كثر الكلام حول معنى هذه الآية الشريفة، حتى فهمها بعض الناس فَهْمًا يتنافى مع الوظيفة الإسلامية، فنقول: إن أول ما فرض الله على العباد فرض معرفته تعالى، فإن العبد لا يعبد من لا يعرفه، وقد عرفهم الله تعالى إلى نفسه أزلًا في قديم عالم الغيب كفاحًا([1]) فقال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف:172].
ثم عَرَّفَهُم تعالى نفسه في عالم الشهود بما نشر في الأكوان من المعالم الخالدة الدالة عليه، ثم أعطى الناس إلى معرفته مفتاحًا ذاتيًا ثابتًا هو العقل والبصر، ثم تكرم عليهم بمفتاح خارجي متجدد هو إرسال الرسل الذين ختمهم بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد خلق الله الناس ليعبدوه، وهو الغني عنهم، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:56]، وجعل عبادتهم له خيرًا عائدًا على أنفسهم لا عليه، تفضلًا منه، وإنعامًا عليهم، فيقول: ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ﴾ [الذاريات:57] وهو الرزاق المُطْعِمُ. فكان الخلق لمصلحة الخلق ضرورة تجلي الحق بالحق.
فما دام أن هناك (إلهًا) فلا بد أن يكون هناك (مألوه)، ومادام أن هناك (خالقًا رازقًا) فلا بد أن يكون هناك (مخلوق مرزوق). فَخَلْقُ الخَلْقِ اقتضاء ذاتي للألوهية لا يسأل عنه بــ: (لِمَ؟ ولا كيف؟). كالضوء ضرورة لوجود الشمس، والحلاوة مثلًا ضرورة لطعم السكر، فلا يقال فيها (كيف؟ ولا لِمَ؟) وإلا تعطلت صفات الألوهية المقدسة عن التوقف والأعطال. فافهم فإنه منزلق خطير لمن يجهلون.
ثم إنه ليس المراد بالعبادة لزوم المسجد، والانقطاع للصلاة، والذكر ونحوه
-فقط-، ولكن المراد من العبادة هو تحقيق خلافة الإنسان عن الله في أرضه على أوسع المعاني الشاملة لشؤون الدنيا وشؤون الآخرة: المادية، والروحية معًا.
فممارسة أسباب التقدم والحضارة من سائر العلوم، والفنون، والآداب، والصناعات، والحرف، والتجارات، والثقافات، والمهن، والوظائف، والابتكار، والاختراع، والتجديد، وعلوم السياسة، والتعمير ونحوه مما يعود على الإنسانية بالخير العام والخاص؛ كل ذلك عبادة مقصودة تمامًا بالآية، حتى الفنون العسكرية، والعلوم الاقتصادية، والهندسية، والتكنولوجية...إلخ، ولكنها لن تكون عبادة صحيحة إلا إذا نبتت من شرف النية لتنتهي إلى شرف القصد، وكانت محوطة بسياج الخُلُقِ الرفيع، وقوة الدين القيم الخالص في حدود الكتاب والسنة، وإدراة وجه الله؛ لتحقيق خلافته على أرضه.
وإذن تكون الصلاة، والقرآن، والذكر، وبقية العبادات، وحركة التقدم الحضاري عِلْمًا وعَمَلَا، والفنون والثقافة، وكل مكارم الاخلاق، وكل مقامات السلوك إلى الله، صنوفًا داخلة في مفهوم العبادة ومضمونها، وعليه تكون العبادة في الآية بمعنى: الحياة المتكاملة، المتسامية، النموذجية، البالغة غاية الرفعة والعزة، في ظاهر الأمر، والبالغة غاية الربانية في باطنه. وهذا هو المقصود من قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة:30] فيما نفهم، والله أعلم.