(أ) ما حكم التضرع والتوسل بأصحاب الأضرحة؟!
(ب) وما حكم الاستخدام الشائع لعبارة «مدد» والمدد لله وحده؟!
الجواب:
مسألة التوسل إلى الله بما يحب، وبمن يحب، مسألة قديمة، تناولتها طبقات من السلف والخلف، بين الرفض والقبول، وكما مال إلى الرفض أمثال الشيخ ابن تيمية، مال إلى القبول أمثال الحافظ ابن حجر والإمام الشوكاني، وبخاصة في كتابه «الدر النضيد».
وللإمام الآلوسي في ذلك تفصيل مفيد.
والإسلام متفق على صحة مبدأ التوسل، والخلاف كله على اللفظ والكيفية والاتجاه، والأدلة هنا لا يتسع لها مقال، وقد سبق أن نشرت لي (التعاون) ما يكفي، وعليك أن تراجع ما كتبناه في رسالة «الوسيلة» ففيه التفاصيل الكافية.
والمهم في هذه المسألة المتشعبة الجوانب، الفسيحة الرحاب أن يوجه الطلب إلى الله وحده، وأن يكون ذكر المتوسل به – لمن شاء التوسل – نوعًا من تأكيد الطلب، بالاعتراف بالتقصير والتفريط في جنب الله، مما يخجل معه المتوسل أن يكتفي بدعائه، وهو ليس أهلًا للاستجابة، فيستشفع إلى الله بما (أو بمن) يغلب على ظنه أنه مقبول عنده في رجاء ألا يرد أو يرفض.
وما دام الطلب إلى الله، وإلى الله، ابتداء وانتهاء، كقول القائل: «اللهم إني أسألك كذا وكذا، متوسلًا إليك بكذا». فلا خطأ، ولا شرك على الإطلاق، وقد ذهب إلى هذا المرحوم الإمام حسن البنا، واعتبرها من الخلافات الفرعية.
وليس التوسل واجبًا، وإنما هو اختيار لمن شاء، على ألا يكون الطلب موجهًا إلى العباد، سواء أحياؤهم أم أمواتهم، فإذا أخطأ الجاهل – مع هذا – وطلب من العبد، فإنه يعلم ويرد إلى الصواب، ويكفيه نيته وحسن اعتقاده، وعلمه اليقيني – مهما كان أميا جاهلًا – بأن الله هو الفعال، وإنما العبد وسيلة، لا يملك مع الله شيئًا.
وإذن فلا نخرجه من الإسلام بجرة قلم، أو انفعال لسان؛ فإن هذا أمر خطير، لا يملكه أحد، وإن كان قد شاع تكفير الناس في أيامنا هذه بما لا يقبله عقل ولا دين.
أما الأدلة فشتى، لا يحتملها مقال، ولا عشر مقالات، ولكني أفضل – كما قلت – أن تقرأ بحثًا كنت كتبته في هذا الباب، وطبعته «مجلة المسلم» في رسالة خاصة هي رسالة (قضايا الوسيلة والقبور)، فلعله أن يفيد بعض الشيء، إن شاء الله تعالى.
ومسائل الفروع كلها محل خلاف، حتى حركة الإصبع في التشهد، وما وسع غيرنا فهو وسعنا، وما دام التوحيد مستقرا في القلوب بحمد الله.
ومن المفيد أن تعلم أن التشنج، والعصبية في قضية التوسل، وقضية التصوف، وقضايا القبور، وتحقير أهل البيت النبوي، وأولياء الله، من أقرب وسائل الثراء المربح، وسرعة التعاقد على العمل المأمول في بلاد البترول! وأيسر وسائل الشهرة، وبناء العمارات، وركوب الطائرات، وحيازة السيارات...... فافهم...!
(ب) أما قولهم «مدد»: فإن نعمة الإيجاد والإمداد كلتاهما لا تكونان إلا لله، ومن الله عز وجل، فالحياة الأولى والآخرة جميعًا، ومحتوى الملك، والملكوت كله، إنما هو من إيجاده، وإمداده تعالى. وهو يقول: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ﴾[الإسراء:20]. وهي آية كاملة شاملة، ومؤادها في معنى: ﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ...﴾ [النساء:78].
والعبد سبيل أو سبب، ولكل شيء سبيل وسبب.
فطالب المدد: إن كان يطلبه من شيخ حي، فهو إنما يريد بالمدد:
طلب العلم، أو الإرشاد، أو الدعاء، قلبيًا كان أو نفسيًا، أو تلقي السيالات، والتيارات الروحية من طاقات الشيخ المشحون بأسرار الإيمان، وقوى التعبد، والعلاقة بالله.
ولكل مخلوق سيالات وتيارات كهربية ومغناطيسية مؤثرة، أثبتها العلم القديم والجديد، واستدل بما في الإنسان من الشجاعة والمروءة، والهمة، ونحوها، فكلها قوى خفية، سميناها بالأسماء، ووصفناها بالأخلاق، ثم قررها علم النفس الحديث، واتخذ من «الحسد» دليلًا على القوى الشريرة في الإنسان، وهذا يثبت أن للإنسان – بالمقابلة قوى خيرة، تؤثر في الغير بمثل ما قد تؤثر قوى الشر من الحسد في المحسود، فكل شيء له مقابل، هو ضده، ثم إن التنويم المغناطيسي في أسلوبه العلمى المعترف به في كل جامعات العالم، وكل المحاكم العالمية هو دليل في هذا الجانب غير مدفوع([1])، وقد قرر الشيخ ابن القيم في كتابه «الروح» كثيرًا من القوى والطاقات الإنسانية في الأحياء والموتى، فارجع إليه.
وهذا، وإن كان يطلب المدد من شيخ متوفى، فهو يطلب من روحه «التي يعتقد أنها تحيا برزخيا، في مقام القرب من الحق» أن تتوجه شفاعة إلى الله في شأنه بما يهمه؛ فالأرواح في عالمها تحيا حياة غير مقيدة بحدود زمان أو مكان، فالقيود والحدود نتيجة الحياة البشرية، وأما الأرواح، فهى من عالم الانطلاق، ولا شك أن هذا الجانب كله مزلق من أخطر المزالق، ولا يقوى على فهمه وضبطه إلا أولوا الألباب، ومن ثم وجب تبصير الناس، أو سد الذرائع.
وليس معنى هذا أنني أجيز الحالات الهستيرية التي نشاهدها في كثير من التجمعات المنسوبة إلى التصوف، وإنما أردت أن أبين علة الموضوع وإسناده عند أهل العلم. ولكل حق باطل يشبهه، وما يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور.
أما ما يحيط بالموالد من منكرات جعلتها مجالًا خصبًا للمرتزقة والنصابين، فقد قررنا أن الموالد بوضعها الحالي فيها المشروع والممنوع، وقد أصبح الممنوع فيها غالبًا على المشروع للأسف الشديد، فمثلًا: قراءة القرآن، ومجالس العبادة، وحلق العلم، وانتشار الصدقات، وما يكون بين الناس من التعارف، والتآلف، والتعاطف، ورواج الحركة التجارية، والتلاقي على الله بحسن النية وصفاء القلب، ووفرة الجو الاجتماعي المحبب شرعًا وطبعًا، كل ذلك «حركة فيها بركة» لا ينكرها عقل، ولا دين، والإسلام دين التجميع والتكتيل، ومعنا جماعات الصلوات، والجمع، والعيدين، فضلًا عن اعتبار الموالد نوعًا من الفرح بفضل الله ورحمته، فبذلك فليفرحوا.
ولكن بجوار هذا شر موبق: عبادة محرفة، وتجمعات منكرة، ولصوصية أعراض، ولصوصية أموال، ومراتع فسوق، وبؤرات ميسر، ومستنقعات تخريف، وتحريف، وشعوذة، وتفاخر، وتكاثر بالأتباع والأموال، والمظاهر. وضياع أي ضياع للأموال والأوقات والأخلاق والطاعات!!
إن هذه الموالد يمكن أن تصبح أسواقًا للثقافة الربانية. ومنابر للدعوة الوطنية والإسلامية، ومناسبات للخير العام والخاص، لا يمكن أن تضارعها فيه أية تجمعات مصنوعة، مهما استقطبت من المغريات، وليس هذا في يد أحد سوى الحكومة أولًا، فيما لها من الإشراف عليه، ثم في يد مشيخة الطرق الصوفية، فيما لها من الإشراف عليه إذا صح العزم، وصح الحزم، على التغيير، وطرحت المجاملات، وصدقت المواجهات.
أما والحال على هذا المنوال، فخسارة ووبال. وليس بعد الحق إلا الضلال.
إن الكلام عن الموالد في جوانبها المختلفة تاريخيًا وشرعيًا، كلام طويل، وتستطيع أن ترجع إلى بعضه في بعض نشرات العشيرة ومجلتها، وفيما قدمناه هنا آنفًا كفاية.