1- مشروعية الخلوة وأسرارها:
أصل الخلوة عند الصوفية هو استحباب الاعتكاف كما جاء الندب إليه في الإسلام. والخلوة نوع من الفرار إلى الله، وقد ألزمنا الله به فقال: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الذاريات:50]. وهي هجرة إليه تعالى: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ﴾ أي: مهاجر ﴿إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات:99]. وقد كان الاعتكاف أو الخلوة سنة ماضية في الأديان السابقة، فموسى واعد ربه ثلاثين ليلة، ثم تمت بعشر، فتم ميقات ربه أربعين ليلة. ومريم ابنة عمران، كان لها اعتكافها وميقاتها في المحراب. وكان ليحيى اعتكافه وميقاته ثلاث ليال سويًا. وكل ذلك ثابت في كتاب الله. فالخلوة ذهاب، وفرار، وهجرة إلى الله كما قال إبراهيم ولوط من قبل.
وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلى قبل البعثة في حراء، كما كان يختلي بعد البعثة في العشرين أو في العشر الآواخر من رمضان، وربما في غيرهما كذلك، فأصبحت الخلوة سنة نبوية من سنن الهدى الثوابت.
2- الخلوة لماذا؟
إذن فدين الله أن يخلو العبد القادر المستطيع إلى ربه فترة ترويض ورياضة؛ يتخلص فيها من عقده وأزماته ورواسبه النفسية، ويتطهر فيها من خطاياه وآثامه ونزواته، ويتضلع فيها بشحنة الإيمان واليقين والقرب من الله، فيخرج وقد صفا قلبه، واستنار باطنه، وانسلخ من أمراضه القلبية والنفسية والخلقية إن صح توجهه إلى الله، وخلصت نواياه في خلوته، بل إنه لينسلخ تبعًا لهذا من بعض أمراضه الجسمية والبدينة كذلك، فكأنما ولد ولادة أخرى إن وفقه الله، إضافة إلى الشحنة الإيمانية التي يحصلها.
ومتى ما ثبت أن الخلوة علاج روحي للأمراض النفسية والخلقية، ثم هي علاج للأمراض الجسمية المترتبة على الأزمات والعقد الانفعالات المختلفة، فقد علمت أن الخلوة بالتالي نوع من عزل المريض حتى يشفى، فلا يعدي غيره خلقيًا أو نفسيًا، ولا يتعرض هو للهلاك شأن الأمراض الجسمية المعدية سواء بسواء.
وشر الأمراض أمراض الباطن، وشر الآثار آثارها المدمرة، وشر الموتى موتى الأحياء.
3- فوائد الخلوة:
أما خلوة السليم فإنما هي لمضاعفة الشحنة الإيمانية، والترقي في معارج القرب، وطلب مفاتيح المدد، أو على الأقل زيادة طاقة اليقين والعلاقة بالله في نفس المريد، شأن خلوة الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان، وبهذا تصبح الخلوة ضروة إنسانية.
وكما يؤكد أطباء الصحة الجسمية والنفسية ضرورة تعين يوم دوري للراحة والاستجمام، فكذلك يقرر أطباء الأرواح ضروة تعيين فترة للتخلص من كافة الرواسب والمشاغل والشواغل، والمهام والهموم، والانصراف المطلق إلى الله، والاستمداد من الطاقة المقدسة للتخلص من المتاعب، والإجهادات، والمعايب المعنوية، والعودة إلى مواجهة الحياة بما هي أهله من حيوية وفهم وطاقة ورشد، ونظافة إنتاج حسي ومعنوي.
فليس أمر الخلوة كما يفهمه المتحاملون والحمقى من الانطواء والسلبية والضعف، أو الهروب من مواجهة مرارة الواقع أبدًا، إنما الخلوة استعداد وتدريب وتربية إيجابية، وقوة ومصابرة وكفاح مرير، لا يعرفه إلا ممارسوه. ولو أن واحدًا من أولئك القَوَّالِين حاول الاعتكاف والخلوة يوم واحد على متعارف الصوفية لما أطاق، ولفر فرار الجدي الجبان من الأسد.
4- الشروط العامة للخلوة:
وعند المحمديين أن شرط الخلوة هو شرط الاعتكاف، فقد أخرج البيهقي، وأبو داود عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتِ: السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لاَ يَعُودَ مَرِيضًا، وَلاَ يَشْهَدَ جَنَازَةً، وَلاَ يَمَسَّ امْرَأَةً، وَلاَ يُبَاشِرَهَا، وَلاَ يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ إِلاَّ لِمَا لاَ بُدَّ مِنْهُ، وَلاَ اعْتِكَافَ إِلاَّ بِصَوْمٍ، وَلاَ اعْتِكَافَ إِلاَّ فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ([1]).
وشرط المسجد الجامع هنا مقيد بما إذا كان الاعتكاف لمدة أيام تتخللها صلاة الجمعة، فإذا عتكف في غير المسجد الجامع خرج لصلاة الجمعة وجوبًا، وإلا فاعتكافه في غير المسجد الجامع صحيح.
وذلك خلافًا للمرأة فإنها تعتكف حيث شاءت لعدم فرضية الجمعة في حقها، ومسجد بيتها أولى بها، فإذا فضلت الاعتكاف في المسجد عند عدم الفتنة أو عدم السمعة والرياء ضربت لنفسها خباء خاصًا فيه، كما ثبت عن أمهات المؤمنين أنهن ضربن الأخبية في المسجد لما أردن الاعتكاف فيه، ولم ينكر عليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك.
وكذلك الرجل المعتكف في المسجد أو المتخلي إذا لم يضمن شتات قلبه ونفسه، أو خاف الرياء والسمعة، أو نحو ذلك ضرب لنفسه خباء في المسجد كما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رواه أحمد، ومسلم، وابن ماجه، وأبو داود وغيرهم.
ومن المتعين على المتخلي أن يؤدي قبل خلوته جميع التزاماته المادية والأدبية نحو عمله، ونحو أهله خاصة والناس عامة، فلا تكون خلوته سببًا في تضرر غيره بشيء من خلوته، ولا في انشغاله هو عن الله بشيء، ولهذا الشرط أهمية لا حد لها.
5- توقيت الخلوة وأهميتها الإنسانية:
ثم إن توقيت الخلوة وميقاتها موكول إلى المرشد الذي يزن جميع ظروف المريد وتحمله واحتمالات حياته، وملابساته الاجتماعية، والشخصية، والنفسية، والعائلية، والروحية، والعامة، والخاصة. وإن كانت السنة في أواخر رمضان.
فالخلوة إذًا إحدى وسائل المحافظة على الكرامة الإنسانية، وعلى الصحة الجمسية والنفسية، وعلى المعالم الدينية والروحية، وعلى المصالح الوطنية والقومية والتقدمية. وهكذا ينكشف للناس المفهوم الواقعي الأصيل للكرامة الإنسانية والإسلامية في مدلاولات التصوف الإسلامي ومجاهداته، كلما عميت عليهم أو كما استعصت بحكم الجهل والمادية، فتخبط في إدراكها الناس بين الشباب والمشيب، أو من الجهل والتعصب والتسلف المريب.
6- أنواع الخلوة:
وكذلك تختلف حال الخلوة باختلاف أحوال الناس، وباختلاف ما يراه المرشد الطبيب الرباني ملائمًا لكل أخ لاختلاف الظروف، والمناسبات، والقابليات وغيرها، فعندنا:
1- الخلوة الكاملة.
2- والخلوة الجزئية.
3- وخلوة الجلوة.
أ- فالخلوة الكاملة:
انعزال مطلق للعبادة لمدة ما، ولو في العمر مرة، إن لم يكن التكرار لتحصيل الفضل، وتكون في مكان صالح لذلك، والمسجد أولى، على أساس الذكر المعهود به إلى المتخلي بشروطه المقررة من شيخه، وأقلها من ثلاثة أيام إلى أسبوع، وأوسطها بين أسبوع وثلاثة أسابيع، وأكبرها بين أربعين وسبعين يومًا. فإذا كانت في رمضان فالسنة الثابتة بين عشرة الأيام أو العشرين الأخيرة. وهي ميقات النبي صلى الله عليه وسلم، أما ميقات موسى فكان كما ذكره القرآن أربعين ليلة، وميقات زكريا ثلاث ليال.
ب- والخلوة الجزئية:
هي الانعزال للعبادة يوميًا في مكان معين، لوقت معين ولو بعض ساعة، بعد الفراغ من قضاء مطالب الحياة اليومية المعتادة. وشروطها:
حفظ الجوارح والقلب تمامًا عن محارم الله أثناء الوجود مع الناس، والإسراع بالتوبة لمجرد الشك في مقارفة خلاف الأولى، مع الانشغال الدائم بالذكر المختار أيًّا كان، إن صمت اللسان فالقلب على ذكره مقيم مع دقاته لا ينقطع، والتدريب على ذلك يسير -بإذن الله-.
جـ-وخلوة الجلوة:
هي استمرار انشغال القلب بالذكر مع القيام بمطالب الحياة المعتادة، مع عدم مغايرة شيء منها (قلب مع الخالق، وجسم مع المخلوق) حتى يكون (الجمع في جنانه، والفرق في لسانه). وشروطها: حفظ الجوارح كما أسلفنا أثناء الوجود مع الناس. وليس فيه عزلة على الإطلاق، لا كلية ولا جزئية إلا بقدر مقدور، كلما أمكن ذلك بحسب ظروف المريد وطاقاته، وهذا متروك له، ويكفي أن ينوي العبادة بكل قول أو عمل.
عدد الذكر في الخلوة:
وعلى صاحب الخلوة الجزئية، وخلوة الجلوة، إذا كان مكلفًا بعدد محدد من الذكر، أن يعمل لنفسه مقياسًا، لِيَعْلَمَ متوسط عدد ذكره المعهود به إليه في الساعة الزمنية الواحدة، حتى لا يشغل نفسه بالعد على المسبحة فَيُسْتَهْدَفُ لما لا موجب له أثناء عمله الدنيوي، ووجوده بين الخلق.
نعم، إن للعدد سرًا خاصًا، لكنه يكفي متوسط العدد التقريبي هنا تجاوزًا.
ويكون حساب ذكره بحسب عدد الساعات أو أجزائها مضروبًا في متوسط الذكر في الساعة الواحدة كما جربه وعرفه من نفسه، فيسهل عليه الذكر بلا عد على المسبحة.
كيفية دخول الخلوة:
وأهم آداب الخلوة: تمام إخلاص النية، واستحضار ما يلزمه من طعام وشراب ومتاع ضروري مدة الخلوة، ثم ملازمة الصوم، والاكتفاء بالقليل من الطعام، والمنام، والانصراف بكليته عن مشاغل الحياة الدنيا، اعتمادًا على الله وتوكلًا عليه، وتفرغًا لعبوديته، فإذا عزم:
أولًا: حلل نفسه من حقوق الناس عليه.
ثانيًا: جهز لأهله كل ما يحتاجون إليه أثناء مدة خلوته، كأنه بينهم.
ثالثًا: دبر أمر عمله أو وظيفته أو تجارته؛ حتى لا تتوقف أو تضطرب، ثم اغتسل بنية الاعتكاف والخلوة وتعطر، ثم صلى ركعتي التوبة، وبقية شروط التوبة هي شروط السنة في الاعتكاف الشرعي. والبدء من صباح الجمعة أفضل.
ثم يخرج إلى المسجد منيبًا خاشعًا ضارعًا، فإذا دخله صلى ركعتيه صلاة مطمئنة متقنة، وقرأ الكهف لما ورد من أنها السنة في هذا اليوم، أو قرأ ما تيسر من القرآن، عندنا دائمًا نعني بتكرار سورة الإخلاص في كل مقام لمن لا يستطيع قراءة غيرها من القرآن، لما ورد فيها من ترغيب صحيح جليل.
ويلازم العابد بعد قراءة سورة الكهف الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مستحضرًا روحه الشريفة وأرواح أشياخه معه مقبلًا في موكبهم على الله بلا حجاب، ولا وساطة بينه وبين الله حتى يؤذن للجمعة وتنتهي شعائرها الإلهية، فيختم الصلاة ويدعـو بالمغفـرة والتوفيق والقبول، ثم يودع مرافقيه، ويتجه إلى خلوته (حيث تكون الخلوة) محافظًا على ألا يقع في مخالفة أثناء الذهاب إليها، ليقضي فيها ما شاء الله.
التعبد في الخلوة:
فإذا كانت الخلوة (عامة) جعل جوف الليل للتهجد والتسبيح والاستغفار، وبعد صلاة الفجر للقرآن، وبعد صلاة الضحى للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد صلاة الظهر للتهليل الأكبر: لا إله إلا الله وحده لا شريك له... إلخ، وبعد صلاة العصر للذكر الجامع: سبحان الله والحمد لله... إلخ، وبعد المغرب للتنفل بالصلاة المسنونة، وبعد العشاء يذكر اسم الله المفرد (الله) بقدر ما شاء الله له، ويردد مجموعة من الأسماء الحسنى وكلها عدة مرات، ما لم يؤذن بعدد مخصوص لبعض الأسماء والصيغ فيلازمه ليدرك أسراره وبركاته. ويجعل فيما بين كل ذلك فترات للراحة يملؤها بالدعاء والتعبد بالأحزاب لما ورد فيها، والتفكر في خلق السموات والأرض، وفي الآخرة والأولى، وفي نفسه وأسرارها، وما يجب عليه من تزكيتها، وما ينتظره من نعيمها وعذابها، مستظهرًا حق الله عليه، وكيف يؤديه في موكب الحياة جميعًا، حتى يقوم برسالته كاملة.
فإذا كان ينوي الخلوة لخدمة اسم معين من أسماء الله، أو صيغة أو ورد خاص اكتفى في خلوته بأداء الفرائض والنوافل والأوراد الحتمية، ثم ملأ كل الوقت بذكر الاسم المختار. وأكثر الشاذلية يَخْتَلُونَ بالاسم المفرد (الله)، وبعض السادة يقسمون الأسماء السبعة أو الأسماء الحسنى على أيام الخلوة. وللشيخ في ذلك نظر وتوجيه، ولكل مريد حكم خاص، قد يشابه غيره أو لا يشابهه، والله الموفق والمستعان.