1- ابن تيمية ينصف الصوفية
يقول الشيخ أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية حجة السلفية، وإمامهم وفقيههم في كتابه (الفتاوى الكبرى) بالجزء الحادي عشر، وبالصحيفة السابعة عشر ما نصه:
والصوفيون قد يكونون من أجل الصديقين بحسب زمانهم، فهم من أكمل صديقي زمانهم، والصديق في العصر الأول أكمل منهم.
والصديقون درجات وأنواع... إلخ، ثم يقول: ولأجل ما يقع من كثير منهم من الاجتهاد والتنازع فيه، تنازع الناس في طريقهم. فطائفة ذمت الصوفية والتصوف، وقالوا: إنهم مبتدعون خارجون عن السنة. وطائفة غالت فيهم، وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكلمهم بعد الأنبياء. وكلا طرفي هذه الأمور ذميم. والصواب: أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أجل طاعة الله. ففيهم (السابق المقرب) بحسب اجتهاده، وفيهم (المقتصد) الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لايتوب. اهـ.
وهنا ننقل نص رأي الشيخ ابن تيمية في صحة كرامة الأولياء من أواخر كتابه الذي سماه (العقيدة الواسطية)، فهو يقول بالحرف والواحد: ومن أصول أهل السنة التصديق بكرامات الألياء، وما يجري على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات.
(تأمل). والمأثور عن سلف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، وسائر فرق الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة، وتأمل مرة أخرى. اهـ.
وبعد، فهذا هو عين اعتقاد الصوفية الذي لا يُعْجِبُ اليوم أتباع ابن تيمية، ولا عملاء اللحى البترولية، ولا طلاب عقود العمل في البلاد العربية.
2- ابن القيم ينصف الصوفية
أنصف الشيخ ابن القيم السادة الصوفية الأبرار في شرحه العظيم في كتاب الشيخ الهروي -رضي الله عنهما- فمن ذلك قوله في منزل الرجال صحيفة (20) من الجزء الثاني ما نصه: وهذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من الناس:
إحداهما: حُجِبَتْ عن محاسن هذه الطائفة، ولطف نفوسهم، وصدق معاملاتهم، فأهدروها لأجل هذه الشطحات، وأنكروها غاية الأنكار، وأساءوا الظن بها مطلقًا، وهذا عدوان وإسراف. فلو كان من أخطأ أو غلط تُرِكَ جملة، وأهدرت محاسنه؛ لفسدت العلوم، والصناعات، والحكم، وتعطلت معالمها.
والثانية: حُجِبُوا بما رأوه من محاسن القوم وصفاء قلوبهم، وصحة عزائمهم، وحسن معاملتهم على عيوب شطحاتهم ونقصانها، فسحبوا عليها ذيل المحاسن، وأجروا عليها حكم القبول والانتصار، هؤلاء معتدون مفرطون -أيضًا-.
والطائفة الثالثة: وهم أهل العدل والإنصاف الذين أعطوا كل ذي حق حقه، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته، فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح. اهـ.
وقال -أيضًا- في صحيفة (76) من الجزء الثالث بعد الكلام على الجنيد: فرحمة الله على أبي القاسم ما أتبعه لسنة الرسول، وما أفقاه لطريقته، وطريقته طريقة أصحابه.
وقال -أيضًا- في صحيفة (65) لدى كلامه على الوجد والتواجد ما نصه: والتواجد: استدعاء الوجد بنوع اختيار وتكلف. واختلف الناس: هل يَسْلَمُ لصاحبه على قولين. والتحقيق أن صاحب التواجد إن تكلفه لحظ وشهوة لم يَسْلَمْ له، وإن به تكلف باستجلاب حال أو مقام مع الله سَلِمَ له.
وقال الحافظ ابن القيم -أيضًا- في باب الجمع صحيفة (276) حين تكلم عن الذين تخطفهم لوائح شهود الجمع، ولم يتمكن من البقاء فقال: وهذا قد يعرض للصادق أحيانًا، فيعلم أنه غالط فيرجع إلى الأصل، أو يحكم الحكم على الحال. وفي مثل هذا الحال قال أبو يزيد: سبحاني. وغيره قال: ما في الجبة إلا الله، ونحو ذلك. اهـ.
3- المحدث السلفي الشيخ الذهبي
يعترف بالتصوف وبالكرامات والأحوال والمقامات
في ترجمته للعارف بالله تعالى أبو الرجال عبد الرحمن بن مري بن بحير، واسم أمه مريم، قال الذهبي في العبر ما نصه: وكان صاحب حال وكشف([1])، وله عظمة في النفوس. توفي سنة أربع وتسعين وستمئة، ثم دفن بقرية (منين) بزاويته. ومزاره معروف، والدعاء عند ضريحه مستجاب من كل عبد ملهوف. وكان أبو الرجال من ذوي الأحوال، وكان ناسكًا، زاهدًا، عابدًا، ورعًا.اهـ.
وقال في تاريخ الإسلام ما نصه: علي القرشي الرجل الصالح، كبير القدر صاحب كرامات، ورياضات، وسياحة، وله أصحاب ومريدون، وله زاوية بسفح (قاسيون)، ثم له حكايات تدل على ولايته. إلى أن قال: توفي في جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين وستمائة بـ (قاسيون)، وبنوا على قبره قبة([2]).
وعن الشيخ العارف بالله تعالى أبي بكر العرودْكي -بسكون الدال- يقول الذهبي ما نصه:
سكن بسفح (قاسيون)، وكان زاهدًا، له أحوال، وكرامات، ومقامات، وله شعر كثير رأيته في ديوان مفرد، وهو شعر طيب يقع على القلب، ويحرك الساكن، ويثير الغرام. توفي في جمادى الأولى سنة اثنين وسبعين وستمائة.
4- الإمام الشاطبي السلفي ينصف التصوف
رحم الله الإمام العلامة الأصولي الشيخ أبا إسحاق الشاطبي حيث قال في كتابه (الاعتصام) بالصحيفة (274) من الجزء الاول، ما نصه: وأما الكلام في دقائق التصوف فليس ببدعة بإطلاق، ولا هو مما صح الدليل فيه بإطلاق، بل الأمر ينقسم. ولفظ (التصوف) لابد من شرحه أولًا؛ حتى يقع الحكم على أمر مفهوم، لأنه أمر مجمل عند هؤلاء المتأخرين. فلنرجع إلى ما قال فيه المتقدمون.
وحاصل ما يرجع فيه لفظ التصوف عندهم معنيان:
أحدهما: التخلق بكل خلق سني، والتجرد عن كل خلق ردي.
والآخر: أنه الفناء عن نفسه، والبقاء بربه، وهما في التحقيق بمعنى واحد، إلا أن أحدهما يصلح التعبير به عن البداية، والآخر يصلح به التعبير عن النهاية، وكلاهما إنصاف، إلا أن الأول لا يلزم الحال، والثاني يلزمه الحال.
وقد يعبر فيهما بلفظ آخر، وإذا ثبت هذا فالتصوف بالمعنى الأول لا بدعة في الكلام فيه؛ لأنه يرجع إلى تفقه ينبني عليه العمل، وتفصيل آفاته وعوارضه وأوجه تلاقي الفساد الواقع فيه بالإصلاح، وهو فقه صحيح وأصوله في الكتاب والسنة ظاهر، فلا يقال في مثله بدعة إلا إذا أطلق على فروع الفقه التي لم يقل مثلها في السلف الصالح إنها بدعة، كفروع أبواب السلم والإجارات، ومسائل السهو، والرجوع عن الشهادات، وبيوع الآجال، وما أشبه ذلك. وليس من شأن العلماء إطلاق البدع على الفروع المستنبطة التي لم تكن فيما سلف، وإن دقت مسائلها، فكذلك لا يطلق على دقائق فروع الأخلاق الظاهرة والباطنة إنها بدعة؛ لأن الجميع يرجع إلى أصول الشريعة.
وأما بالمعنى الثاني فهو على أضرب، ثم فصلها. راجع بقية كلامه لتكون من المنصفين. ورحم الله كل من أنصف نفسه وأنصف الناس.
5- الشيخ متولي الشعراوي والتصوف الصحيح
تحدث الأستاذ الجليل الشيخ محمد متولي الشعراوي إلى الأستاذ (علي حسن علي) المحرر بجريدة (النور) عن مجمل رأيه في التصوف ملخصًا فيما يأتي:
من هو الصوفي؟
يقول الشيخ الشعرواي: إن الصوفي هو الذي يتقرَّب إلى الله بفروض الله، ثم يزيدها بسنة الرسول -عليه الصلاة والسلام- من جنس ما فرض الله، وأن يكون عنده صفاء في استقبال أقضية العبادة، فيكون صافيًا لله. والصفاء هو كونك تصافي الله.
تعدد الطرق:
وكل إنسان وصل إلى الله بطريق من الطرق، أو صيغة من الصيغ يعتقد أن الطريق الذي سلكه إلى الله هو أقصر الطرق؛ ولذلك اختلف الناس لأن وسائل عبادة الله متعددة. فإذا دخل إنسان من باب وطريق وأحس أنه نقله وأوصله بادر إلى نقله لمن يحب.
ويضيف الشيخ الشعراوي: ومن هنا فإن معنى أن هناك طرقًا صوفية هو أن أناسًا وصولوا إلى الصفاء مع الله سبحانه وتعالى، وجاءتهم الإشراقات والعلاقات التي تدل على ذلك في ذواتهم، فعلموا أن الطريق الذي سلكوا فيه إلى الله صحيح، وكلما زادوا في العبادة زاد الله في العطاء.
من هم المريدون:
ويقول الشيخ: كذا قد قلنا إن السالك للطريق يرى أن الطريق الذي سلكه هو الأفضل بالنسبة له، ويجب أن ينقله لأحبابه، وعندما يجد هؤلاء فيه أشياء لم يجدوها في سواه يلتفون حوله وينفذون ما يقول لهم من عبادات تقربهم من الحق جل وعلا، ثم بعد ذلك يصبحون مريدين ما داموا قد أصبحوا أهلًا للقرب من الله، والمريد هو: من أراد الله، وعمل على رضاه.
التصوف رياضة روحية:
والتصوف من هذا المنطلق رياضة روحية؛ لأنها تلزم الإنسان بمنهج تعبدي لله فوق ما فرضه، وهذه خطوة نحو الود إلى الله.
والله -سبحانه وتعالى- يقول في الحديث القدسي: «مَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً». ولم يقل سبحانه: (جئته أمشي). ولو قالها لكان (المشي) بالنسبة له شيئًا كبيرًا، فما بالك بهرولة منسوبة لله؟!
ومن هنا يدخل الإنسان في مقام الود مع الله، ومعنى أن يوده الله أن يصافيه الرياضة والمقامات.
وهكذا يمن تعالى على هؤلاء المتصوفين ببعض العطاءات التي تُثْبِتُ لهم أنهم على الطريق الصحيح، وكلما زاد العبد في عبادته زاده الله في وده، ولا نستطيع أن نقول إن هذه الزيادات تصل إلى حد ما؛ لأن عطاء الله ليس له حدود.
تعريف العطاءات:
وعن تعريف العطاءات يقول الشيخ: إنها هي التي ينخرق بها ناموس ما في الكون. وعلى قدر صفاء المؤمن تنخرق له النواميس التي تحكم الناس، بأن يطلعه الله على حكم بعض مجريات الأمور قبل أن تحدث، ويعطيه صفحة من صفحات الكون لأي إنسان فينبئه به أو يبشر به ليجذبه إلى جهته، أو أن يريد بعبد له خيرًا فيريه شيئًا من خرق نواميس الكون غير العادية، وهذه هي المعروفة بالكرامات.
وأنا لي رياضة ولو خطوات بسيطة وأصبح عندي مبدأ التصديق واردًا؛ لأنني عندما خطوت خطوة أكثر من الآخرين رأيت، وهكذا.
فلا الصوفي يكذب الصوفي ولا يعارضه؛ ولذلك فهم يئتلفون ويحب بعضهم بعضًا، ولكل منهم مقام ومكان.
وعندما يدخل الصوفي مقامات متعددة وجئنا بمن لا يتريض ولم يدخل في مقام الود وحدثناه بها لا شك أنه يكذبها، ولكن تكذيبها دليل حلاوتها. والمتصوف الحقيقي يعطيه الله أشياء لا تصدقها عقول الآخرين، ولذلك عليه أن يفرح بذلك، ولا يغضب من تكذيب الآخرين له.
6- الشيخ الغزالي السقا والتصوف السليم
إذا ذكر التصوف تراءت للعين صور شائهة لرجال يتبعون طرقًا شتى، وتنتظم من المناسبات الدينية مواكب لها بغام منكر، تخدم السلطات وتُحْيِي البدع والخرافات، قلما ارتفع لها راية في ميدان جهاد.
والحق أن هؤلاء الغوغاء لا علاقة لهم بالتصوف، ولا يعرفون منه قليلًا ولا كثيرًا.
التصوف -سواء كانت كلمة عربية أو مترجمة- يعني حقائق أخرى جديرة بالدرس والتمحيص. والتراث الصوفي يتضمن أحيانًا قضايا في ذروة الشرف والثناء، كما يتضمن أحيانًا أخرى شطحات لا وزن لها، بل ينبغي إطراحها والنأي عنها.
التصوف الفلسفي:
وأول ما نحذر منه هو التصوف الفلسفي الذي نقل عن الهنود واليونان الأقدمين عقائد الحلول، ووحدة الوجود، ومشيًا وراء تهويمات عاطفية بعيدة عن هدايات الإسلام، ولا يمكن ربطها بالوحي الصحيح. كما أن هناك تصوفًا ضاهى الرهبانية البوذية والنصرانية، وأعلن حربًا على الجسد لا عقل فيها ولا جدوى منها، أو استدار للحياة الدنيا ولم ينشغل بها ولم يكدح فيها، وكَوَّنَ أجيالًا من القاعدين والمتسخين في ميادين الحياة شقى بهم الإسلام دهرًا، ولم ينجحوا في كسب الدنيا ولا في كسب الآخرة([3]).
إننا نرفض هذا اللون من التصوف ونأكد أن الإسلام يستنكره، وأظن أن بداهات الفطرة والعلم والارتقاء الإنساني تعترضه.
التصوف الحقيقي:
لكن هناك تصوف نبت في أكناف الإسلام والإحسان، ونما على أغذية جدية من العلم والعمل، واستطاع أن يلون المشاعر الإنسانية بصدق العبودية، ودفعها إلى التفاني في مرضاة الله، والحس الرقيق بوجوده وشهوده، وجعل أصحابه يسعدون بمشاعرهم الباطنة وإن كانت أحوالهم نكدة فيما يرى الناس حتى يقول قائلهم: حبسي خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة.
وهذا التصوف يحول المعرفة النظرية المجردة إلى عاطفة قلبية مشبوبة، فالتكاليف تُؤَدَّى برضا واستحلاء لا بتعب ومعاناة، والمعاصي تترك باستغناء واستعلاء، كما قال يوسف عندما تعرض لإغراء الملكة وصويحباتها وفرشن له طريق الغواية بالأزهار ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الجَاهِلِينَ﴾ [يوسف:33].
حلاوة الإيمان:
وانتقال العلم من تصور ذهني جاف إلى شعور قلبي رقيق عطاء إلهي جليل القدر، وقد أشار إليه القرآن الكريم وهو يذكر امتنان الله على أصحاب رسوله ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً﴾ [الحجرات: 7-8].
كما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِالله رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا وَرَسُولًا»([4]).
ويقول علماء النفس: إن للشعور ثلاثة مظاهر هي: الإدارك، والوجدان، والنزوع.
ونقول نحن: من أراد الله به خيرًا، جعل إدراكه يقوم على العمق، وجعل نزوعه يقوم على الشوق.
إنما عندما نرمق عظماء المؤمنين نجدهم أوتوا من عمق العاطفة بقدر ما أوتوا من قدر المعرفة، ومن ثم يكون نزوعهم حاضرًا ممتدًا.
وتدبر الآيات في وصف موسى —: ﴿وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (٨٣) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ [طه: 83-84].
وتدبر حرارة الحب، ونزوع الشوق فيما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض ثوبه لبواكير المطر ويقول: «هَذَا مَطَرٌ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ»([5]).
أفكذلك نرى جماهير المتدينين؟ أو هل يرتفع علماء الدين إلى هذا المستوى؟
الدين عقل وعاطفة:
في قراءاتي وتجاربي رأيت ناسًا على حظ حسن من علوم الشريعة وأحكام الفقه، بيد أن قلوبهم خاوية من الإحساس اللطيف، والرغبة في التسامي والحب للآخرين، كما رأيت ناسًا في مشاعرهم لطف، وفي مسالكهم إيثار، لكن يشينهم قصور علمي وفقه قليل بشرائع الإسلام.
كلا الصنفين حسن ومقصر. والواقع أن العَالِم الذي لا وعي له بلاءٌ على الإسلام، وعائق عن الانتفاع به.
فالدين عقل وعاطفة، وعلم وأدب، ونظر صائب، وبصيرة نيرة، ومن سوء حظ الثقافة الإسلامية فقهاء لا دراية لهم بعلم القلوب، ونهج التربية، ومتصوفين صفر الأيدي من قوانين الشريعة وضوابطها، والراسخون في العلم سالمون من هذه الآفات. ومن يقرأ لابن تيمية، وابن القيم، والغزالي، وابن الجوزي وغيرهم يرى رجالًا على درجة رفيعة من جيشان المشاعر، والاستبحار العقلي.
مع كبار الأئمة:
اقرأ معي للإمام المدقق ابن القيم وهو يحدو النفوس إلى الدار الآخرة ويقول لكل سائر على الدرب:
فحي عَلَى جَنَّاتِ عَدْن فإنَّها |
* | مَنَازلك الأولى وفيها المخيم |
أو إلى أبي حامد الغزالي الذي أشرف على تفكير أرسطو وأفلاطون، واستبان عثراته وكشف ما اعوج منه، ومع هذا الستعلاء العقلي فهو يتحدث عن استدامته لذكر الله حتى إذا سكت لسانه ظل الفؤاد على حالته يلهج، ويردد، ولا ينقطع له صدى.
وعندي أن تفاوت هؤلاء الأعلام في آرائهم يرجع إلى تفاوت العلل التي عالجوها، وتشخيص الأسباب التي أدت إليها، ذلك إلى جانب ما بين طبائع البشر من خلاف في الأذواق.
القدر المقبول المطلوب:
والقدر المقبول، بل والمطلوب من التصوف يكون في الميادين الآتية:
1- في دراسة البواعث النفسية، وفرض رقابة صارمة على بواعث العمل؛ حتى تصفو النية من كل كدر وتخلص لله سبحانه.
ذلك أن الملاحظ على النفس الإنسانية أنها شديدة المكر واسعة الحيلة، وأنها قد تحقق الهوى عن طريق ظاهرة الطاعة، وباطنه إشباع الهوى.
2- التمرس بمقام الإحسان وطول البقاء في نطاق (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
ولا يتم ذلك في تألق ذهني في خلوة بعيدة، وإنما يتم مع التقلب في البلاد والتعرض للشدة، والرخاء، والصحة، والمرض، والنصر، والهزيمة.
3- تتبع آيات الله في الأنفس وفي الآفاق، ومدارسة الحاضر والماضي، ومحاولة الارتقاء إلى مستوى الكتاب الكريم والسيرة الشريفة، فإن الأبواب كلها مؤصدة أمام من حرم التأسي بمحمد صلى الله عليه وسلم فهو إمام الأتقياء وسيد المرسلين.
مع ابن عطاء الله:
وفي هذا المجال أذكر أنني أفدت إفادة عظيمة من ابن عطاء الله السكندري، وقد شرحت جملة من كلمه في كتابي (الجانب العاطفي من الإسلام).
وإذا كان سعد زغلول قد وصف أدب الرافعي بأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم فإني، مع إكباري للرافعي وأدبه، أرى أن كلمة سعد أصدق ما تكون في حِكَمِ ابن عطاء الله -رحمه الله-. وأعرف أن ناسًا سيقولون إنني خلطت بين تعاليم الإسلام وشمائل الأتقياء من ناحية، وتراث الصوفية ورجالها من ناحية أخرى.
ولو صدق هؤلاء فسيكون الخلاف على أسماء لا على مسميات، ويكون سهلًا، والمهم أن تتوقد روحانية الإنسان من خلال كيانه المادي، وتشرئب عواطفه إلى السماء بدل أن يخلد إلى الأرض، وأن يطالع أمجاد الألوهية فيما يرى ويسمع، ويتجافى عن دار الغرور، ويطمئن إلى دار الخلود. اهـ.
قلنا: ونحو كل هذا تدور دعوة عشيرتنا وطريقتنا.
([1]) قال السيد الرائد رضى الله عنه: هذا الإمام الذهبي يقر الصوفية على الحال والكشف وهو من هو علمًا بالسنة، وينكرها المتمسلفون في هذه الأيام، كما أنه يقر استجابة الدعاء عند أضرحة الصالحين وهم ينكرونها.
([2]) قال السيد الرائد رضى الله عنه: هنا يعترف الإمام الذهبي –أيضًا- بالمقامات، والكرامات، والأحوال ولم ينكر بناء القبة.