كثيرًا ما يجري على ألسنة السادة الصوفية لفظ البركة بكل معناها الواسع الشامل للحس والمعنى، وكثيرًا ما يعترض الآخرون على على هذا الجانب بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير؛ ولهذا نكتب هذه الإشارة المجملة ردًا للموضوع إلى أصله من الكتاب والسنة.
من معاني البركة:
للبركة معانٍ شتى تختلف باختلاف سياقها من الآية أو الحديث، أو الأثر أو الموضوع، وكلها تتحد في الحقيقة، ومن معانيها هنا: الزيادة، والنماء. وهما يشملان المحسوسات والمعنويات جميعًا. والحقيقة أن البركة سر إلهي وفيض زاده الله تعالى ونَمَّى به أعمال البر بملازمة القربات الكريمة، فكانت البركة بهذه الثمرة معنوية غيبية من ثمرات العمل الصالح، يحقق الله بها الآمال، ويدفع السوء، ويفتح بها مغاليق الخير من فضله. فالبركة بهذا المعنى لون من الرحمة والفضل الإلهي، والخير الشامل والفائدة، واللطف الخفي، الذي يحبو الله به أعمال أوليائه وأحبابه الأبرار. ومحاولة صرف هذا المعنى الروحاني إلى معنى من معاني الوثنية، والتكلف في حمله على الغايات الحسية نوع من التحكم الذي لا دليل عليه، وما قال به إلا المصابون بالجمود المذهبي والوثنية العقلية.
عقيدة منكري البركة:
ونقول استطرادًا وتنبيهًا: تلك الطائفة التي تصور الله ذا جوارح وحدود، ومكان وحركة ثم يتناقضون مع البداهة العقلية، ومبادئ المنطق فيقولون مع هذا التمثيل المركب: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشُّورى:11] ورحم الله الزمخشري في قوله:
قد شبهوه بخلقه فتخوفوا |
* | شنع الورى فتستروا بالبلكفة([1]) |
ولا أعرف ولا يعرف العقلاء كلهم فرقًا في الوثنية بين من يصور أمام بصره ربًّا صنمًا حسيًّا يعبده، ومن يصور في ذهنه ربًّا وثنًا خياليًّا يعبده، فكلاهما وثني يعبد شيئًا محدودًا مصورًا من نتاج الذهن البشري (الحادث) والذي يستحيل عليه حقيقة (القديم) وتعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
ألوان من البركة:
ثم إن الله بارك القرآن في ذاته ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ﴾ [ص:29]، وبارك الزمان الذي أنزل فيه القرآن ببركة بيته العتيق ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾ [آل عمران:96].
وامتدت بركة القرآن من مكة إلى حيث نزل النبي صلى الله عليه وسلم ﴿وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا﴾ [المؤمنون:29].
وبارك الله الأسرة النبوية من إبراهيم ﴿رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ﴾ [هود:73].
ذلك أن الذات الإلهية التي أنزلت القرآن مباركًا ﴿تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ﴾ [الأعراف:54] مباركة الاسم ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ﴾ [الرَّحمن:78].
وبالإضافة نرى البركة كذلك في القران قد لحقت أشياء شتى، فمثلًا أدركت الأنبياء والصالحين معهم ﴿وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ﴾ [هود:48].
ويقول الله على لسان عيسى ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ﴾ [مريم:31]، وبارك الله الماء ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا﴾ [ق:9]، وبارك الشجر ﴿يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ [النور:35]، وبارك التحية ﴿تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبَارَكَةً﴾ [النور:61].
وبارك البقاع ﴿فِي البُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ﴾ [القصص:30]، وبارك المسجد الأقصى وما حوله: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ [الإسراء:1].
وفي التشهد: وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم. فهو قد بارك المحسوسات والمعنويات التي لا تحصى، وبارك الأشخاص والذوات كُلًّا بما يناسبه من مَعِين الفيض الذي لا ينتهي، فإنكار البركة إنكار لحقيقية قرآنية إلهية، لا يرتاب فيها مؤمن عاقل.