أولًا: صلاة التسابيح
رويت صلاة التسابيح بصورتها المعروفة عن جماعة عديدة من ثقاة المحدثين يقوي بعضهم بعضًا، ومن أصح وأحسن أسانيدها ما رواه أبو داود، وابن خزيمة، في صحيحه وابن ماجه عن عكرمة، وقد صححه المقدسي، والآجري، وأبو محمد عبد الرحيم المصري وغيرهم، وقد رواه الطبراني من هذا الطريق بزيادة دعاء بعد التشهد، وقبل السلام.
وكذلك وردت صلاة التسابيح من حديث ابن عباس وأخيه الفضل، وأبيهما العباس رضى الله عنه.
ووردت كذلك من حديث علي، وأخيه جعفر وابنه عبد الله -عليهم الرضوان-.
ووردت من حديث أم سلمة، وأنس، وعبد الله بن عمر، وأبي رافع، كما وردت من مرسل إسماعيل بن رافع، وغيره.
1- صحة رواياتها:
وقد نص على صحة حديث صلاة التسابيح أكثر من محدث ثبت ثقة، منهم: المديني، وابن منده، والسمعاني، والحافظ المنذري، وابن حجر، وابن الصــلاح، والتقي السبكي، والبلقيني، والزركشي، والأذرعي، وابن المفضل، والعلائي، والتاج ابن التقي السبكي، وآخرون.
وقد نقل النووي في الأذكار([1]) عن الإمام الدارقطني قوله: أصح شيء في فضائل السور فضل ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ [الاخلاص:1]، وأصح شيء في فضائل الصلوات صلاة التسابيح.
قال النووي: وقد نص جماعة من أصحابنا على استحباب صلاة التسابيح، منهم: أبو محمد البغوي، وأبو المحاسن الروياني.
وفي الترشيح قال التاج السبكي: من يسمع عظيم الثواب الوراد فيها، ثم يتثاقل عنها فما هو إلا متهاون في الدين، غير مكترث بأعمال الصالحين، ولا ينبغي أن يعد من أهل العزم في شيء.
وقال أبو عثمان الحيري: ما رأيت للشدائد مثل صلاة التسابيح.
وقد ورد أنها وسيلة مكفرة للذنوب، مفرجة للكروب، ميسرة للعسير، يقضي الله بها الحاجات، ويؤمن بها الروعات، ويستر بها العورات.
وقد أفرد الداراني والخطيب لصلاة التسابيح كتابًا أوردًا فيه طرق أحاديث هذه الصلاة وثبوتها.
كما أفرد أبو موسى المديني، وابن منده لتصحيح حديثها جزءًا خاصًا، وللتاج السبكي في ذلك كتاب (الترشيح لصلاة التسبيح) من خير ما في هذا الباب.
2- رد الطعن عليها:
ولم يطعن في صحة هذه الصلاة إلا ابن الجوزي، وهو معروف بالتعنت، ثم وافقه ابن تيمية، وهو معروف بالاندفاع، ودليلهما هنا أوهى من أن يُقَاوِمَ أدلة كل من ذكرنا من أئمة الحديث فحكمهما هنا ومن تابعهما ساقط الاعتبار نهائيًا، أما مقلدوهم فلا نظر إليهم، فأكثرهم طلاب شهرة، ومال، وفتنة، وتعصب.
وقد ثبت أن طائفة من أئمة السلف كانت تواظب على هذه الصلاة وتحث عليها، منهم: عبد الله بن المبارك، وأبو الجوزاء البصري، وابن أبي داود، وحسبك بأمثالهم قدوة، وإمامة. وهذه صلاة نافلة، من شاء فعل، ومن شاء ترك.
أما أن هذه الصلاة تخالف في بعض هيئتها صورة بقية الصلوات، فليس هذا عجيبًا؛ لأنها صلاة خاصة، شرعت لغرض خاص، كصلاة الكسوف، والخسوف، والعيدين ونحوهما ففيها مخالفة لصورة الصلاة المعتادة، بل إن في بعض الصحاح والسنن جواز أن يكون في كل ركعة من الصلوات الخاصة ركوعان، وثلاثة، وأربعة، وخمسة؛ لأنها صلاة مستقلة متميزة شرعت لغرض خاص مستقل.
3- صفتها وفضلها:
أما صفة هذه الصلاة وفضلها فهي كما جاء في نص حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس من عبد الْمُطَّلِب: «يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّاهُ أَلَا أُعْطِيكَ أَلَا أَمْنَحُكَ أَلَا أَحْبُوكَ؟ أَلَا أَفْعَلُ بِكَ عَشْرَ خِصَالٍ، إِذَا أَنْتَ فَعَلْتَ ذَلِكَ غَفَرَ الله لَكَ ذَنْبَكَ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، قَدِيمَهُ وَحَدِيثَهُ، خَطَأَهُ وَعَمْدَهُ، صَغِيرَهُ وَكَبِيرَهُ، سِرَّهُ وَعَلاَنِيَتَهُ؟ أَنْ تُصَلِّيَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ -أي بتسليمة واحدة- تَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَسُورَةً -يعني أية سورة شئت- فَإِذَا فَرَغْتَ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ وَأَنْتَ قَائِمٌ -أي بعد القراءة مباشرة وقبل الركوع- قُلْ: سُبْحَانَ الله وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَالله أَكْبَرُ خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً، ثُمَّ تَرْكَعُ فَتَقُولُهَا وَأَنْتَ رَاكِعٌ -بعد التسبيح المعتاد في الركوع- عَشْرًا -أي من التسبيح المذكور- ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ -قائلًا: سمع الله لمن حمده... إلخ- فَتَقُولُهَا -أي التسبيحات المذكورة- عَشْرًا، ثُمَّ تَهْوِي سَاجِدًا فَتَقُولُهَا وَأَنْتَ سَاجِدٌ -أي بعد التسبيح المعتاد في السجود- عَشْرًا -من التسبيحات المذكورة- ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ مِنَ السُّجُودِ فَتَقُولُهَا عَشْرًا -أي بعد التسبيحات المعتادة من السجود- ثُمَّ تَسْجُدُ فَتَقُولُهَا عَشْرًا ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ مِنَ السُّجُودِ فَتَقُولُهَا عَشْرًا -يعني وأنت جالس القرفصاء، أو جلسة الصلاة في الاستراحة الخفيفة المأثورة بين السجود والقيام- فَذَلِكَ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ تَفْعَلُ ذَلِكَ فِي أَرْبَعِ مراتٍ -أي في الأربع الركعات- فيتحصل منها ثلاثمائة.
4- تأكيد فعلها:
ثم قال صلى الله عليه وسلم للعباس رضى الله عنه: «إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُصَلِّيَهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً فَافْعَلْ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي عُمُرِكَ مَرَّةً»([2]).
5-القراءات بالسور ذوات الخصائص:
وعندنا يتحسن أن يقرأ المتعبد في هذه الركعات الأربع بعد الفاتحة بسورة مما جاء أنها نصف أو ربع أو ثلث القرآن ليحصل قدر من الثواب.
فمثلًا: يقرأ في الركعة الأولى بسورة (الزلزلة)، وقد روى الترمذي وجماعة أنها تعدل نصف القرآن.
ويقرأ في الركعة الثانية بسورة (الكافرون)، وقد روى البيهقي وجماعة أنها تعدل ربع القرآن.
ويقرأ في الركعة الثالثة بسورة (النصر)، وقد روى البيهقي -أيضًا- وآخرون أنها تعدل ربع القرآن.
ويقرأ في الركعة الأخيرة بسورة (الإخلاص)، وقد روى البخاري وغيره أنها تعدل ثلث القرآن.
هذا بالإضافة إلى سورة (الفاتحة)، وقد ثبت أنها أم القرآن، والسبع المثاني، والرقية الكبرى، والشفاء من كل داء، وأنها تعدل ثلث القرآن، كما رواه الترمذي وجماعة، فيتحصل له من القراءة وحدها ثواب القراءة والقرآن مرتين وأكثر من النصف -إن شاء الله- لمن وفقه الله.
ويستحسن -أيضًا- أن يعين المتعبد بهذه الصلاة وقتًا محددًا من كل أسبوع، أو شهر بحسب سعة وقته، في ويتخير وقتًا وقت مبارك كليلة الاثنين أو الجمعة أو ليالي الله، ولو في العمر مرة.
ثانيًا: صلاة الحاجة
وهي الصلاة التي يتوسل بها العبد إلى ربه فيما أهمه، ليقضي الله حاجته بفضله، ويهيئ السبيل الكوني المتبع بين الناس له بقدرته، فهي من أنواع التوسل بالعمل الصالح.
1- دليلها:
أ- روى الترمذي بسنده عن عُثْمَان بْن حُنَيْف أَنَّ رَجُلًا أَعْمَى أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي أُصِبْت فِي بَصَرِي فَادْعُ الله لي، قَال صلى الله عليه وسلم: «اذْهَب فتوضَّأ وَصَلِّ رَكْعَتَين، ثُمَّ قُل: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مَحَمَّد إِنِّي أَسْتَشْفِعُ بِكَ عَلَى رَبِّي فِي رَدّ بَصَرِي». قَالَ: فما لبث الرجل أن رجع كأن لم يكن به ضر قط. ثم قال صلى الله عليه وسلم: «وإن كانت لك حاجة فافعل مثل ذلك»([1]). تأمل. وفي بعض روايات الحديث خلاف يسير في الألفاظ، ليس بذي بال.
ب- وأخرج الطبراني في معجمه الصغير والكبير: أن رجلًا كانت له حاجة عند أمير الؤمنين عثمان بن عفان، وما كان عثمان يهتم بشأنه، أي في خلافته بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فلقي الرجل عثمان بن حنيف، فشكا له، فَعَلَّمَهُ صلاةَ الحاجة المذكورة، ففعل الرجل ثم أتى عثمان بن عفان فأكرمه وقضى حاجته، ثم لَقِيَ هذا الرجل عثمان بن حنيف، فشكر له ظنًا منه بأنه أوصى به عثمان بن عفان. فقال عُثْمَانُ ابن حُنَيْفٍ: وَالله مَا كَلَّمْتُهُ، وَلَكِنِّي شَهِدْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم وَأَتَاهُ ضَرِيرٌ، وقصَّ عليه القصة السابقة([2]).
والحديث صحيح على شرط الشيخين، كما رواه الترمذي، وابن ماجه، والطبراني، والبيهقي، والحاكم، وأقر صحته الحافظ الذهبي وتابعه ابن تيمية نفسه على صحته، وأخرجه البخاري في التاريخ، كما نص على صحته نحو خمسة عشر حافظًا رضى الله عنه.
جـ- وفي كتاب الترمذي، وابن ماجه قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتْ لَهُ إِلَى الله حَاجَةٌ أَوْ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِى آدَمَ فَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيُحْسِنِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ لْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ لْيُثْنِ عَلَى الله، أي: بالتحميد، والتسبيح، والتكبير ونحوه، وَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لْيَقُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، سُبْحَانَ الله رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، وَالسَّلاَمَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ، لاَ تَدَعْ لِي ذَنْبًا إِلاَّ غَفَرْتَهُ، وَلاَ هَمًّا إِلاَّ فَرَّجْتَهُ، وَلاَ حَاجَةً هِىَ لَكَ رِضًا إِلاَّ قَضَيْتَهَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ»([3]).
ولـه أن يزيــد مـن الأدعيـــة المأثــورة ومن غيرها ما يشــاء مما يوافق حاجته.
2- الخلاصة:
فمن كانت له عند الله حاجة لَازَمَ هذه الصلاة ولو في كل ليلة، أو في كل يوم مُكَرِّرًا ذلك، باحثًا عن الأسباب العادية الكونية حتى يهيئ له الله له السبب الذي يقضي به حاجته بفضله ورحمته، فذلك هو حقيقة التسليم والتوكل.
وعليه أن يدعو بعد هذه الصلاة بالدعاء السابق، ويضيف إليه دعاء الضرير المذكور في الحديث الأسبق مع إلحاحه في الدعاء بحاجته الخاصة.
ومن المستحسن أن يقنت بعد الركوع في الركعة الثانية، فهو من السنة الثابتة في الشدائد، وهو هنا أمثل وأفضل.
وكما تجوز صلاة الحاجة انفرادًا تجوز في جماعة يهمهم الأمر.
ثالثًا: صلاة الاستخارة
1- ثبوت سنتها:
أ- أخرج أحمد، والحاكم، وأبو يعلى، وابن حبان، والبزار بسند جيد، والترمذي من حديث سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ الله، وَمِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَاهُ الله، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ الله، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ سَخَطُهُ بِمَا قَضَاهُ الله»([4]).
ومن الثابت قولهم: لا خاب من استخار، ولا ندم من استشار.
وهي صلاة مستحبة عند الجمهور والجمع بين الاستخارة من الله والاستشارة من الناس من تمام الجمع بين طرفي السنة، قال قتادة: ما شاور قوم يبتغون وجه الله إلا هدوا إلى أرشد أمرهم.
ب- روى البخاري من حديث جَابِرٍ رضى الله عنه قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الاِسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا»([5]).
قال الشوكاني: هذا دليل على العموم وأن المرء لا يحتقر أمرًا لصغره، وعدم اهتمامه به فيترك الاستخارة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «وَليَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ حَتَّى شِسْعَ نَعْلِهِ»([6]).
وقد كان السلف يطلبون من الله حتى ملح الطعام وما هو أقل منه، ثم يأخذون في الأسباب.
2- كيفيتها والقراءة فيها:
أما كيفيتها كما رواها البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ...» أي يصليهما سنة نافلة بنية الاستخارة، ويقرأ فيهما بما شاء. وقد فضلوا أن يكون ذلك قبل النوم مباشرة فقد تصادفه رؤيا صادقة وهي جزء من النبوة.
قال صلى الله عليه وسلم: «ثُمَّ لِيَقُلِ». أي: بعد الصلاة، وهو على جلستها مستقبلًا القبلة، مستحضرًا حاجته إلى الله الدعاء الآتي:
3- دعاؤها:
«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ -ويجوز أن يسمي حاجته أو يكتفي بنيته والله أعلم بها- خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي -أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ- فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي -أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ- فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي...» ([7]).
ويجوز تكرار هذا الدعاء في هذه الجلسة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب تثليث الدعاء، حتى إذا انشرح صدره إلى أحد طرفي الأمر مضى فيه، على اسم الله وبركته.
4-معلومات عنها:
وأباح شيوخنا تكرار عمل الاستخارة إلى ثلاث مرات في ثلاث ليال، بل إلى سبع مرات، كما نقله ابن السني وغيره عن أنس إذا لم يتضح أمره وينشرح صدره لأحد حاليه. قال الإمام النووي: ينبغي أن يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح له، ثم قال: بل ينبغي للمستخير ترك اختياره رأسًا، وإلا فلا يكون مستخيرًا. قال: فإذا صدق في ذلك تبرأ من الحول والقوة ومن اختياره لنفسه.
قلنا: وعلينا ممارسة الأسباب الكونية مع الاستخارة، وما قُدِّرَ يَكُنْ.
رابعًا: صلاة التوبة
1- التوبة لمن:
يقول النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»([8]).
وفي الحديث: «إِنَّ الله يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ»([9]).
أي: ما لم تبلغ الروح الحلقوم، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزُّمر:53].
وقد ذهب الجمهور إلى أن قوله تعالى (جميعًا) يشمل الكبائر والصغائر، وهذا هو الأشبه بسعة الرحمة ورحابة عفو الله: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ [البقرة:222].
وهو يتولى تسوية تبعاتهم وتحملها عنهم كما ورد في حديث الرجلين اللذين جثيا بين يديه، وأحاديث أخرى.
وفرق ما بين والولاية والنبوة هو وقوع الخطأ، فالعصمة للنبوة لا الولاية، وإن كان للولاية حفظ، فما بالك بغيرهما؟
وطبيعة الإنسانية الخطأ، ومدعي العصمة كذاب، ولكن فرق ما بين الصالح والطالح أن الصالح يخطيء غير عامد ولا مصر، بل هو يخطئ آسفًا محسورًا ثم يتوب، وليس كذلك الفاجر المصر العامد، ولا المجاهر والمستهتر المفاخر بمعاصيه.
2- سنية صلاتها:
ومن ثم فتح الله الباب للصالحين، فقد روى أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي، والترمذي، وابن حبان، وابن خزيمة وصححاه عن أبي بكر رضى الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا، ثُمَّ يَقُومُ فَيَتَطَهَّرُ، ثُمَّ يُصَلِّي، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ الله إِلاَّ غَفَرَ الله لَهُ». ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران:135]([10]).
وقد أخرجه أحمد، والطيالسي عن أبي بكر عنه صلى الله عليه وسلم بلفظ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَيَسْتَغْفِرُ الله تَعَالَى إِلاَّ غَفَرَ الله لَهُ»([11]).
وأخرج البيهقي مرسلًا عن الحسن البصري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ أَذْنَبَ ذَنْبًا ثُمَّ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى بَرَازٍ -بفتح الباء يعني: فضاء- مِنَ الْأَرْضِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَاسْتَغْفَرَ اللّٰه مِن ذَلِكَ الذَّنْبِ إِلَّا غَفَرَ اللّٰهُ لَهُ»([12]).
3- كيفيتها وعددها:
وصلاة التوبة ركعتان ويجوز أن تكون أربعة، كما رواه الطبراني، وابن حبان، والبيهقي، وابن خزيمة، مع الخشوع والتأني والاستحضار الكامل. ولم يرد نص بقراءة خاصة فيها إلا أن بعضهم اختار القراءة بالآيات التي تذكر التوبة، كآية الحديث السابق، أو ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾ [آل عمران:135]، أو ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ﴾ [الشُّورى:25]، ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ...﴾ [الزُّمر:53] ونحوها.
وبعد الصلاة يدعو ويستغفر وهو على جلسته تضرعًا وخفية، ويكرر استغفار ختام الصلاة، وسيد الاستغفار، وما رواه الحاكم صحيحًا عن جابر عنه صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ مَغْفِرَتِكَ أَوْسَعُ مِنْ ذُنُوبِي، وَرَحْمَتَكَ أَرْجَى عِنْدِي مِنْ عَمَلِي»([13]).
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن كررها: «قُمْ غَفَرَ الله لَكَ».
ويحسن أن يكون ذلك بلا عدد مع الاستحضار والاستغراق؛ حتى يطمئن قلبه -بإذن الله-. ويجوز تكرار هذه الصلاة عدة أيام.
4- شروط التوبة:
وفي قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبْ ذَنْبًا». بالتنكير دليل على أن التوبة بهذه الصلاة مرجوة لكل ذنب كبر أو صغر -إن شاء الله- مادام قد تحقق فيها شرط الندم مع عدم العمد والإصرار، والاستجابة لله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [الشُّورى:25-26].
فالخطأ قضاء، والصواب عطاء.
هذا وقد وردت في هذه الصلاة كيفيات أخرى وأذكار وقراءات شتى، وكلها لم تأتِ من طريق صحيح سوى ما ذكرناه فيما نعلم.
خامسًا: صلاة الضحى
1- سنيتها وفضلها:
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: أَوْصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم بِثَلاَثٍ: «صِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَىي الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ»([14]).
ورى الحاكم، والطبراني، وأحمد، والترمذي، والنسائي، وأبو داود: أن الله تعالى في حديث قدسي قال: «يَا ابْنَ آدَمَ ارْكَعْ لِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَكْفِكَ آخِرَهُ»([15]).
والمقصود: ركعات الضحى.
وروى أحمد، وأبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم ما معناه أن صلاة الضحى تجزئ عن ثلاثمئة وستين صدقة([16])، وهي الصدقات اليومية المطلوبة من كل إنسان بعدد مفاصل عظامه.
وروى أحمد، والطبراني، وأبو يعلى: بَعَثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً -جماعة من الجيش- فَغَنِمُوا وَأَسْرَعُوا الرَّجْعَةَ؛ فَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِقُرْبِ مَغْزَاهُمْ وَكَثْرَةِ غَنِيمَتِهِمْ، وَسُرْعَةِ رَجْعَتِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَقْرَبَ مِنْهُ مَغْزًى، وَأَكْثَرَ غَنِيمَةً، وَأَوْشَكَ رَجْعَةً، مَنْ تَوَضَّأَ ثُمَّ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ لِسُبْحَةِ الضُّحَى -بضم السين أي: لصلاتها- فَهُوَ أَقْرَبُ مَغْزًى، وَأَكْثَرُ غَنِيمَةً، وَأَوْشَكُ رَجْعَةً»([17]).
وفي حديث مسلم: أن صلاة الضحى قد تغني عن سائر أنواع التسبيح، والتكبير، والتهليل، ويَسْتَغْنِي بها العاجزُ عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأخرج ابن أبي شيبة، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: إن صلاة الضحى لفي القرآن وما يغوص عليها إلا غواص.
يشير إلى قوله تعالى: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآَصَالِ (36) رِجَالٌ﴾ [النور:36-37]، وقوله تعالى: ﴿يُسَبِّحْنَ بِالعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ﴾ [ص:18] والغدو والإشراق: وقت الضحى. والآصال والعشي: وقت المساء.
2- ركعاتها ووقتها:
روى الترمذي: كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى حَتَّى نَقُولَ لاَ يَدَعُهَا، وَيَدَعُهَا حَتَّى نَقُولَ لاَ يُصَلِّي([18]).
أي أن سنتيها غير مؤكدة، فهي رغيبة مستحبة بالاختيار، وعدد ركعاتها غير محدد، فلك أن تصلي ركعتين أو تزيد إلى ما شاء الله.
وروى أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي في (الشمائل) وصححه السيوطي وغيره عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى أَرْبَعًا وَيَزِيدُ مَا شَاءَ الله([19]).
وفي حديث أم هانئ: صلاها النبي صلى الله عليه وسلم ثمان ركعات([20]).
وفي حديث أبي الدرداء: اثنى عشر ركعة.
وعن الحسن البصري: أنهم كانوا يظلون يصلون الضحى إلى منتصف النهار، أي قبل الظهر وبلا عدد. ويقرأ فيها بما يشاء. فَتَخَيَّرْ في كل مرة ما يناسب وقتك وهمتك.
وروى مسلم، والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى صلاة الضحى (صلاة الأوابين)، كالركعات الست بعد المغرب. ثم يدعو بعدها بما يحسه ويهمه، وبلغته التي تعبر عن نفسه، فاللغة وسيلة لا غاية.
ويبدأ وقتها من ارتفاع الشمس قدر رمح إلى وقت الزوال قبيل الظهر، كما سبق.
سادسًا: صلاة الليل (التهجد)
1- فضلها:
جعل الله قيام الليل والتهجد فيه من صفات المتقين، فقال تعالى عنهم: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الذاريات:17-18].
وجعلها من صفات عباد الرحمن فقال عنهم: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ [الفرقان:64].
ومن صفات المؤمنين فقال عنهم: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ [السجدة:16]، وبها أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ﴾ [الإسراء:79].
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الليل، فروى الطبراني عنه صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكُمْ بِصَلاةِ اللَّيْلِ وَلَوْ رَكْعَةً»([21]).
وفي وصية جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وَاعْلَم أَنَّ شَرَفِ الْمُؤْمِن قِيَام اللَّيْل([22]).
وروى ابن حبان في صحيحه عنه صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة في مسجدي هذا تعدل بعشرة آلاف صلاة، وصلاة في المسجد الحرام تعدل بمائة ألف فصلاة، والصلاة بأرض الرباط- أي: مجتمع المجاهدين على الثغور- تعدل بألفي صلاة، وأكثر من ذلك كله الركعتان يصليهما العبد في جوف الليل. فتأمل وفقك الله.
2- وقتها:
روى الطبراني من حديث إِيَاس بن مُعَاوِيَة الْمُزَنِيِّ عنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا بَعْدَ صَلاةِ الْعِشَاءِ الآخِرَةِ فَهُوَ مِنَ اللَّيْلِ([23]).
قال الحافظ: لم يكن لتهجده صلى الله عليه وسلم وقت معين.
نقول: ولكن وقت السحر أفضل لما رواه أحمد عنه صلى الله عليه وسلم قال لسائله عن أفضل أوقات الليل: «جَوْفُ اللَّيْلِ الْغَابِرِ أَوْ نِصْفُ اللَّيْلِ، وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ»([24]).
وروى مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن خزيمة عنه صلى الله عليه وسلم: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مَنَ الرَّبِّ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْأَخِير»([25]).
قلنا: وفيه من النفحات، والإمداد، والبركات ما لا ينكر.
3- ركعاتها:
روى الطبراني، والبزار عن سمرة بن جندب قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي من الليل ما قل وما كثر، أي من الركعات، ونجعل آخر ذلك وترًا([26]).
نقول: وذلك مراعاة لطاقة الإنسان واستعداده، وهو يتغير بتغير الظروف والأحوال، حتى لا يشق الأمر على العابدين.
وقد روى البخاري، ومسلم: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل المسجد وَحَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ فَقَالَ: «مَا هَذَا». قَالُوا لِزَيْنَبَ، تُصَلِّي فَإِذَا كَسِلَتْ أَوْ فَتَرَتْ أَمْسَكَتْ بِهِ. فَقَالَ: «حُلُّوهُ لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا كَسِلَ أَوْ فَتَرَ قَعَدَ»([27]).
وفي البخاري، ومسلم قال -صلى الله عليه وسلم-: «خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ الله لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا...» ([28]).
وروى مسلم عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْتَعْجَمَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ، فَلْيَضْطَجِعْ»([29]). يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.
4- آدابها وكيفيتها:
من آداب صلاة الليل النية قبل النوم، لما رواه النسائي، وابن ماجــه عنـه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عز وجل»([30]).
وله أن يصلي مثنى مثنى، وأن يصلي أربعًا أربعًا من ركعتين إلى ما شاء الله، صلاة طويلة حسنة متعادلة الأركان مستوفاة، موصولة بالله، كما جاء في حديث عائشة صحيحًا: كَانَ، يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ. الحديث.
فإذا كان قد أوتر قبل النوم فالأولى أن يستفتح صلاته بركعة واحدة ينوي بها ازدواج آخر ركعة في الوتر الذي صلاه قبل النوم، ثم يتهجد ما شاء الله، وبعد فراغه من تهجده يعود فيوتر ختامًا لصلاة الليل. وصلاتها في جماعة جائز.
سابعًا: ليلة النصف من شعبان
الأدلة الحاسمة على مشروعة إحيائها
1- تمهيد:
أصبح من معتاد الناس أن يستقبلوا شهر شعبان بالمعركة التقليدية المكررة بين القائلين باستحباب إحياء ليلة النصف من شعبان، والقائلين بالمنع في صلف، وخشونة، وجمود.
ونحن هنا نعيد نشر هذا البحث العلمي المنصف على يقين مسبق بأن خصوم إحياء هذه الليلة لن يزيدهم هذا الحق إلا عنتًا، وتشنجًا، وانطلاقًا في السباب بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير. وإنما هو التغالي والتعالي، وسرطان حب المخالفة، ودعوى الانفراد بالصواب، والوصاية على دين الله: ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ﴾ [البقرة:220].
والدين متين رفيق: «فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لاَ أَرْضًا قَطَعَ، وَلاَ ظَهْرًا أَبْقَى»([31]). كأن لم يبق من البدع إلا إحياء ليلة النصف، رغم ما ثبت في فضلها من الأحاديث والآثار التي سنذكر بعضها -إن شاء الله-.
2- من فضل ليلة النصف:
أ - روى ابن ماجـه بسندٍ حسنٍ عن عليّ -كرم الله وجهه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَقُومُوا لَيْلَهَا وَصُومُوا نَهَارَهَا. فَإِنَّ اللّٰهَ تَعَالَى يَنْزِلُ فِيهَا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: أَلاَ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ، أَلاَ مُسْتَرْزِقٌ فَأَرْزُقَهُ، أَلاَ مُبْتَلًى فَأُعَافِيَهُ، أَلاَ كَذَا أَلاَ كَذَا حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ»([32]).
قلنا: ولو لم يكن في فضلها إلا هذا الحديث الحسن الثابت لكفى في العناية بشأنها، وأنها ليست ككل الليالي، كما يقول بعض خلق الله، وهل كل الليالي وردت فيها أحاديث؟!
ب- وروى الطبراني عن معاذ بن جبل قال: قال صلى الله عليه وسلم: «يَطَّلِعُ اللّٰه عَلَى عِبَادِهِ لَيْلَة النِّصْف مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ»([33]). وفي رواية: «أو قاتل نفس».
جـ- وروى الترمذي في النوادر، والطبراني، وابن شاهين بسند حسن -أيضًا- من حديث عائشة قالت: قال صلى الله عليه وسلم: «هذه ليلة النصف من شعبان يغفر الله للمستغفرين، ويرحم المسترحمين، ويؤخر أهل الحقد على حقدهم»([34]). وحسبنا هنا هذه الأحاديث الحسنة المعتمدة عند أهل العلم حتى في الأحكام، بله الفضائل.
وحول هذا المعنى تدور عدة أحاديث أخرى تحبب في إحياء هذه الليلة، وتجعل قبول الدعاء فيها أرجى، والتعبد فيه أفضل، وتقطع دعوى القائلين بأنها ليلة ككل الليالي، والمسلمون جميعًا على اتفاق على الأخذ بالحديث الحسن.
3- توجيه معاني بعض أحاديث ليلة النصف:
أ - أخرج البيهقي في كتاب الدعوات الكبير عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام يصلي ليلة النصف من شعبان وقال: «في هذه الليلة يكتب كل مولود وهالك من بني آدم، وفيها ترفع أعمالهم،وتنزل أرزاقهم».
ونحن نفهم أن الكتابة هنا معناها نزول الأمر من اللوح المحفوظ إلى الملائكة الموكلين بتنفيذه، ولما كان الأمر مستورًا، ثم كشف كان كأنه بالنسبة لنا قد كتب في هذه الليلة. وعلى هذا المعنى وما هو منه نحمل ألفاظ الكتابة والنسخ التي تدور في أحاديث فضل هذه الليلة، فتكون ليلة النصف كالتمهيد والتقديم أو الإعداد لليلة القدر. وعليه يحمل رأي عكرمة وغيره توفيقًا بين ليلة النصف وليلة القدر.
ب- ومن دليل ذلك ما روى ابن أبي الدنيا عن عطاء قال: إذا كان ليلة النصف من شعبان دفع إلى ملك الموت صحيفة، فيقال اقبض من هذه الصحيفة، فإن العبد ليغرس الغراس، وينكح الأزواج، ويبني البنيان، وإن اسمه قد نسخ في ديوان الموتى([35]).
ومفهوم النص أن هذه الصحيفة قد نسخت من اللوح المحفوظ لينفذها الموكلون بها، وعيه يفهم -أيضًا- ما أخرجه الدينوري في (المجالسة) عن راشد بن سعد.
وقد أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن عائشة نحوه.
جـ- وقد أخرج الخطيب في التاريخ من طريق عامر اليمامي عن عائشة من حديث طويل قال -صلى الله عليه وسلم- فيه: «يا عائشة إنه ليس نفس تموت في السنة إلا كتب أجلها في شعبان، وأحب أن يكتب أجلي وأنا في عبادة ربي»([36]). وقد رواه أبو يعلى بنحو ذلك.
د- وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء بن يسار -رضى الله عنه- قال: لم يكن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- في شهر أكثر منه صيامًا في شعبان، وذلك أنه ينسخ فيه آجال من ينسخ في السنة([37]).
5- وأخرج الخطيب في رواية مالك عن عائشة -رضي الله عنها- قالت سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «يفتح الله الخير في أربع ليال: ليلة الأضحى، وليلة نصف شعبان ينسخ فيها الآجال والأرزاق، ويكتب الحاج، وفي ليلة عرفة إلى الآذان»([38]).
و- وأخرج الديلمي وابن زنجويه عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم قال: «تقطع الآجال في شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له، وقد خرج اسمه في الموتى».
وروى نحوه ابن جرير، والبيهقي في الشعب([39]).
ومثل هذا كله لا يقال بالرأي كما هو معلوم عند العلماء، وهذه الأحاديث وإن كان في بعضها ضعف أو لين فهي مجبورة ومتعضدة بتعدد طرقها وشواهدها، وهكذا تأخذ رتبة الحسن على الأقل، فيؤخذ بها فيما هو أخطر من موضوعنا هذا، وقد وجهناها هنا على ما نرجح، ولا نخالف توجيه غيرنا فلا موجب للجدل، والأمر فرعي اجتهادي لا يجوز أن يتفرق عليه المسلمون.
4- حول الحديث الضعيف:
وعلى فرض جدلي أن ضعفها غير مجبور، فقد جاءت في باب الفضائل، والأمة كلها على أن الحديث الضعيف يؤخذ به في الفضائل ونحوها بلا تثريب. وهو ما نقله النووي، وذهب إليه ابن الصلاح، وهو ما جاء عن السلف: كالثوري، وابن عيينة، ابن حنبل، وابن المبارك، وابن مهدي، وابن معين، وبوب له ابن عدي في الكامل، والخطيب في الكفاية...إلخ.
وذلك الحديث الضعيف في مفهومنا العلمي حديث تحققت فيه بعض شروط الصحة وإن تخلفت شروط أخرى فيه، فهو غير مجرد من الصحة، وهذا هو الفرق العلمي الكبير بينه وبين الحديث الموضوع، وإن جهل ذلك بعض خلق الله.
5- فضل الدعاء في هذه الليلة:
أ- روى البيهقي في حديث طويل عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل — فقال: هذه ليلة النصف من شعبان، ولله فيها عتقاء من النار بعدد شعور غنم بني كلب، قبيلة كبيرة كانت تعني بكثرة تربية الغنم، لا ينظر الله فيها إلى مشرك، ولا إلى مشاحن، ولا إلى مسبل، ولا إلى عاق والديه، ولا إلى مدمن خمر». قالت فسجد ليلًا طويلًا، وسمعته يقول في سجوده: «أعوذ بعفوك من عقابك، أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك، جل وجهك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك». قالت: فلما أصبح ذكرتهن له، فقال: «يا عائشة تعلمهن وتعلميهن، فإن جبريل —: علمنيهن وأمرني أن أرددهن في السجود».
وفي هذا الحديث اعتراف بفضل هذه الليلة، وتوجيه إلى التعبد فيها، وإلى اختيار جيد الدعاء معها، فليست إذن ككل الليالي، كما يقولون، وهل كل اليالي فيها مثل هذا القول والمناظرة؟ والترغيب المتلاحق الذي يوشك أن يكون أمرًا ملزمًا؟
ب- ثم إن هذا الحديث كغيره معتضد بحديث آخر رواه البيهقي -أيضًا- عن عائشة قالت: كانت ليلة النصف من شعبان ليلتي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي، فلما كان في جوف الليل فقدته فطلبته فإذا أنا به كالثوب الساقط، وهو يقول في سجوده: سجد لك خيالي وسوادي، وآمن بك فؤادي، فهذه يدي وما جنيت بها على نفسي، يا عظيمًا يرجى لكل عظيم، يا عظيمًا اغفر لي الذنب العظيم، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره. وفي وراية: فتبارك الله أحسن الخالقين. ثم رفع رأسه، ثم عاد ساجدًا فقال: أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقايك، وأعوذ بك منك، أنت كما أثنيت على نفسك. ثم ررفع رأسه فقال: اللهم ارزقني قلبًا تقيًا، من الشرك نقيًا، لا جافيًا ولا شقيًا. ثم انصرف.
جـ- قلنا: فلم يعد للمعترض وجه للاعتراض على إحياء هذه الليلة بالتعبد والدعاء لمن اتقى الله وترك التعصب التقليدي الكريه. ودعوى احتكار الصواب أو الانفراد بالعلم أو خدمة السنة من دون الأمة، أو التحكم فيما اختار المسلمون لأنفسهم من نوافل العبادات بما صح عندهم منها.
د- هذه الأحاديث التي أوردناها على اختلاف المفاهيم والمضامين والراتب العلمية يشد بعضها بعضا، فلم يبق شك في صحة محصلها، وهو فضل ليلة النصف وفضل الاهتمام بإحيائها، وبهذا أخذ أكثر السلف ممن لا يتهمهم الناس في علم ولا عمل، وحسبك أنه لا يوجد في رجال ما ذكرنا وما ذكر غيرنا من أحاديث فضل ليلة النصف من أجمعوا على ضعفه، ولا فيها رو كذاب وهذا ملحظ عملي له وزنه الكبير.
6- الركعات الست وقراءة يس:
أما ما تعوده الناس من صلاة ست ركعات أحيانًا بين المغرب والعشاء، فقد وردت عدة أحاديث ثابتة في سنية هذه الركعات الست. فإذا توسل العبد إلى الله بهن في رجاء جلب المنافع ودفع المضار فهو متوسل إليه تعالى بعمل صالح لا اعتراض عليه، كما أنها تكون في الوقت نفسه نوعًا من صلاة الحاجة المتفق على صحتها بين جميع أهل القبلة.
أ- وقد أخرج الطبراني في معاجمه الثلاثة عن عمار بن ياسر قال: رأيت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بعد المغرب ست ركعات، وقال: «من صلى بعد المغرب ست ركعات غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر»([40]).
ب- وكذلك توسل الناس إلى الله بسورة يس في هذه الليلة وغيرها؛ ابتغاء غفران الذنوب وتفريج الكروب ونحو ذلك، فهو توسل إلى الله بكتابه، وكلامه، وصفة مقدسة من صفاته، وسورة مجيدة فيها ترغيب وتحبيب أكيد، فلا جهل ولا ملامة. راجع ما كتبانه عن فضل سورة يس.
والمهم في الأمر ألا يعتقد أن ذلك شرع أكيد من خالفه أخطأ وعصى، وإنما هي فضال مباحة لمن يشاء بتوفيق الله، والموفقون قليل.
7- صوم نهار النصف:
أ- روى ابن ماجه عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَقُومُوا لَيْلَهَا، وَصُومُوا يَوْمَهَا. فَإِنَّ الله يَنْزِلُ فِيهَا لِغُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ أَلاَ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ، أَلاَ مُسْتَرْزِقٌ فَأَرْزُقَهُ، أَلاَ مُبْتَلًى فَأُعَافِيَهُ أَلاَ كَذَا أَلاَ كَذَا حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ»([41]).
وقد قدمنا هذا الحديث من رواية الدارقطني، وابن شاهين بإسناد حسنٍ عن عليّ. فبأي حق نمنع الناس من ذلك؟ وهذه كلها فضائل يؤخذ فيها بالضعيف غير المجبور بالمرة، فكيف بالحديث الحسن الذي نأخذ به في العبادات والمعاملات، وكيف بما يرتقي من الضعيف إلى مقام الحسن؟
ب- نحن نقلد من أجاز وهم يقلدون من منع، ولكل من الجانبين دليـل يطمئن إليه، فهل من الإنصاف العلمي أن يبيحوا لأنفسهم تقليد من شـاءوا، ويمنعوننا من تقليد من نشاء؟ وسنذكر أسماء من أجاز ومن منع فيما بعد.
8- الدعاء المشهور: (اللهم يا ذا المن):
أ- أما الدعاء المشهور فقد أخرج ابن أبي الشيبة في المصنف، وابن أبي الدنيا في الدعاءعن ابن مسعود رضى الله عنه قال: ما دعا عبد قط بهذه الدعوات إلا وَسَّعَ الله في معيشته: يا ذا المن ولا يُمَنُّ عليه، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطول والإنعام، لا إله إلا أنت ظهر اللاجئين، وجار المستجيرين، ومأمن الخائفين إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقيًا فامح عني اسم الشقاء وأثبتني عندك سعيدًا. وإن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب محرومًا أو مقترًا عليّ في الرزق، فامح حرماني، ويسر رزقي، وأثبتني عندك سعيدًا، موفقًا للخير، فإنك تقول في كتابك الذي أنزلت: ﴿يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ﴾ [الرعد:39] ([42]).
ب- وأخرجه ابن جرير، وابن المنذر، والطبراني عن ابن مسعود -أيضًا- بلفظ: اللهم إن كنت كتبتني في السعداء فأثبتني في السعداء، وإن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء وأثبتني في السعداء، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب.
جـ- نقول: ومثل هذا الدعاء مع الإخبار بأن الداعي به يُوَسَّعُ عليه في رزقه...إلخ لا يكون أبدًا إلا بتوقيف نبوي؛ فليس من شأن صحابي ولا غيره أن يخبر بجزاء عمل غيبي، وبخاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم حَيٌّ، والوحي مخصوص به لا ينزل إلا عليه، وآداب الصحابة لا تأذن لهم بأن يقدموا بين يدي الله ورسوله.
كما أن بعض المراجع تسند بعض ألفاظ هذا الدعاء إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه فيكون معنى هذا أنه دعاء كان معروفًا للصحابة متداولًا بينهم، ولم ينكره منهم أحد.
د- أما بقية الدعاء من عند قولهم: إلهي بالتجلي الأعظم...إلى نهايته فقد زاد الشيخ ماء العينين الشنقيطي وذكره في كتابه (نعت البدايات): ولا بأس به، فالاجتهاد في الدعاء سنة نبوية مقررة.
وعلى الداعي أن يتجاوز عن العبارة التي أثارت الخلاف منه، وهي قوله في وصف ليلة النصف:(التي يفرق فيها كل أمر حكيم ويبرم)، والراجح أنها مدسوسة عليه، أو أنه سار فيها على الرأي غير المشهور، إذ النص القرآني على أن هذا الفرق يتم في ليلة القدر.
والتعبير بالمضارع في (يفرق) يدل على الاستمرار، وفيه الرد علىٰ من قال: إن ليلة القدر كانت مرة واحدة لا تتكرر، فلا داعي للاهتمام بها -أيضًا- ونعوذ بالله من تجلط الفكر، ولزوجة الذهن، وضيق الأفق العلمي.
9- الكلام عن ليلة الفَرْق والإبرام:
وقد اختار عكرمة وطائفة أن ليلة الفرق هي ليلة النصف، وإليه مال الملا علي القاري، والإمام القرطبي لما أخرجه ابن جرير، والبيهقي، والدينوري، والإمام البغوي بإسنادهم: أن الآجال والأقضية تقطع في هذه الليلة.
وقد حاول الزمخشري، والكرماني، وأبو الضحى التوفيق بين هذه النصوص فقالوا: إن ابتداء التقدير يكون في ليلة النصف، ويكون الانتهاء في ليلة القدر. وهذا القول ينسب -أيضًا- إلى ابن عباس. ولا نحب أن نخالف في هذا ونذهب إليه، وإنما نتوقف ونسلم، وحسبنا من ليلة النصف البركة وقبول الدعاء، ورفع الأعمال وما بشرت به الأحاديث الشريفة.
10- مسألة المحو الإثبات:
أ- والخلاف في معنى المحو والإثبات وأم الكتاب واللوح المحفوظ، وهل هو محو الأقدار أو الشرائع كل هذا لم تجمع الأمة على جانب واحد فيه، فهو أمر اجتهادي محتمل لكل ذلك.
وعندما يدخل الاحتمال فإنه يسعنا ما وسع غيرنا، وهنا يكون لترجيحنا توجيه المحو إلى الأقدار، ومنها الشرائع، اعتبار الحجية والعلم المنهجي، والشمول المناسب لمفهوم الآية.
ب- ذلك لأنه ما من عبد يطلب من الله مطلبًا من الخير إلا كان معناه وحقيقته الواقعية هي رجاء الله في أن يمحو عنه مقابله من الشر، فطالب اليسر يسأل الله أن يمحو عنه عسره، وطالب الصحة يسأل الله أن يمحو عنه مرضه، وطالب القوة يسأل الله أن يمحو عنه ضعفه، وطالب الطاعة يسأل الله أن يمحو عنه المعصية.
وهكذا مطالب الإثبات في ناحية هي مطالب المحو بالتبعية في ناحية أخرى، وحسبك في هذا أن تتدبر بعمق قوله تعالى: ﴿إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود:114]، وقوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ [الفرقان:70]، وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الحَسَنَةَ﴾ [الأعراف:95].
والله يفعل ما يشاء ولا يُسأل عما يفعل، وهو على كل شيء قدير، وقد ذكر سبحانه وتعالى أنه يبدل السيئات حسنات بغاية الوضوح والصراحة، وفي الحديث الثابت لقوله صلى الله عليه وسلم أتبع السيئة الحسنة تمحوها، وأكدت الآية: ﴿إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود:114] وكلها من باب القضاء المعلق على ما سبق في علم الله، فلم يعد للجاجة هنا مكان.
والذي يراجع أدعية القرآن والسنة لا يجدها تعدو أن تكون طلبًا للخير واستعاذة من الشر. فالداعي يسأل الله المحو من ديوان السوء والإثبات في ديوان السعد. فالمسألة في القول الملفوظ وإلا لم يكن هناك معنى لقوله تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر:60]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ»([43]).
وقوله: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»، وقرأ قوله تعالى: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة:186]([44]).
جـ- والكلام في مسألة القضاء المبرم والقضاء المعلق تؤيدنا، وترغيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في قول ما أو عمل ما لجزاء ما أو عطاء رباني معين يؤيد قضية المحو والإثبات فقوله صلى الله عليه وسلم: من فعل كذا كان له كذا ومن أراد أن يكون كذا وكذا، فليفعل كذا وكذا، معنى ذلك: أن الله غالب على أمره، وأنه فعال لما يريد تعالى عن كل قيد حتى عن قيد الإطلاق لنفسه.
والحديث الشريف مفعم بالحث على ملازمة الدعاء، رجاء استبدال حال بحال. وقد نقل كبار مفسري القرآن هذا الوجه عن أكثرية السلف فإنه الوجه المناسب لمعقولية الأشياء، وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب حين خرج إلى الشام وقد وقع بها الوباء، أي: الطاعون، فلم يدخلها وقال: نفر من قدر الله إلى قدر الله([45]).
أي من إثباته إلى محوه، سواء كان على المعنى الحقيقي أو المجازي، وإلا وقعنا في عقيدة الجبر التي لا تجعل للدعاء ولا للعمل أثرًا فيما سبق به القضاء، وعندئذ يكون أمر الله وروسوله بالدعاء نوعًا من العبث -ونستغفر الله- وهذا ما وقع فيه المعترضون على دعاء ليلة النصف.
د- وعلى هذا ينكشف أن الزوبعة المفتعلة حول ليلة النصف وما حولها زوبعة مذهبية مغرضة، وليس في جانبها دليل قاطع، اللهم إلا الهوى، وحب الظهور بالمخالفة، وادعاء العلم بتجهيل خلق الله، ودعاء الوصاية على دين الله، بل على الله، فلو أنهم حاربوا في هذه الليلة السهر في البارات، والملاهي، والسينمات، وعلب الليل، والكبريهات، والمسارح، والانشغال بمغاضب الله وموجبات سخطه، لكان ذلك من المفهوم والمقبول، ولكنهم في شغل عن ذلك بدفع الداعين عن الدعاء، ورد الطائعين عن الطاعة، وتشكيك العابدين في كل عبادة بإشاعة عقيدة الجبر، وأنه لا فائدة في الدعاء؛ لأن ما سبق في علم الله لا يتغير.
أما أنهم يعمون عن هذه المناكر الموبقة، ويتجهون تلقاء رواد المساجد يصدونهم عن السبيل، ويحسبون أنهم مهتدون فذلك ما لا إيمان ولا خلق ولا عقل عاقل.
فأحيوا عباد الله ليليتكم بما يوفقكم الله إليه من الطاعات على أنها من نوافل الخير، وادعوا الله لأنفسكم ومخالفيكم فإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.
11- السلف وليلة النصف:
يقول ابن رجب في لطائف المعارف: وليلة النصف من شعبان كان التابعون (كذا) من أهل الشام كخالد بن معدان، ومكحول، ولقمان بن عامر يعظمونها ويجتهدون فيها بالعبادة، وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها. إلى أن قال: ووافقهم على تعظيمها طائفة من عباد أهل البصرة وغيرهم، ثم ذكر أسماء العلماء الذين خالفوهم، ثم نقل عن علماء أهل الشام رضى الله عنه أنهم فريقان:
أ- فريق استحب إحيائها جماعة، منهم من يلبسون أحسن الثياب، ويتبخرون في المسجد ليلتهم تلك. ووافقهم إسحاق بن راهويه وقال: ليس ذلك ببدعة كما نقله الكرماني في المسائل. وناهيك بابن راهويه شيخ الإمام البخاري تقىً وعلمًا بالسنة الشريفة.
ب- فريق أجاز إحيائها في المنازل وكرهوا إحياءها في المساجد، وهو قول الأوزاعي إمام أهل الشام وعالمهم الأكبر، واختاره ابن رجب.
وفي إحدى روايتين عن أحمد أنه استحب إحياء هذه الليلة لفعل عبد الرحمن بن يزيد بن الأسود من التابعين، وطائفة من أعيان فقهاء أهل الشام([46]). انتهى باختصار.
وناهيك بأحمد وبالتابعين فقهًا وعلمًا وورعًا.
جـ- فثبت بكل هذا أن السلف اهتموا بإحياء هذه الليلة باتفاق، وإنما اختلفوا في صورة الإحياء وموضعه، وهو اختلاف فرعي على الأصل المسلم به، وبهذا تنقطع حجة القائل بأنها ليلة كالليالي، أو أن إحياءها غير وارد. وكيف يكون كذلك وفيها كل هذا الاجتهاد العلمي العريض؟!
ثم إنه إذا صح الخبر عن هؤلاء الأئمة على علمهم وتقواهم، ثم جاء مخالف له عن عويلمة هذا الزمان ومتعالميه من المقلدة والمتعصبة وطلاب الشهرة والدنيا، فأي فريق نتبع؟ بعض الحياء أيها الناس!
12- بدعية صلاة الرغائب:
أما ما يسمى صلاة الرغائب فلا نقول بها. وقد قال الإمام النووي في المجموع: الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب وهي اثنتا عشرة ركعة بين المغرب والعشاء في ليلة أول لجمعة من رجب، وصلاة ليلة النصف من شعبان وهي مئة ركعة، هاتان الصلاتان بدعتنا منكرتان، ولا يغتر بذكرهما في كتاب قوت القلوب، أو إحياء علوم الدين، ولا بالحديث المذكور فيها، فإن كل ذلك باطل([47]). اهـ.
وبنحو ذلك قال الإمام المقديسي وابن رجب، ففي أحاديث هاتين الصلاتين انقطاع، وفيها مجاهيل، وهي موضوعة مكذوبة، وذِكْرُهَا في (القوت) و(الإحياء) كان من قبيل حسن الظن بها وعدم العلم بأنها مكذوبة.
فإحياء ليلة النصف يكون بالأدعية النبوية المأثورة ونحوها من أدعية الصحابة والتابعين والأولياء الصالحين، وبصلاة الليل المعتادة، وقراءة القرآن، والأذكار الشرعية الورادة على اختلاف مراتبها وأسلوبها، ثم بأوراد وأحزاب أهل الله رضي الله عنهم أجمعين، وبما يهم الداعي.
ومن شاء تصدق بما استطاع فجمع بين الحسنين، وأمر هذه الليلة كله اختيار، فمن شاء فعل كما فعل السلف فأحياها منفردًا أو جماعة، والجماعة أفضل فإن يد الله معها، ومن ترك فلا بغي ولا عدوان.
13- تحويل القبلة وليلة النصف:
وإن مما يضفي على هذه الليلة قداسة تاريخية ذات معنى أن في نهارها حَوَّلَ اللهُ القبلةَ من بيت المقدس إلى البيت العتيق استجابة لرغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أكثر اليهود اللغط بسبب اتجاهه صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس شأن أبيه إبراهيم، فكان صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في السماء، يطلب من الله أن يوليه قبلة يرضاها قطعًا للجاجة اليهود.
فبينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في مسجد بني سلمة صلاة الظهر مستقبلًا المسجد الأقصى بالشام إذا نزل قوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة:144] الآيات، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى الركعتين الأُولَيَيْن من صلاة الظهر فاتجه في الركعتين الأخيرتين إلى المسجد الحرام؛ ولذلك سمي هذا المسجد (مسجد القبلتين)، يزوره من زار مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يزور هناك من آثار.
قالوا: وبقى هناك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صلى صلاة العصر كلها بهذا المسجد متوجهًا إلى الكعبة تأكيدًا للحكم، وتثبيتًا للمسلمين، وإعدادًا لمواجهة حملة أعداء الإسلام على هذا الحدث.
وبهذا يصح التوفيق بين الروايات في أحاديث تحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت العتيق، وهل كانت في جزء من الصلاة، أو في صلاة كاملة، وهل كانت صلاة الظهر أو العصر؟ وكلها فرعيات على الأصل الثابت وهو التحويل.
وهنا قال السفهاء من الناس من اليهود والمشركين: ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ وكان الجواب الحاسم من السماء: ﴿قُلْ للهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ﴾ [البقرة:142].
ولم يكن هذا الحدث الكبير ليجري بالصدفة، فليس في علم الله صدفة، وإنما كل ما في علمه موقوت بوقته، مرهون بحكمته، محوط بسره، فدل على ما لهذه الليلة المباركة من منزلة وقدسية وفضل، وإن أنكره المنكرون وقلدهم العويلمة والببغاوات المتعالمة بلا تمحيص ولا إنصاف.
([4]) أخرجه الترمذي: (2151)، وقال: حديث غريب. وأحمد: (168/1 رقم 144). قال الحافظ في فتح الباري (184/11): سنده حسن وأصله عند الترمذي، لكن بذكر الرضا والسخط لا بلفظ الاستخارة. والحاكم: (699/1 رقم 1903)، وقال: حديث صحيح الإسناد. وأبو يعلى: (60/2 رقم 601). والبزار: (305/3 رقم 1097).
([13]) أخرجه الحاكم: (728/1 رقم 1994)، وقال: رواته مدنيون ممن لا يعرف واحد منهم بجرح ولم يخرجاه. والبيهقي في شعب الإيمان: (420/5 رقم 7126).
([16]) أخرجه أبو داود: (5242) بلفظ: عن بُرَيْدَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «فِي الإِنْسَانِ ثَلاَثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ مَفْصِلًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ كُلِّ مَفْصِلٍ مِنْهُ بِصَدَقَةٍ». قَالُوا: وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ يَا نَبِيَّ الله؟ قَالَ: «النُّخَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ تَدْفِنُهَا، وَالشَّيءُ تُنَحِّيهِ عَنِ الطَّرِيقِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَرَكْعَتَا الضُّحَى تُجْزِئُكَ».
([20]) أخرجه البخاري: (1103) عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ مَا أَنْبَأَ أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الضُّحَى غَيْرُ أُمِّ هَانِئٍ ذَكَرَتْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ اغْتَسَلَ فِي بَيْتِهَا، فَصَلَّى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، فَمَا رَأَيْتُهُ صَلَّى صَلاَةً أَخَفَّ مِنْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ.
([25]) أخرجه الترمذي: (3579) عن عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ...» قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
([35]) عزاه السيوطي في الدر التثور: (402/7) في تفسير قوله تعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان:40] لابن أبي الدنيا.
([38]) عزاه السيوطي في الدر المنثور: (402/7) في تفسير قوله تعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان:40] الخطيب في رواية مالك.