاية بالوصية عليه وأن يتحمل خير محمل، فأخذ الشيخ أبو مدين في السفر، وشق ذلك على كثير من أصحابه وعز عليهم فراقه فقال لهم: لا عليكم شعيب شيخ كبير ضعيف لا قدرة له على المشي، ومنيته قدرت بغير هذا المكان ولابد من الوصول إلى موضع المنية فقيض الله لي من يحملني إلى مكان الدفن برفق.
وأرتحل به إلى أن وصل إلى تلمسان، ونزل بها بالموضع الذي يقال له العباد وقال لرفقائه: لا بأس بالنوم في هذا المكان، ووافته المنية بهذا المكان في عام (594هـ) رحمه الله تعالى، فشرفت به تلك البقاع، وهذه جملة من كراماته }، وقبره بالعباد([3]) مشهور وحوض مورود، والدعاء عنده مستجاب.
قال أبو علي الصواف -رحمه الله- لما أحتضر الشيخ أبو مدين أستحييت أن أقول له أوصني، فأتيته بغيري وقلت له : هذا فلان فأوصه.
فقال: سبحانه الله! وهل كان عمري كله معكم إلا وصية؟ وأي وصية أبلغ من مشاهدة الحال؟
وقال أبو علي الصواف: آخر ما سمعته منه عند النزع قوله الله . الله . الله! حتى رق صوته، وقال بعضهم: آخر ما سمع منه الله الحق، وقال بعضهم آخر ما سمع منه: الله الحي. وأي ما كان فهذه خاتمة حسنى ومرتبة عليا يظهر فيها صدق قول النبي > ((يموت المرء على ما عاش عليه)).
(1)قال العارف ابن عطاء الله: الفقير هم المتجرد عن العلائق المعرض عن العوائق لم يبق له قبلة ولا مقصد إلا الله تعالى، وقد أعرض عن كل سواه، وتحقق بحقيقة ((لا إله إلا الله محمد رسول الله)).
(2) أي بالسؤال عنهم وتفقد أحوالهم.
(*)راجع ترجمته في المصادر التالية: -التشوف إلى رجال التصوف 319-326
-عنوان الدراية ص22-32 -نفح الطيب (9/356)
-سير أعلام النبلاء (21/221) -الكواكب الدراية للمناوي (2/237)
-شذرت الذهب (4/303) -الشجرة النور الذكية ص164
تعريف الخلف برجال السلف (2/172-178) -الأعلام للزركلي (3/166)
-حزب الاستغثات بسيد السادات لى الله عليه وسلم الترجمة رقم (2)ص156-161
(1) وأما الذي بمصر بجامع الشيخ عبد القادر الدشطوطي ببركة اقرع خارج السور مما يلي شرقي مصر، وعليه قبة عظيمة وقبره يزار فهو ولده مدين.
انظر الطبقات الكبرى للشعراني (1/154)، وتذكرة المحسنين لعبد الكبير الفاسي ضمن موسوعة أعلام المغرب لمحمد حجي (1/385).