حكمة الأخذ بالأسباب(*)
وفي الأسباب فوائد منها: أنَّ الحق تعالى علم ضعف قلوب العباد وقصورهم عن مشاهدة القسمة، وعجزهم عن صدق الثقة؛ فأباح لهم الأسباب؛ إسنادًا لقلوبهم، وتثبيتًا لنفوسهم، فكان ذلك من فضله عليهم.
الفائدة الثانية: إنَّ في الأسباب صيانة للوجوه عن الابتذال بالسؤال، وحفظًا لبهجة الإيمان أن تزول بالطلب من الخلق؛ فما يعطيك الله من الأسباب فلا منة فيه لمخلوق عليك؛ إذ لا يمن عليك أحد إن اشترى منك أو استأجرك على عمل شيء؛ فإنه في حظه سعى، ونفع نفسه قَصَدَ؛ فالسبب أخذ منه بغير منة.
الفائدة الثالثة: إنَّ في شغل العباد بأسبابهم شغلًا عن معصيته، والتفرغ إلى مخالفته، ألا تراهم إذا تطلعت([1]) أسبابهم في أعيادهم وغيرها، كيف يتعرف أهل الغفلة لمخالفة الله تعالى! وينهمكون في معصية الله فكان شغلهم بالأسباب رحمة من الله عليهم.
الفائدة الرابعة: إنَّ في الأسباب والقيام بها رحمة بالمتجردين، ومنة من الله على المتوجهين لطاعته والمتفرغين لها، ولا قيام لأهل الأسباب بها؛ فكيف كان يصح لصاحب الخَلوة خلوته، ولصاحب المجاهدة مجاهدته، فجعل الحق تعالى الأسباب كالخدمة للمتوجهين إليه المقبلين عليه.
الفائدة الخامسة: إنَّ الحق تعالى أراد من المؤمنين أن يتألفوا؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، فكانت الأسباب سببًا لتعارفهم، وموجبة لتواددهم، ولا ينكر الأسباب إلا جاهل أو عبد عن الله غافل، ولم يبلغنا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا الناس إلى الله أمرهم بالخروج عن أسبابهم، ولكن أَقَرَّهُمْ على ما يرضاه الله منها، ودعاهم إلى وجود الهدى والقرآن والسنة مَحْشُوَّانِ بإثبات الأسباب، ولقد أحسن من قال:
ألم تر أنَّ الله قال لمريم |
* | إليك فهزي الجذع يساقط الرطب |
ولو شاء أدنى الجذع من غير هزها |
* |
إليها ولكن كل شيء له سبب |
إشارة إلى قوله تعالى: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾([2]) وظاهر صلوات الله عليه وسلامه بين درعين يوم أحد، وأكل عليه الصلاة والسلام القثاء بالرطب، وقال: «هذا يدفع ضرر هذا» وذلك كثير([3]).
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «تغدو خِماصًا وتروح بِطانًا» إثبات الأسباب أيضًا؛ لأن غدوها ورواحها سبب أقيمت فيه؛ فهو كغدو الآدميين إلى مكاسبهم، ورواحهم إليها، والقول الفصل في ذلك إنه لا بد لك من الأسباب وجودًا، ولا بد لك من الغيبة عنها شهودًا؛ فأثبتها من حيث أثبتها بحكمته، ولا تستند إليها لعلمك بأحديته، فإن قلت: فما هو الإجمال في الطلب في قوله عليه الصلاة والسلام: «فاتقوا الله واجملوا في الطلب».
([3]) روى الإمام البخاري والإمام مسلم وأحمد في مسنده عن عبد الله بن جعفر رضى الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل القثاء بالرطب، وفيما روي عن سهل ابن سعد وأخرجه أبو داود والترمذي عن عائشة، وأخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» عن عبد الله بن جعفر، ورواه ابن حبان في «الصحيح» عن أنس رضى الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل البطيخ بالرطب. اهـ.