فاعلم أنَّ الإجمال في الطلب يحتمل وجوهًا كثيرة، ونحن نذكر لك منها ما فتح الله به بفضله.
فاعلم -رحمك الله- أنَّ الطالب للرزق على قسمين: عبد يطلبه منهمكًا عليه، ومتوجها بكل همته إليه، وذلك مما يصرف وجهته عن الله؛ لأن الهمة إذا توجهت لشيء انصرفت عما عداه.
قال الشيخ أبو مدين رحمه الله: «ليس للقلب إلا وجهة واحدة، إن وجهته إليها انصرف عن غيرها، وقد قال الحق -سبحانه وتعالى-: ﴿مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾([1])». اهـ.
أي ما جعل له من وجهتين في وقت واحد؛ وذلك لضعف البشرية عن التوجه إلى وجهتين، فما توجه إنسان إلى وجهتين إلا ويقع الخلل في إحدى الوجهتين، والقيام بالأوجه كلها في الوقت الواحد من غير أن يقع في شيء منها خلل، إنما ذلك من شأن الإلهية([2])؛ ولذلك قال -سبحانه وتعالى-: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ﴾([3])؛ فأفاد بذلك أنه متوجه لأهل السماء ولأهل الأرض، لا يشغله توجهه لأهل السماء عن توجهه لأهل الأرض، ولا توجهه لأهل الأرض عن توجهه لأهل السماء، ولا شيء عن شيء؛ فلذلك كرر -سبحانه وتعالى- ذكر الإلهية في الآية الكريمة، ولو لم يكررها لم يفد ذلك من هذا اللفظ، بل مما بوجبه ما هو الحق عليه سبحانه.
فتبين لك من هذا أن من طلب الرزق مكبًّا عليه مشتغلًا عن الله تعالى به فليس مجملًا في الطلب، ومن طلبه على غير ذلك فهو مجمل.
وجه ثانٍ وهو: أن الإجمال في الطلب أن يطلب من الله تعالى، ولا يعين قدرًا ولا سببًا ولا وقتًا؛ فيرزقه الحق ما شاء كيف شاء في أي وقت شاء، وذلك من حسن الأدب في الطلب، ومن طلب وعين قدرًا، أو سببًا أو وقتًا، فقد تحكم على ربه وأحاطت الغفلة بقلبه.
ويحكي عن بعضهم أنه كان يقول: «وددت لو أني تركت الأسباب وأعطيتُ كل يوم رغيفين»، يريد بذلك أن يستريح من تعب الأسباب، قال: فسجنت، ثم كنت في السجن يؤتى لي كل يوم برغيفين؛ فطال ذلك عَلَيَّ حتى ضجرت، ففكرت يومًا في أمري، فقيل لي: «إنك طلبت منا كل يوم رغيفين، ولم تطلب منا العافية، فأعطيناك ما طلبت»، فاستغفرت الله من ذلك ورجعت إلى الله فإذا بباب السجن يقرع، فتخلصت وخرجت، فتأدب بهذا أيها المؤمن، ولا تطلب أن يخرجك من أمر، ويدخلك فيما سواه، إذا كان ما أنت فيه مما يوافق لسان العلم، فإن ذلك من سوء الأدب مع الله؛ فاصبر لئلا تطلب الخروج بنفسك، فتعطي ما طلبت وتمنع الراحة فيه؛ فَرُبَّ تارك سببًا ودخل في غيره ليجد الثروة والراحة، فأتعب وقوبل بوجود التعسر([4])؛ عقوبة لوجود الاختيار، وفي كلام كتبناه في هذا الكتاب: «طلبك للتجرد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية، وطلبك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد، انحطاط عن الهمة العلية».
فافهم -رحمك الله- أن من شأن هذا العدو أن يأتيك فيما أنت فيه مِمَّا أقامك الله فيه؛ فيحقره عندك لتطلب غير ما أقامك الله فيه، فيتشوش قلبك ويتكدر وقتك؛ وذلك أنه يأتي للمتسببين فيقول: «لو تركتم الأسباب وتجردتم لأشرقت لكم الأنوار، وصفت منكم القلوب والأسرار، قائلًا: وكذلك صنع فلان وفلان، ويكون هذا العبد ليس مقصودًا بالتجرد، ولا طاقة له به، وإنما صلاحه في الأسباب فيتركها فيتزلزل إيمانه، ويذهب إيقانه، ولا يتوجه إلى الطلب من الخلق، وإلى الاهتمام بأمر الرزق، فيرمي في بحر القطيعة، وذلك قصد العدو فيه؛ لأنَّه إما يأتيك في صورة ناصح؛ إذ لو أتاك في غيرها لم تقبل منه، كما أتى آدم وحواء عليهما السلام في صورة ناصح: ﴿وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخَالِدِينَ﴾([5]) كما تقدم بيانه، ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾([6]) كما تقدم بيانه، وكذلك يأتي للمتجردين ويقول لهم: إلى متى تتركون الأسباب؟ ألم تعلموا أن ترك الأسباب تتطلع معه القلوب إلى ما في أيدي الناس، ويفتح باب الطمع، ولا يمكن الإسعاف ولا الإيثار، ولا القيام بالحقوق؟ وعوض ما تكون منتظرًا ما يفتح به عليك من الخلق، فلو دخلت في الأسباب بقي غيرك منتظرًا ما يفتح عليه منك». اهـ.
إلى غير ذلك، ويكون هذا العبد قد طلب وقته وانبسط نوره ووجد الراحة بالانقطاع عن الخلق؛ فلا يزال به حتى يعود إلى الأسباب؛ فيصيبه كدرتها وتغشاه ظلمتها، ويعود الدائم في سببه أحسن حالًا منه؛ لأن ذلك ما سلك طريقًا ثم رجع عنها، ولا قصد مقصدًا ثم انعطف عنه، فافهم واعتصم بالله منه ﴿وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ...﴾.
وإنما قصد الشيطان بذلك أن يمنع العباد من الرضا عن الله فيما هم فيه، وأن يخرجهم عَمَّا اختاره الله تعالى لهم إلى مختارهم لأنفسهم، وما أدخلك الله تعالى فيه تولى إعانتك عليه، وما دخلت فيه بنفسك وَكَّلَكَ إليه، ﴿...وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا﴾([7])؛ فالمدخل الصدق أن تدخل به لا بنفسك، والمخرج الصدق أيضًا كذلك، فافهم!.
والذي يقتضيه الحقُّ منك أن تمكث حيث أقامك، حتى يكون الحق تعالى هو الذي يتولى إخراجك كما تولى إدخالك، وليس الشأن أن تترك السبب، إنما الشأن أن يتركك السببُ، قال بعضهم: «تركت السبب كذا وكذا مرة فعدت إليه، ثم تركني السبب فلم أعد إليه»، ودخلت على الشيخ أبي العباس المرسي وفي نفسي العزم على التجريد قائلًا في نفسي: «إن الوصول إلى الله تعالى على هذه الحالة بعيد من الاشتغال بالعلم الظاهر، ووجود المخالطة للناس».
فقال لي من غير أن أسأله: صحبني إنسان مشتغل بالعلوم الظاهرة وهو متصدر فيها؛ فذاق من هذه الطريق شيئًا، فجاء إليَّ فقال: يا سيدي، أخرج عما أنا فيه وأتفرغ بصحتك؟ فقلت له: ليس الشأن ذا، ولكن امكث فيما أنت فيه، وما قسم الله لك على أيدينا فهو إليك واصل. ثم قال الشيخ: ونظر إليَّ وقال: «هكذا شأن الصديقين لا يخرجون عن شيء حتى يكون الحق تعالى هو الذي يتولى إخراجهم»، فخرجت من عنده وقد غسل الله تعالى من قلبي تلك الخواطر، ووجدت الراحة بالتسليم إلى الله، ولكنهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هم القوم لا يشقى بهم جليسهم»([8]).
وجه ثالث: وقد يكون الإجمال في الطلب، وأن تطلب من الله تعالى، ويكون قصدك مناجاته لا عين ما طلبت، وإنما يكون الطلب توسلًا لها؛ ولذلك قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله: «لا يكن همك في دعائك الظفر بقضاء حاجتك، فتكون محجوبًا عن ربك، ولتكن همتك مناجاة مولاك». اهـ.
وقيل: إن موسى — كان يطوف في بني إسرائيل ويقول: «من يحملني رسالة إلى ربي؟»؛ وذلك لتطول مناجاته مع الله تعالى.
وجه رابع: وقد يكون الإجمال في الطلب أن تطلب، وأنت تشهد أنك مطلوب بما قسم لك، وأنك مقصود به، وليس طلبك موصلًا إليه؛ فيكون طلبك وأنت غريق في بحر العجز مغموس في وجود الفاقة.
وقد يكون الإجمال في الطلب ألا تطلب بحظ البشرية، ولكن لإظهار العبودية كما حكي أنَّ سمنون([9]) المحب رحمه الله كان يقول:
وليس لي في سواك حظ |
* | فكيفما شئت فاختبرني |
فابتلي بعلة الأسر -وهو احتباس البول- فصبر وتجلد، فطاوله ذلك فصبر وتجلد، إلى أن جاءه بعض أصحابه فقال: يا أستاذي، سمعتك البارحة وأنت تطلب من الله الشفاء والعافية. ولم يكن هو طلب، ثم جاء ثان، ثم جاء ثالث، ثم جاء رابع؛ فعلم أن مراد الحق منه إظهار الحاجة والفاقة؛ فسأل الله الشفاء، ثم صار يدور على صبيان المكاتب، ويقول: «ادعوا لعمكم الكذاب».
وجه خامس: وقد يكون الإجمال في الطلب أن تطلب من الله ما يكفيك، ولا تطلب منه ما يطغيك، غير متطلع إلى ما سوى الكفاية بالشره، ولا منبسطًا إليه بالرغبة، وقد علَّمنا ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إذ قال: «اللهم اجعل قوت آل محمد كفافًا»([10])، والطالب لما زاد على الكفاية ملوم، وطالب الكفاية غير ملوم بذلك، جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «ولا تلام على كفاف»([11])، ويكفيك في ذلك ما قال رسول الله لثعلبة بن حاطب لما قال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ثعلبة بن حاطب، قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه»، فكرر عليه ثعلبة؛ فأعاد عليه الصلاة والسلام ما قال أولًا: «قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه»، فما زال إلى أن دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اختار لنفسه؛ فكان عاقبة اختياره لنفسه، ومخالفته لمختار رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن كثر ماله حتى تعطل عن بعض الصلوات أن يصليها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا صلاة الجمعة، ثم كثرت أغنامه ومواشيه حتى لم يمكنه صلاة الجمعة أيضًا.
ثم جاء مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منه الزكاة فقال: «ما أراها إلا جزية أو أخت الجزية»، وامتنع من دفع الزكاة، وقصته مشهورة(1)؛ فأنزل الله تعالى فيه: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾([12]).
وجه سادس: وقد يكون الإجمال في الطلب([13])... أن يطلب العبد حظوظ دنياه، قال تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾([14]).
وجه سابع: وقد يكون الإجمال في الطلب أن يكون طلبك غير شاكٍّ في القسمهْ، ولا تاركًا حفظ الحرمهْ.
وجه ثامن: وقد يكون الإجمال في الطلب أن تطلب ولا تستعجل الإجابة، وغير الإجمال أن تستعجلها، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: «يستجاب لأحدكم ما لم يقل: دعوت فلم يستجب لي»([15])، وقد دعا موسى وهارون -عليهما السلام- على فرعون، فيما حكاه الله تعالى عنهما بقوله: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ﴾([16])، فقال سبحانه وتعالى: ﴿قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾([17])، وكان بين قوله تعالى لهما: ﴿قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا﴾ وإهلاك فرعون أربعون عامًا.
قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله في قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَاسْتَقِيمَا﴾؛ أي: على عدم استعجال ما طلبتما، ﴿وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾، قال: هم المستعجلون الإجابة.
وجه تاسع: وقد يكون الإجمال في الطلب أن يطلب وهو شاكر لله تعالى إن أعطي، وشاهد حسن اختيار ربه إذا منع؛ فَرُبَّ طالب لا يشكر إن أعطي، ولا يشهد حسن اختيار ربه في المنع، بل طالب من الله حازم أن المصلحة له أن يعطي، ومن أين لهذا العبد الجاهل أن يحكم على علم الله، وأن يعلم ما فيه غيب الله؟ وكفى بالعبد جهلًا أن يتخير على مولاه، بل إذا سألته فسله مفوضًا إليه غير مدبر معه ولا مختار عليه: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ﴾([18])، هذا فيما أبهم أمره والبيان في ذلك: أن المدعو به على ثلاثة أقسام: ما هو خير قطعًا؛ فاطلبه من الله تعالى من غير استثناء كالإيمان وجميع الطاعات، وما هو شر قطعًا؛ فاطلب([19]) من الله السلامة منه من غير استثناء، كالكفر والمعصية، وما هو مبهم الأمر كالغنى والعز والرفعة، فاطلب ذلك من الله تعالى قائلًا: «إن علمت ذلك خيرًا لي»، كذلك سمعت من الشيخ رحمه الله.
وجه عاشر: وقد يكون الإجمال في الطلب أن يكونوا في الطلب على سابق قسمته معتمدين، ولا يكونوا إلى طلبهم مستندين، وقد يكون الإجمال في الطلب أن يطلبوا وهم لعدم الاستحقاق شاهدون؛ فأولئك حري بهم أن يستوجبوا منة رب العالمين، قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله: «ما طلبت شيئًا إلا وقدمت إساءتي أمامي». اهـ.
يريد -رحمه الله- حتى لا يطلب من الله بوصف يستحق العطاء، بل لا يكون طلبه وجود فضله إلا بفضله؛ فهذه عشرة أوجه في الإجمال في الطلب، وليس القصد بها الحصر؛ إذ الأمر أوسع من ذلك، ولكن بحسب ما ناول الغيب، وأنعم به المولى سبحانه وتعالى، وهو كلام صاحب الأنوار المحيطة؛ فما يأخذ الآخذ منه إلا على حسب نوره، ولا يأخذ من جواهر بحره إلا على قدر قوة غوصه، وكل يفهم على حسب المقام الذي أقيم فيه: «تسقى بماء واحد، ونفضل بعضها عن بعض في الأكل»([20])، وما لم يأخذوه أكثر مما أخذوا، واسمع قوله عليه الصلاة والسلام: «وأتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصارًا»([21]).
فلو عبر العلماء بالله أبد الآباد عن أسرار الكلمة الواحدة من كلامه -لم يحيطوا بها علمًا، ولم يقدروها فهمًا، حتى قال بعضهم: عملت بهذا الحديث سبعين عامًا وما فرغت منه، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «من حسن إسلام المرء تركه ما لايعنيه»([22])، وصدق رضى الله عنه ولو مكث عُمْرَ الدنيا أجمع وأبد الآباد لم يفرغ من حقوق هذا الحديث، وما أودع فيه من غرائب العلوم وأسرار الفهوم.
([8]) هذه فقرة من حديث صحيح، ونصه كما أخرجه الإمام مسلم في «صحيحه» عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: «إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة فضلًا يتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسًا فيه ذكر قعدوا معهم، وحَفَّ بعضهم بعضًا بأجنحتهم، حتى يملأوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء قال: فيسألهم الله عز وجل -وهو أعلم بهم- من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض يسبحونك، ويكبرونك، ويهللونك، ويحمدونك، ويسألونك. قال: وماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك. قال: وهل رأوا جنتي! قالوا: لا، أي رب. قال: فكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك. قال: ومِمَّ يستجيرونني؟ قالوا: من نارك يا رب. قال: هل رأوا ناري؟ قالوا: لا. قال: فكيف لو رأوا ناري! قالوا: ويستغفرونك. قال: فيقول: قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا. قال: فيقول: رب، فيهم فلان عبد خطاء، إنما مر فجلس معهم، قال فيقول: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم». اهـ. [«صحيح مسلم» جـ17، ص15].
وفي رواية أخرى فيما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تَنَادَوْا: هلموا إلى حاجتكم. فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربهم -وهو أعلم بهم- ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يسبحونك ويكبرونك، ويحمدونك، ويمجدونك. قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله يا رب ما رأوك. قال: يقول: كيف لو رأوني؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك تمجيدًا، وأكثر لك تسبيحًا. قال: فيقول: فما يسألوني؟ قال: يقولون: يسألونك الجنة. قال فيقول: وهل رأوها؟ قال يقولون: لا والله يا رب ما رأوها. قال يقول: فكيف بهم لو رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصًا، وأشد لها طلبًا، وأعظم فيها رغبة. قال فَمِمَّ يتعوذون؟ قال: يقولون من النار. قال: يقول وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله ما رأوها. قال: فيقول: فكيف بهم لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا، وأشد لها مخافة. قال فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم. قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة! قال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم» [رواه البخاري].
([9]) وهو أبو الحسن سمنون بن حمزة الخواص رحمه الله تعالى، وكنيته أبو الحسن، ويقال: أبو القاسم سمى نفسه سمنونًا الكذاب، صحب السري السقطي، وأبا أحمد القلانسي، ومحمد بن علي القصار وغيرهم، يقول عنه الشعراني: «كان رضى الله عنه يتكلم في المحبة أحسن كلام، وهو من كبار المشايخ رضى الله عنهم، مات بعد أبي القاسم الجنيد على ما قيل، ومن كلامه رضى الله عنه: «أول وصل العبد هجرانه لنفسه، وأول هجران العبد للحق مواصلته لنفسه»، وسئل مرة عن التصوف فقال: «هو ألا تملك شيئًا ولا يملكك شيء»، وسئل عن المحبة فقال: «صفاء الود مع دوام الذكر»، وكان رضى الله عنه ظريف الخلق، أكثر كلامه في المحبة، وكان كبير الشأن كما قال عنه القشيري في «رسالته».
([10]) وفيما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما والترمذي وابن ماجه، عن أبي هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اجعل رزق آل محمد في الدنيا قوتًا».
([11]) بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثنى على من هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافًا، وأثبت الفلاح والفوز لمن قنع بذلك، فقد روى الطبراني في «المعجم الكبير»، والحاكم في «المستدرك» عن فضاله بن عبيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفلح من هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافًا، وقَنِعَ به». اهـ.
([13]) هنا سقط ونصه في «فروينه»: (أن تطلب من الله ما فيه رضاه وغير الإجمال...)، وسياق الكلام يقتضي ذلك.
([15]) هذا الحديث رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: قد دعوت فلم يستجب لي». اهـ.
([20]) وهذا اقتباس من الآية الكريمة: ﴿صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ﴾ [الرعد:4].
([21]) هذا الحديث رواه أبو يعلى في مسنده عن عمر رضى الله عنه، وفيما رواه عبد الرحمن بن إسحاق بسنده عن خالد بن عرفطة، قال: كنت جالسًا عند عمر إذ أتي برجل من عبد العيش مسكنه بالسوس، فقال له عمر: أنت ابن فلان العبدي؟ قال: نعم. قال: وأنت النازل بالسوس؟ قال: نعم. فضربه بقناة معه، قال: فقال الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين! فقال له عمر: اجلس. فجلس فقرأ عليه: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿الر تِلْكَ آَيَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ﴾ [يوسف:1-3]. فقرأه عليه ثلاثًا وضربه ثلاثًا، فقال له الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين! فقال: أنت الذي نسخت كتاب دانيال؟ قال: مرني بأمرك أتبعه. قال: انطلق فامحه بالحميم والصوف الأبيض، ثم لا تقرأه، ولا يقرأه أحد من الناس، فلئن بلغني عنك أنك قرأته أو أقرأته أحدًا من الناس لأنهكنك عقوبة... ثم قال: اجلس. فجلس بين يديه فقال: انطلقت أنا فانتسخت كتابًا من أهل الكتاب، ثم جئت به في أديم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ماذا في يدك يا عمر؟»، قلت: يا رسول الله، كتاب نسخته لنزداد به علمًا. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احْمَرَّتْ وجنتاه، ثم نودي بالصلاة جامعة، فقالت الأنصار: أغضب نبيكم صلى الله عليه وسلم ؟ السلاح السلاح! فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس، إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه، واختصر لي اختصارًا، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية؛ فلا تتهوكوا ولا يغرنكم المتهوكون» قال عمر: فقمت فقلت: رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا وبك رسولًا، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ». اهـ.