والكرامات عند أهل الله قسمان:
1- كرامة موهوبة.
2- وكرامة مكسوبة.
1- الكرامة الموهوبة: وهي أسمى نوعي الكرامة؛ لأنها تكون من الله للعبد هبة على مقتضى الحال والواقع، وفي الوقت المعين المحدد، بغير أي طلب من الولي لا بالقلب ولا بالهمة، وباللسان ولا بالابتهال، وإنما بالتفويض المطلق، والانصراف عما سوى الله، ولهذا كثيرًا ما تقع الكرامة وهو لا يدري بها: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ [الحج:38].
وتلك هي الكرامة التي يعتز بها الأولياء ويعتبرون أنها قدم (سيدنا إبراهيم وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهي المقام الذي يشير إليه الحديث القدسي الثابت: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين»([1]) فضلًا من الله ونعمة.
2- الكرامة المكسوبة: وهي من الدعاء المستجاب، يطلبها الولي بقلبه أو بلسانه فيستجيب الله له كما وعده. وفي أهل هذا المقام يأتي قولهم: «إن لله رجالًا إذا أرادوا أراد». أي إذا طلبوا منه أجابهم. فهم من أهل قوله تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر:60].
وهو أشبه بمقام اضطرار النبوة (فنادى...فاستجبنا له) كما جاء في سورة الأنبياء وغيرها. وبرغم شرف هذا المقام كما ترى فإن أهل الله من الكُمَّل يرونه من مقامات المبتدئين إلا عند الضرورة الملجئة كما كان من الأنبياء؛ وذلك لأنهم يرون:
1- الانشغال بالكرامة انشغالًا بالأثر عن المُؤَثِّر سبحانه، وهو عندهم خطيئة، ومن هنا اعتبروا الكرامة المطلوبة عورة حتى قالوا إنها (حيضة الولي). فهي في قانونهم نوع من الفتنة والابتلاء يجب ستره والتعفف عنه، إلا في مقام الاضطرار الملجئ كما سبق.
2- أنها عندهم نوع من الاقتراح على الله بما لا يتصور، فإنه من غير المقبول أن يقترح من لا يعلم على من يعلم، ولا أن يتطاول الأعمى على السميع البصير.
3- أنها مدرجة إلى النظر إلى النفس بعد النظر إلى الرب، فيخشى أن يدخل النفس منها تزكية وكبر أو ترفع، فيكون الخطر من تسرب خفي الرياء المدمر لكل عمل صالح.
4- أنها مظنة الغفلة باللتفات إلى الناس، والقاعدة عند أهل القرب أنه (من غفل عن ذكر الله طرفة عين فقد خان ربه) وهل بعد استدبار حضرة القرب إلا السلب والاستبعاد.
ولهذا كان كبار القوم يسألون الله النجاة من هذا المقام، أي من مقام الكرامة المطلوبة إلى مقام الكرامة الموهوبة، خوفا من هذه الأخطار الدقيقة يدركها إلا أهل (فقه المعرفة) وفي مقام الضرورة الملجئة، كما قدمنا فلا بأس من توجه الهمة أو الابتهال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة:173] وذلك لأنه لا يتحقق في مقام الاضطرار تلك المخاوف المعنوية التي أسلفناها، ونستغفر الله وتوب إليه.
مذهب أهل السنة في الكرامة:
مذهب أهل السنة جميعًا حتى الغالين والمتشددين منهم كابن تيمية مثلًا أن كرامات الأولياء حق، لا مرية فيه، وقد كرر ابن تيمية هذا الرأي عدة مرات في عدة من كتبه، وبخاصة العقيدة الواسطية، ثم ما كتبه ابن القيم وهو كثير جدًا، وذلك أن الكرامة في ماهيتها أمر ممكن دائر في محيط الجواز، وحصوله لا يؤدي إلى رفع أصل من أصول الدين، أو معارضه أو إنكاره، واتصاف الله تعالى بالقدرة المطلقة يجعله أمرًا مقدروًا، فلا يمنع شيء من وقوعه. وعند الإمام أبي القاسم القشيري في الرسالة: إن القول بوقوع الكرامة من الأولياء واجب لتمام أدلتها، ثم إنها بالتواتر واستمرار حدوثها أصبحت علمًا قويًا قد انتفت عنه الشكوك. ووافقه الإمام المحدث النووي في البستان، ولا أعرف من أهل الحديث من أنكر وقوعها على الإطلاق، وراجع إن شئت الميزان الذهبي، واللسان للحافظ، والإصابة له، والاستيعاب لابن عبد البر...إلخ إلخ.
ويقول الإمام الأصولي السعد التفتازاني في شرحه على النسفي عند الكلام على الكرامة: إنه بعد ثبوت الوقوع بالفعل لا حاجة إلى إثبات الجواز.
وهو رأي إمام الحرمين، والإمام الباقلاني، وبقية من نعرف من علماء الأصول وفقه الدين.
وللتاج السبكي في طبقات الشافعية([2]) بحث نفيس متكامل ينبغي الرجوع إليه، لأن استقصاء هذا الباب هنا يطول، وحسبنا منه ما قدمناه.
الكرامة بعد الموت:
والكرامة منحة إلهية من الله تعالى لعبده الصالح، حيًّا كان أو ميتًّا، وسواء أكانت موهوبة أم كانت مكسوبة بصدق اليقين، وإخلاص التعبد فإنما هي اعتبار غيبي معنوي مرتبط بخصائص الروح، واستعداداتها، ومجاهدتها في حياتها. والروح بعد فناء الجسد باقية، والله تعالى يقول: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعثُونَ﴾ [المؤمنون:100].
فالكرامة باقية بعد الموت ببقاء الروح وبخصائصها، وقد أشار إليها القرآن في قصة أهل الكهف ببناء المسجد على أهله، وأكدتها السنة الصحيحة، وبخاصة في قصة الصحابي عاصم بن ثابت، الذي استشهد فحمى الله جسده بالدَّبْـر، أي: النحل الجبلي الشرس المتوحش- حتى غيبته الملائكة([3]).
ولهذا يؤكد الصوفية أن الولي الكامل هو من تستمر كراماته بعد مماته كما كانت في حياته، فإن للأرواح العالية منزلتها الباقية عند الله خالدة مع خصائصها في ظلال فضل الله وهباته، وعطاياه.
وقد ذكرت كتب الحديث، والطبقات، والسير منها الكثير الثابت، ولابن أبي الدنيا مؤلف خاص فيمن عاش بعد الموت، وللمحدث ابن الصديق الغماري نُقُول ممحصة مقنعة في هذا الباب بكتابه (الحجج البينات). سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
من معاني قولهم أهل التصريف:
ومما يلحق ضرورة باب الكرامات ما يلغط به اللاغطون حول قولهم (أهل التصريف) فالقائلون بأن فلانًا من (أهل التصريف) مثلًا: يريدون أنه من أهل الوجاهة عند الله والقبول لديه، وأنه من أهل استجابة الدعاء، سواء كان نطقًا باللسان أو توجهًا بالقلب، أو تحركًا للإرادة. وكنه الهمة في حدود ما جاء في الحديث القدسي الصحيح: «وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ»([4]).
وحديث: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين»([5])، أو كما قال صلى الله عليه وسلم: «رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طَمْرَيْنِ مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللّٰهِ لأَبَرَّهُ»([6]).
وهو معنى قول السادة: إن لله عبادًا إذا أَرَادُوا أَرَادَ، ترجمة لقوله تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر:60] فافهم.
فالمراد بالتصريف هنا هو تفضل الله تعالى على عبده بإيقاعه تعالى الأمر كما سبق في علمه القديم على مراد عبده الظاهر، بما يجيء في دعائه القولي، أو توجهه القلبي، أو تحرك إرادته الروحية، وذلك تنفيذًا لترتيب الأسباب والمسببات على مقتضى ما في اللوح وأم الكتاب.
التصرف من الله ظاهرًا وباطنًا:
فليس العبد مصرفًا شيئًا مع الله تعالى، ولكن الله تعالى يتفضل فَيُصَرِّف الأشياء كما هي في علمه، على مراد أوليائه وأحبائه ظاهرًا فقط، تنفيذًا لسبق إرادته.
فأهل التصريف يعنون بهم (أهل الفضل الإلهي) الذين يكرمهم الله بتحقيق مرادهم الظاهر، وهو مراد الله الحقيقي الباطن فيما يطلبونه من الكونيات، سواء كان الطلب بالقول أو الفعل أو الهمة.
والهمة يعني بها كثير من الصوفية: تحرك الإرداة الروحية التي يجعلها الله سببًا عاديًا من أسباب انفعال الأكوان بقدرته تعالى؛ ليحقق بها المطلوب لعباده الصالحين في ظاهر الأمر على ما سبق في العلم القديم، فالمراد مراده، والأمر أمره، يجريه كما يشاء على يد من يشاء.
وبمعنى آخر: إن الله تعالى يجعل عبده الصالح نفسه أداة من أدوات تنفيذ المراد الإلهي الأزلي، الذي قد يظهر في صورة مراد العبد البشري، فيما يراه الناس.
ومثل ذلك: أن عيسى كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحي الموتى -بإذن الله-، وكان ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، وهو ليس إلا عبد أنعم الله عليه، وليس له من الأمر شيء ككل عبد.
لكن الله جعل إرادة هذا العبد سببًا عاديًا في سابق علمه، وجعل هذا العبد أداة لتنفيذ سابق المراد الإلهي الذي انفعلت به إرادة العبد البشرية على مقتضى العلم القديم، ففاضت به من عالم الغيب إلى عالم الشهود.
ومن الكذب المخزي والبهتان الخرافي، ومن ذرائع الكفر والشرك والزندقة أن يقال: إن وليًا لله، مهما كان شأنه، يتصرف في الكون كما يشاء، أو إن الله فوض الأمر إلى الولي ليفعل ما يشاء، أو إن الله بعد أن خلق الكون سلمه للأولياء ليدبروه كما يشاءون.
هذا مقام الربانيين:
وهذا المقام خاص بالربانيين الذين هم على أقدام الأنبياء ما يصدر عنهم ما ليس منهم، فقد ذابت بشريتهم، وفنيت إرادتهم، وبقيت روحانيتهم أثرًا لقيامهم في مقام المحبوبية، كما جاء في الحديث القدسي الصحيح عن الله يقول: «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا»([7]).
ومعنى هذا تجرده من كل شيء إلا من مظاهر انعكاس الصفات الإلهية عليه، فتظهر شئونه كأنها منه، وما هي إلا من الله، وهو مقام: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [ص:39].
وهو معنى قول السادة رضى الله عنه على لسان الحق: عبدي أطعني أجعلك ربانيًّا تقول للشيء كن فيكون، أخذًا من حديث: ما يزال عبدي... عند البخاري وغيره.
وقد بين الله طريق الدخول إلى هذا المقام فقال: ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ [آل عمران:79]، فالربانية الإسلامية نتيجة العلم، والدراسة، والتطبيق. وهذا مقام الاهتداء والإنابة، وهو غير مقام الاجتباء والإفاضة، وفي القرآن الكريم: ﴿اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ [الشُّورى:13].
ثم تأمل بعمق قوله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾ [الأنفال:17]، وقوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ﴾ [الواقعة:58-59]، وقوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾
[الواقعة: 63-64]، وقوله تعالى عن الماء: ﴿أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ﴾ [الواقعة:69]، وقوله عن النار: ﴿أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنْشِئُونَ﴾ [الواقعة:72]. إن الفاعل في الحقيقة هو الله، فافهم ذلك لئلا تخطئ أو تضل أو تتجنى، أو تنحرف فتنجرف ولم تكن تعلم.
معنى قولهم: مدد يا سيدي:
والقائل: (مدد يا سيدي فلان) فهو إما أن يطلب المدد من الحي أو من الميت (مددًا معنويًا) مما وهبه الله من الأسرار والطاقات، والمعارف والمقامات، ومختلف العطايا الإلهية، والهبات، والبركات.
فطلب المدد من الحي معناه طلب دعائه، وإرشاده، وروحانيته، وتوجييه وتوجهه بشحنته وتربيته، وبركة صلاحه وتقواه وسره مع الله، وما هو من هذه السبيل التي أشرنا إلى بعضها.
وطلب المدد من الميت طلب من روحه الحي في برزخه السامع المدرك الذي له ما يشاء عند ربه كما جاء تفصيل ذلك في الكتاب والسنة. راجع كتابنا عن الوسيلة والقبور. فمعنى المدد هنا هو طلب التوسل به إلى الله، والاستشفاع به إليه تعالى في قضاء الحوائج ودفع الجوائح، والتماس بركة مقامه عند الله، والاستمداد من مدد الله وسره: ﴿وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء:21].
وقد يحمل طلب المدد بمعنى طلب الدعاء من الروح في عالم الطهر والنور. وقد قرر ابن القيم في كتابه (الروح) أن للأرواح قوة، وطاقة، وقدرة لا يتصورها البشر، حتى إن روحًا واحدة عظيمة تؤثر في جيش كامل، وإن كنا لا نميل إلى هذا الجانب، إلا أننا نثبته.
وطلب الدعاء أو الشفاعة من الحي أو روح الميت طلب عبودية هنا وهنا، فهو مباح فإن مبادئ الإسلام لا تُعَرِّف شيئًا إِنْ طُلب من الحي كان عبودية، وإن طُلب من الأرواح كان عبادة لها.
وفي كتابنا عن الوسيلة والقبور أثبتنا أن التوسل إلى الله بصالحي الأحياء والموتى ليس معناه التوسل بالذات المشخصة من اللحم، والدم، والعظم، والعصب، وإنما هو توجه إلى الله بالمعنى الطيب في الإنسان، والمعنى الطيب ملازم للروح، سواء تعلقت الروح بالجسم في الحياة، أو تخلصت من الجسم بالموت، واستقرت في برزخها على مقامها هناك و ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ﴾ [آل عمران:163]، و ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾ [الأنعام:132]، ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾ [الصَّافات:164]، ﴿أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالفُجَّارِ﴾ [ص:28]، ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [الزُّمر:34]، ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ [آل عمران:170].
أما استشهاد بعضهم بآية ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُورِ﴾ [فاطر:22]
فالمراد الرفات لا الأرواح. وعلى كُلٍّ فالجسم أي اللحم والعظم لا يسمع نداءه في الحي ولا الميت إنما الذي يسمع ويعقل هي الروح في الحياة، وهي التي تسمع وتعقل بعد الموت، وترد سلام الزائر للقبر، وتستأنس به...إلخ.
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد حدث المشركين في قبرهم يوم بدر وقال لعمر: ما أنتم بأسمع منهم، فكيف بالميت الصالح المسلم؟!
وهذا القدر من العلم البسيط هو الكم المشترك بين جمهور المسلم، ثم ينفرد الخاصة من أهل الله بما يقرره الدين والعلم القديم والحديث من إثبات الطاقات، والقوى، والسيالات، والتيارات، والأسرار الروحية التي تنفعل لها الأشياء بقدرة الله في الأحياء والموتى كسبب من الأسباب الطبيعية في سنة الله ونواميس الكون.
ولهذه الطاقات، والقوى، والسيالات الكهربية والمغناطيسية والروحية آثار إيجابية مُسَلَّم بها علمًا ودينًا وتوجيهًا من الإنسان أو منه إلى بعض الأكوان، له ما له من التأثير العجيب عند أهل العلم والمعرفة والتجربة قديمًا وحديثًا: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الإسراء:20]، ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ [الجاثية:13].
وها هو ذا العلم الأوروبي الحديث بكل إيجابيته يحاول الانتفاع بهذه القوى الروحية في انتقال الأفكار، والتأثير الشعوري، وكشف بعض المساتير في طاقات الإنسان وقواه الغيبية، والاتصال عن بعد.
ولنضرب مثلًا بالحسد أو التنويم المغناطيسي، وأثرهما محسوس مقرر في العلم والقانون والشريعة، ويشهد لذلك ما نرى من قوة الشخصية وهيبتها، وضعف الشخصية وتفاهتها، وانعكاس هذا وذاك على الآخرين، فهذا شيء من بعض معاني المدد عن المحققين. ولا يقولن قائل، عالم أو جاهل، إن في هذا دعاء لغير الله، أو طلبًا من سواه، فطالب المدد طالب خير من الله، وملتمس منه مدده بوسيلة مشروعة، وهو صاحب استشفاع مستحب، كما أسلفنا ذلك.
وطالب المدد متوجه إلى الله بثلاثة أسباب مجتمعة:
1- لجوؤه وافتاره، وعلمه الصالح.
2- اعترافه بالتقصير باستصحاب الوسيلة.
3- طاعته لأمر الله تعالى في اتخاذ الوسيلة إليه، ولو لم يكن إلا هذه الأسباب لكفت الإنسان المنصف.
توجيه ومزيد بيان:
وأساليب اللغة من حيث: المجاز والاستعارة، والكناية، والبلاغة في نحو الحذف وغيره، ثم واقع الأمر في طالب المدد، كل ذلك يحمل عنه وزر الجهل والخطأ وحكم العادة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «كفوا عن أهل لا إله إلا الله، لا تكفروهم بذنب، ولا تخرجوهم من الإسلام بعمل»([8]).
وبهذا ينضم الدين إلى جانب الجاهل والمخطيء في التعبير بغير عمد ولا إصرار، وعلى العالم أن يُبَصِّر الجاهل إلا ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ.
وقد قررنا: أن المتوسل والمستشفع وطالب المدد كلهم معترف بذنوبه مقر بعيوبه، متجرد من حوله وقوته. فهو لا يرى نفسه أهلًا للمثول في الحضرة العلية بما عليه من الأوزار والأوضار، وبخوفه حتى من أن تكون طاعته مدخولة مردودة، فهو يرجو أن يتقبله الله ويغفر له بتجرده من ظلمة عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ، ثم ببركة من يعتقد الخير فيه من أهل الله. فهو كما يتوجه إلى الله بخوفه من نفسه يتوجه إليه تعالى برجائه في حبه لغيره، وبهذا يجمع أطراف الخير جميعًا.
وهكذا يبدأ المتوسل وطالب المدد (تذللًا، وتواضعًا، وانكسارًا) من مقام الخوف من الله والفقر إليه إلى مقام الرجاء فيه والثقة به، فانيًا عن ذاته وجهده، فيتردد بين فضلين ربانيين: الخوف، والرجاء، لا يخطئه أحدهما -بإذن الله-.
والأعمال أولًا وأخيرًا بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، والحديث النبوي يقول: «ألا هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ»([9]).
«سَدِّدُوا وَقَارِبُوا...» ([10]).
و: «يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا»([11]).
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين التقوى؟ فأشار إلى صدره ثلاثًا يقول:
«التَّقْوَى هَا هُنَا»([12]). وإذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات، فكيف بما دونها؟ وكيف يقال لصاحب المدد إنه كفر أو على الأقل فسق؟ إن علينا أن نصحح له عبارته حتى تتسق مع نيته الشريفة.
وفي حديث: «يا عباد الله أعينوا». كما سيأتي دليل قاطع على جواز، بل على الندب إلى طلب المدد.
وقد ثبت أن رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: أريد مُرَافَقَتُكَ في الجنة. فقال صلى الله عليه وسلم للرجل: «أعني على نفسك بكثرة السجود»([13]).
أي العبادة. فتأمل أطراف هذا الحديث فهي شتى تؤكد أهمية مشروعية طلب المدد من الله عن طريق عباده الصالحين.
مدد مدد
أتسخر منا لقول مدد |
* | ولست الفقيه، ولا المجتهد |
أتسخر منا، بلا حجة |
* | وقد قال ربك كلًا نمد |
عطاء، رخاء، تجلى به |
* | وكل عليه، به يعتمد |
ففيم الملام، وفيم الخصام |
* | وليس المعقد كالمعتقد |
لنا علمنا، ولكم علمكم |
* | وكل إلى حجة يستند |
فقد نتأول إذ نرتجي |
* | وقد نتوسل إذ نستمد |
تجاربنا حجة بيننا |
* | وما من أفاد، كمن لم يفد |
فإن كنت تفهمنا فاعتقد |
* | وإلا فدعنا، ولا تنتقد |
ومـــدد
عابوا علينا أن نقول |
* | مدد وقالوا: لم يرد |
قلنا: بلى، هو وارد |
* | أو فاحذفوا (كُلًّا نُمِد) |
ومـــدد
علىٰ كل حال أقول (مدد) |
* | من الله، لا غير، لا من أحد |
فإن قد ألمت، وإن قد سلمت |
* | أقول (مدد) يا إلهي (مدد) |
ومن معاني قولهم: (نظرة)
وما يقال في معنى المدد، وطلبه من الله عن طريق الأحياء والموتى يقال كذلك في معنى (النظرة) وطلبها من الله، فالأمر منه وإليه: ﴿وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء:21].
وقد اتفق العلم القديم والحديث على أن نظرات الناس تختلف باختلاف الانفعالات، وباختلاف شحنتها من القوى والطاقات الباطنية في الإنسان، وهذا أمر محسوس فلكل نظرة معنى، ولكل نظرة تأويل، ولكل نظرة حديث روحي تفهمه العقول وتتأثر به القلوب والعواطف، والشاعر يقول:
عيناك قد دلَّتا عيني منك علىٰ |
* | أشياء، لولا هما قد كنت تخفيها |
والعين تعرف من عيني محدثها إن |
* | كان من حزبها أو من أعاديها |
وهكذا يختلف معنى النظرة في القرآن المجيد باختلاف المضمون والمدلول والمفهوم، فمثلًا:
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ [التوبة:127]، فهي نظرة حقد ونفاق.
وقوله تعالى: ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصَّافات:88-89]، فهي نظرة حكمة تخلص واعتذار.
وقوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ﴾
[الواقعة:83-84]، فهي نظرة عجز وإشفاق.
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ﴾ [المدَّثر:21-22]، فهي نظرة خبث وتماكر وتفكير.
وقوله تعالى: ﴿عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ [المطَّففين:23]، فهي نظرة إيمان وسعادة...إلخ.
إن التنويم المغناطيسي الصادق أساسه النظرة.
وإن الانفعال بالحب أو البغض أو السكون أو الخوف أساسه النظرة.
وإذن ففي النظرة سر يُرَى ويُسْمَع ويُحَس، وفي الحديث الثابت: «الْعَيْنُ حَقٌّ»([14]).
ومن هنا نفهم قوله تعالى فيمن أحبهم: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة:22-23].
في مقابلة قوله تعالى فيمن يكرههم: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ﴾ [آل عمران:77].
ولأمر ما قال تعالى: ﴿لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾ [البقرة:104].
ولأمر ما قال تعالى عن غيرهم: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ﴾ [النساء:46].
ولأمر ما قال موسى: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف:143].
فالنظرة إذًا نوع من الإمداد الغيبي تُرْسِلُ به عين البصر أو البصيرة، وفي إشعاعاتهم سيالات قوية وتيارات نفاذة مؤثرة. وأنت واجد تجربة ذلك مكررة في اختلاف نظراتك اليومية إلى أولادك ومرءوسيك، والناس كلهم ممن تتعامل معهم أو لا تتعامل معهم في حالتي الرضا والانقباض.
ألا ترى نظرة المنوم المغناطيسي الصادق؟ ألا ترى نظرات قواد الجيوش والحركات الثورية؟ ألا ترى إلى نظرات الخطباء، والمحاضرين، والممثلين؟ ألا ترى إلى نظرات المجرمين؟ ألا ترى إلى نظرات المحبين؟ ألا ترى نظرات السعداء والمحزونين، والخائفين، والواثقين؟
يقول مولانا الإمام أبو الحسن الشاذلي ما معناه: نحن كالسلحفاة نربي أولادنا بالنظرة.
ويقـول: لا والله مـا بيــن وبيــن المريــد الصـادق إلا أن أنظر إليه، وقد كفيته.
نظرة القوة الخارقة، والروحانية النافذة التي تنفعل لها الأشياء. وطلب النظرة من الميت الصالح أدخل في هذا الباب، وأجمع لمتعلقات الغاية؛ لانعدام العوائق والعلائق البشرية ،واختفاء الحدود والقيود والأزمنة. وكل ذلك دائر في المجال الإمكاني المحكوم شرعًا بالإباحة، وهو لا يتعارض مع العلم، ولا مع الناموس الكوني، ولا مع معقولية الأشياء، ولا مع معلوم بالضرورة من دين الله، ولا مع تجارب العلم والتكنولوجيا.
هذا، وطالب المدد أشياخه قائمون جميعًا على قدم العبودية في ساحة العطاء الأقدس، وما منهم إلا من يدندن بطلب النظرة والمدد من ربه في حضرة الفَرْق، حتى يفنى عن النظرة والمدد في حضرة الجمع، ثم يبقى بعد ذلك بالناظر الحق الممد وحده عز وجل في حضرة البقاء والتجريد الأعظم.
اللهم نظرة ومددًا، وليس إلا منك النظر والمدد.
اللهم وأذق من يظن بنا الجهل والخرافة حلاوة سر النظرة، نظرته إليك ونظرتك إليه، وأذقه حلاوة المدد الحق حتى يقول معنا (إلهي النظرة والمدد).
هو الإنسان (روح) ليس إلا |
* | حياتيه بآيات (الكتاب) |
وما الأبدان فوق الأرض إلا |
* | تنوء، وامتداد للتراب([15]) |
أيضًا في صحة قولهم مدد ونظرة.
من الثابت قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا انفلتت دابة أحدكم في أرض فلاة فليناد يا عباد الله احبسوا، فإن لله تعالى حابسا في الأرض يحبسه»([16]).
وفي رواية: «فإن لله عز وجل حاضرًا سيجيبه».
قال النووي: إنه جربه هو وبعض أكابر شيوخه ووجد أثره.
وفي رواية: «إذا أضل أحدكم شيئًا أو اراد عونا وهو بأرض ليس بها أنيس فليقل: يا عباد الله أغيثوني، يا عباد الله أغيثوني فإن لله عبادا لا نراهم». قال عتبة -رضى الله عنه- راوي الحديث: إنه قد جرب ذلك فوجد([17]).
وهذا بعينه هو ترجمة قولهم مدد، فإن الإعانة أو الإغاثة كما تكون بالحس تكون بالمعنى، والله الفعال، والخلق أداة تنفيذ في الحياة أو الممات.
وقد روى السخاوي عن إبراهيم بن إسماعيل بن غازي الحراني قال: قال لي أبي خرجت من حران إلى الموصل في زمن الشتاء والوحل والأمطار، وكانت جمال الناس تقع كثيرًا، وقاسى الناس شدة عظيمة، فكنت أخشى علىٰ نفسي لما أعلم من ضعفي، فنمت فسمعت قائلًا يقول: ألا أعلمك شيئًا إذا قلته لم يقع جملك وتأمن به؟ فقلت له: بلى والله، ولك الأجر. فقال لي قل: ﴿إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [فاطر:41] فقلتها فما وقع جمل حتى دخلنا الموصل، وهلك للناس شيء كثير من سقوط جمالهم وسلم ما معي. وصدق الله ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء:85].
وما نشر من كتب السنة ما هو الأقل الأيسر، فكيف يحكم فلان أو فلان بأن السنة خالية من ذكر عالم الغيب أو الغوث والقطب عبارة أو أشارة أو تخريجًا. والمسألة هنا -أيضًا- مسألة تجريبية لا نظرية ولا جدلية، ومع هذا فقد ألف فيها السيوطي رسالته العلمية الموثقة المسماة (الخبر الدال) فأثبت فيها بالحديث وجود عوالم الأغواث، والأقطاب، والنجباء، والعصائب، والأوتاد، والأبدال.
وقال لي عالم عارف لم يكن يومها صوفيًا: لقد وقعت لي شدة ماحقة، فوقع لي الفرج ببركة (الغوث) فعرفت وتيقنت أن في مكة (غوثا) على ما قال الصوفية. ومن ذاق عرف، ومن أراد وصل بتوفيق الله، وبالعمل، كما فعل حجة الإسلام أبو حامد الغزالي من قبل.
ومما قال السيد حسام الدين القدسي:
عالم الروح ليس كل فقيه |
* | يدرك السر فيه أو يستهام |
بل بمحض الإلهام والكشف فضلا |
* | يدرك الحق فيه من لم يناموا |
وإن الذين ينكرون الأرواح، والغوث، والقطب ومن والاهم معذورون؛ لأنهم يرون النبي صلى الله عليه وسلم فردًا كالأفراد ،حاشا الوحي، ويرون أصحابه كآحاد الناس، أما فضل الله ودرجات الناس ومقاماتهم في غيبه فلا علم لهم بشيء من ذلك؛ لأنهم وقفوا على السطوح وعبدوا القشور، وحسبوا غرورًا أنهم بلغوا نهاية النهاية وغاية الغاية، وهم لم يبارحوا مكانهم.
وفي أربعين السلمي: إن من العلم كهيئة المكنون لا ينكره إلا أهل الغرة بالله.
وفي البخاري تعليقًا عن أبي هريرة قال: أوتيت وعاءين من العلم: أما أحدهما فقد بثثته، أما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم([18]).
والله تعالى يقول: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (٣٨) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ﴾ [الحاقَّة:38-39]. أي هناك عوالم أخرى مستورة غير منظورة لها نظامها الدقيق الذي أقسم الله به، وغيب الله أعظم من أن يحيط به أحد مهما اشتهر ذكره، وارتفع عند بعض الخلق قدره.