أقسام التدبير(*)
تنبيه وإعلام: اعلم أنَّ التدبير على قسمين: تدبير محمود، وتدبير مذموم.
فالتدبير المذموم: هو كل تدبير ينعطف على نفسك بوجود حظها لا لله؛ قيامًا بحقه، كالتدبير في تحصيل معصية، أو في حظ بوجود غفلة، أو طاعة بوجود رياء وسمعة ونحو ذلك، وهذا كله مذموم؛ لأنه إما أن يوجب عقابًا، أو يوجب حجابًا([1]).
ومن عرف نعمة العقل استحى من الله أن يصرف عقله إلى تدبير ما لا يوصله إلى قربه، ولا يكون سببًا لوجود حبه، والعقل أفضل ما مَنَّ الله به على عباده؛ لأنه -سبحانه وتعالى- خلق الموجودات، وتَفَضَّلَ عليها بالإيجاد وبدوام الإمداد.
فهما نعمتان ما خرج موجود عنهما، ولا بد لكل مكون منها نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد، وربما يفهم من ها هنا قوله تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾([2])، لكن لما اشتركت الموجودات في إيجاده إمداده، أراد الحق تعالى أن يميز بعضها على بعض؛ ليظهر سعة تعلقات إرادته واتِّسَاعِ مشيئته؛ فميز بعض الموجودات بالنمو كالنبات والحيوان البهيمي والآدمي، فظهرت القدرة فيه ظهورًا أجلى من ظهورها في الموجودات غير النامية، فلما اشتركت هذه الثلاثة في النمو أفرد الحيوان الآدمي وغير الآدمي بوجود الحياة، فشارك الآدمي في ذلك الحيوان البهيمي؛ فظهر بقدرته فيه ظهورًا أجلى من ظهوره في الناميات، فأراد أن يميز الآدمي عنه، فأعطاه العقل وفَضَّلَهُ لذلك على الحيوان، وكَمَّلَ به نعمته على الإنسان، وبالعقل ووفوره وإشراقه ونوره تتم مصالح الدنيا والآخرة، فصرف نعمة العقل إلى تدبير الدنيا التي لا قدر لها عند الله كفر لنعمة العقل، وتوجهه إلى الاهتمام بإصلاح شأنه في معاده([3])؛ قيامًا بوجود شكر المحسن إليه، والمفيض من نوره عليه أحق به وأحرى وأفضل([4]) له وأولى.
فلا تصرف عقلك الذي مَنَّ به عليك في تدبير الدنيا التي هي كما أخبر([5]) عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «الدنيا جيفة قذرة»([6])، وكما قال صلى الله عليه وسلم للضحاك: «ما طعامك؟»، قال: «اللحم واللبن يا رسول الله»، قال: «ثم يعود إلى ماذا؟»، قال: «ما علمت يا رسول الله»، قال: «فإن الله جعل ما يخرج من ابن آدم مثلًا للدنيا»([7])، وقال صلى الله عليه وسلم : «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرًا منها شربة ماء»(3).([8])
ومثل من صرف عقله في تدبير الدنيا التي هذه الصفات صفاتها كمثل من أعطاه الملك سيفًا عظيمًا قدره مفخمًا أمره، لم يسمح لكثير من رعاياه بمثله؛ ليقتل به أعداءه ويتزين بحمله، فعمد آخذ هذا السيف إلى الجِيَفِ، فجعل يضربها حتى تَفَلَّلَ ظُبَاهُ وكَلَّ شباه، وتغير حسنه وسناه، فجدير إذا اطَّلَعَ الملك على هذه الحالة منه أن يأخذ السيف منه، ويُعْظِمَ عقوبته على سوء فعاله، وأن يمنعه من وجود إقباله؛ فقد تَبَيَّنَ من هذا أن التدبير على قسمين: تدبير محمود، وتدبير مذموم.
فالتدبير المحمود: هو ما كان تدبيرًا بما يقربك([9]) من الله، كالتدبير في براءة الذمم([10]) من حقوق المخلوقين، إما وفاء وإما استحلالًا، وتصحيح التوبة إلى رب العالمين، والفكرة فيما يؤدي إلى قمع الهوى المردي، والشيطان المغوي، وكل ذلك محمود لا شك فيه، ولأجل ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فكرة ساعة خير من عبادة سبعين سنة»، والتدبير للدنيا على قسمين: تدبير الدنيا للدنيا، وتدبير الدنيا للآخرة.
فتدبير الدنيا للدنيا: هو أن يدبر في أسباب جمعها افتخارًا بها واستكثارًا، وكلما زيد فيها شيئًا ازداد غفلة واغترارًا، وأمارة ذلك أن يشغله عن الموافقة، ويؤديه([11]) إلى المخالفة.
وتدبير الدنيا للآخرة: كمن يدبر المتاجر والمكاسب والغراسة؛ ليأكل منها حلالًا، ولينعم بها([12]) على ذوي الفاقة إفضالًا، وليصون بها وجهه عن الناس إجمالًا، وأمارة من طلب الدنيا لله تعالى عدم الاستكثار والادخار، والإسعاف منها والإيثار.
وللزاهد في الدنيا علامتان: علامة في فقدها، وعلامة في وجدها؛ فالعلامة التي في وجدها الإيثار منها، والعلامة التي في فقدها وجود الراحة منها؛ فالإيثار شكر لنعمة الوجدان، ووجود الراحة منها شكر لنعمة الفقدان، وذلك ثمرة الفهم عن الله والعرفان؛ لأنَّ الحق تعالى كما قد ينعم عليك بوجودها كذلك قد ينعم بصرفها، بل نعمته في صرفها أتم.
قال سفيان الثوري([13]) -رحمه الله تعالى-: «لَنِعْمَةُ الله فيما زوي عني من الدنيا أتم من نعمته عليَّ فيما أعطاني منها»، وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي -رحمه الله-: «رأيت الصِّدِّيقَ رضى الله عنه في المنام فقال لي: أتدري ما علامة خروج حب الدنيا من القلب؟ قلت: لا أدري. قال: علامة خروج حب الدنيا من القلب: بذلها عند الوجود([14]) ، ووجود الراحة منها عند الفقد». اهـ.
فقد تبين من هذا أن ليس كل طالب للدنيا مذمومًا، بل المذموم من طلبها لنفسه لا لربه، ولدنياه لا لآخرته.
([6]) ولهذا اكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون رزقه في الدنيا قوتًا؛ فعن أبي هريرة رضى الله عنه فيما أخرجه البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم اجعل رزق آل محمد في الدنيا قوتًا»، وأثبت صلوات الله وسلامه عليه الفلاح لمن هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافًا؛ فعن فضالة بن عبيد، فيما أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» والحاكم في «المستدرك»: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفلح من هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافًا وقنع به»، وحديث: «الدنيا جيفة» حديث صحيح رواه أبو هريرة رضى الله عنه.
([7]) رواه أحمد في «مسنده» والطبراني في «معجمه الكبير»، والبيهقي في «الشعب» عن الضحاك بن سفيان، ولفظه: «إن الله تعالى جعل ما يخرج من ابن آدم مثلًا للدنيا».
([8]) روى الترمذي وابن ماجه، والطبراني في «المعجم الكبير»، وأبو نعيم في «الحلية» عن سهل بن سهل القضاعي في «مسند الشهاب»، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء»، وفيما أخرج الترمذي عن سهل الساعدي وقال حديث حسن صحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا شربة ماء».
([13]) هو سفيان بن سعيد الثوري رضي الله تعالى عنه، وكانوا يسمونه أمير المؤمنين في الحديث، ولد رضى الله عنه سنة سبع وتسعين، وخرج من الكوفة إلى البصرة سنة خمس وخمسين ومئة، وتوفي رضى الله عنه بالبصرة سنة إحدى وستين ومئة.
كان رضى الله عنه عالم الأمة وعابدها وزاهدها، وكان يقول: لا ينبغي للرجل أن يطلب العلم والحديث حتى يعمل في الأدب عشرين سنة، وكان يقول أيضًا: «لو أن عبدًا عبد الله تعالى بجميع المأمورات إلا أنه يحب الدنيا -إلا نودي عليه يوم القيامة على رءوس أهل الجمع: «ألا إن هذا فلان بن فلان، قد أحب ما أبغض الله تعالى» فيكاد لحم وجهه يسقط من الخجل». اهـ.