اعلم أنَّ الله تعالى لمَّا أراد إتمام عموم نعمته وإفاضة فيض رحمته، واقتضى فضله العظيم أن يمن على العباد بوجود معرفته، وعَلِمَ سبحانه وتعالى عَجْزَ عقول عموم العباد عن التقلي من ربوبيته؛ جعل الأنبياء والرسل لهم الاستعداد العام لقبول ما يرد من إلهيته، يَتَلَقَّوْنَ منه بما أودع فيهم من سر خصوصيته، ويَلْقَوْنَ عنه جمعًا للعباد على أحديته؛ فهم برازخ الأنوار، ومعادن الأسرار، رحمة مهداة، ومِنَّة مصفاة، حرر أسرارهم في أزله من رق الأغيار، وصانهم بوجود عنايته من الركون إلى الآثار، لا يحبون إلا إياه، ولا يعبدون ربًّا سواه، يلقي الروح من أمره عليهم، ويواصل الأمداد بالتأييد إليهم، وما زال فلك النبوة والرسالة دائرًا إلى أن عاد الأمر من حيث الابتداء، وخُتِمَ بمن له كمال الاصطفاء، وهو نبينا محمد >، هو السيد الكامل القائم، الفاتح الخاتم، نور الأنوار وسر الأسرار والمبجل في هذه الدار وفي تلك الدار على المخلوقات، أعلى المخلوقات منارًا وأتممهم فخارًا، دل على ذلك الكتاب المبين، قال الله سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾([1])، ومن رحم به غيره فهو أفضل من غيره، والعالم كل موجود سوى الله تعالى.
وأما تفضيله على بني آدم خصوصًا، فمن قوله >: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ»([2]).
وأما تفضيله على آدم —، فمن قوله >: «كُنْتُ نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطَّينِ»([3]).
ومن قوله: «آدَمُ فَمَنْ دَونَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تَحْتَ لِوَائِي»([4]).
وقوله: «إِنِّي أَوَّلُ شَافِعٍ، وَإِنِّي مُشَفَّعٌ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُ»([5]).
وحديث الشفاعة المشهور الذي أخبرنا به الشيخ الإمام الحافظ بغية المحدثين، شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن الدمياطي، بقراءتي عليه، أو قرئ عليه وأنا أسمع، قال: أخبرنا الشيخان الإمام فخر الدين، وفخر القضاة أبو الفضل أحمد بن عبد العزيز الجباب التميمي، وأبو التقي صالح بن شجاع بن سيدهم المُدْلِجِيِّ الكِنَائِيِّ، قالا: أخبرنا الشريف أبو المفاخر سعيد بن الحسين بن محمد بن سعيد العباس المَأموني، قال: أخبرنا أبو عبد الله الفُرَاوِيُّ، قال: أخبرنا عبد الغافر الفارسي، قال: أخبرنا أبو أحمد محمد بن عيسى بن عمرويه الْجُلُودِيُّ، قال: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه، قال: حدثنا أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، قال: حدثنا أبو الربيع العَتَكِيُّ، قال: حدثنا حماد بن زيد، قال حدثنا مَعْبِد بن هلال الغَنَوِي، وحدثنا سعيد بن منصور واللفظ له، قال: حدثنا حماد بن زيد، قال: حدثنا معبد بن هلال الغنوي، قال انطلقنا إلى أنس بن مالك، وتشفعنا بثابت، فانتهينا إليه وهو يصلي الضحى، فاستأذن لنا ثابت، فدخلنا عليه، وأجلس ثابتًا معه على سريره، فقال له: يا أبا حمزة، إن إخوانك من أهل البصرة يسألونك أن تُحَدِّثَهُم حديث الشفاعة.
قال: حدثنا محمد >، قال: «إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض؛ فيأتون آدم —، فيقولون: اشفع لذريتك. فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم —؛ فإنه خليل الله. فيأتون إبراهيم —، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى —؛ فإنه كليم الله. فيأتون موسى فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى —؛ فإنه روح الله وحكمته. فيأتون عيسى — فيقول: لست لها، ولكن عليكم بمحمد >. فيأتوني، فأقول: أنا لها. فأنطلق فأستأذن على ربي، فيؤذن لي؛ فأقوم بين يديه، فأحمده بمحامد لا أقدر عليه إلا أن يلهمنيه الله عزَّ وجلَّ ثم أَخِرُّ له ساجدًا، فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يُسمع لك، وسل تُعْطَ، واشفع تُشفَّعْ. فأقول: أمتي أمتي. فيقال: انطلق، فمن كان في قلبه مثقال حبة من بُرَّة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها. فأنطلق فأفعل، ثم أرجَعُ إلى ربي، فأحمد بتلك المحامد، ثم أَخِرُّ له ساجدًا، فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تُشفَّع. فأقول: أمتي أمتي. فيقال: انطلق، فمن كان في قلبه مثقال حبَّة من خردل من إيمان فأخرجه منها.
فأنطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربي، فأحمد بتلك المحامد، ثم أخِرُّ له ساجدًا، فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تُشفَّع. فأقول: يا رب، أمتي أمتي. فيقال لي: انطلق، فمن كان في قلبه أدنى أدنى من مثقال حبَّة من خردل من الإيمان فأخرجه من النار. فأنطلق فأفعل»([6]).
هذا حديث أنس الذي أنبأنا به فخرجنا من عنده، فلما كنا بظهر الجبانة، قلنا: لو دخلنا إلى الحسن نُسَلِّمُ عليه! وهو مستخف في دار أبي خليفة، فدخلنا وسلمنا عليه، قلنا له: يا أبا سعيد، خرجنا من عند أخيك أبي حمزة؛ فلم نسمع بمثل حديث حَدَّثَنَا به في الشفاعة، قال: هيه! فحدثناه الحديث، فقال: هيه! قلنا: ما زادنا. قال: قد حدثنا به منذ عشرين سنة، وهو يومئذ جمع، ولقد ترك شيئًا ما أدري أنسي الشيخ أم كره أن يحدثكم به. قلنا له: حدثنا. فضحك وقال: خلق الإنسان من عجل، ما ذكرت لكم هذا إلا وأنا أريد أن أحدثكموه. ثم قال: «أرجع إلى ربي في الرابعة، فأحمده بتلك المحامد، فأخر له ساجدًا، فيقول لي مثل ما قال في الأول، فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله. قال: ليس ذلك إليك، ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي، لأخرجن من النار من قال: لا إله إلا الله»، فأشهد على الحسن أنه حَدَّثَنَا به أنه سمع أنس بن مالك قرأه قبل عشرين سنة، وهو يومئذ جمع.
فانظر رحمك الله ما تضمنه هذا الحديث من فخامة قدره > وجلالة أمره، وأن أكابر الرسل والأنبياء لم ينازعوه في هذه الرتبة التي هي الشفاعة العامة في كل من ضمه المحشر.
فإن قلت: فما بال آدم أحال على نوح في حديث، وعلى إبراهيم في هذا، ودَلَّ نوح على إبراهيم، وإبراهيم على موسى، وموسى على عيسى، وعيسى على محمد >، ولم تكن الدلالة على محمد > من الأول.
فاعلم: أنَّه لو وقعت الدلالة على رسول الله > من الأول، لم يتبين من هذا الحديث أن غيره لا يكون له هذه الرتبة، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يدل كل واحد على من بعده، كل واحد يقول: «لست لها»، مسلمًا للرتبة غير
مُدَّعٍ لها، حتى أتوا عيسى — فدل على رسول الله >، فقال: «أنا لها...» وفي الحديث من الفوائد أن الإيمان يزيد وينقص، وفيه من الفوائد أن المعارف لا تتناهى؛ لقوله: «لا أقدر على شيء إلا أن يلهمنيه الله عز وجل»([7])، ويشهد له قوله >: «ولا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك»([8])، ويشهد له قوله سبحانه وتعالى: ﴿...وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه:110]، إلى غير ذلك من الفوائد التي لو تكلمنا عليها خرجنا عن غرض الكتاب.
ولقد سمعت شيخنا أبا العباس } يقول: جميع الأنبياء خلقوا من الرحمة، ونبينا > هو عين الرحمة، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107]، فدعا > إلى الله تعالى بالبصيرة الواضحة والبينة الفائقة، وقرَّب المدارك، وبَيَّنَ المسالك، وحَثَّ على سلوك سبيل الهدى، واجتناب سبيل الردى، فما ترك شيئًا يقرب إلى الله إلا ودعا إليه، ولا أدبًا يصلح أن يكون العبد به مع الله تعالى إلا حث عليه، ولا شيئًا يشغل عن الله تعالى إلا حذر العباد منه، ولا عملًا يقطعهم عن الله تعالى إلا وأخرجهم عنه، لا يألو نصحًا في تخليص العباد من أوحال القطيعة ومواطن الهلكة، إلى أن تَرَحَّلَ ليل الشرك وانقضت أغباره، وأضاء نهار الإيمان وأشرقت أنواره؛ فرفع > من الدين لواءه، وتَمَّمَ نظامه، وقرر فرائضه وأحكامه، وبَيَّنَ حلاله وحرامه.
وكما بين للعباد الأحكام، كذلك فتح لهم باب الأفهام، حتى قال الراوي: لقد تركنا رسول الله >، وإن الطير ليتحرك في السماء فنستفيد منه علمًا بحق، قال الله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ...﴾ [البقرة:256]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿...اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا...﴾ [المائدة:3].
وقال >: «تركتها بيضاء نقية»؛ فجزاه الله خير ما يجزي نبيًا عن أمته.
ولما أكمل > البيان لسبيل الرشاد، وظهر المسالك الموصلة إلى الله
تعالى للعباد، توفاه الله تعالى إلى الدار التي هي خير له وأولى، بعد أن خُير فاختار الرفيق الأعلى، ثم جعل الله تعالى الدعاة في أمته أبدًا ودائمًا سرمدًا، بما ورثوا منه وأخذوا عنه، وقد شهد لهم الحق بذلك، وجعلهم أهلًا لما هنالك.
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي...﴾ [يوسف:108].
قال الشيخ أبو العباس }: أي معاينة تعين سبيل كل أحد من الأتباع فتحمله عليها، ودليل ما قال الشيخ } اختلاف وصاياه > لأصحابه على حسب اختلاف سبيلهم، فقال لبلال }: «أنفق بلالًا ولا تخشَ من ذي العرش إقلالًا»([9]).
وقال لآخر أراد أن ينخلع عن ماله كله: «أمسك عليك مالك؛ فإنك إن تدع ورثتك أغنياء، خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس»([10]).
وقال رجل: أوصني. فقال >: «استحِ من الله كما تستحي من رجل صالح من قومك».
وقال له آخر: أوصني. فقال له >: «لا تغضب»([11]).
وسمعت شيخنا أبا العباس يقول: «فتح الحق سبحانه وتعالى بقوله: ﴿...وَمَنِ اتَّبَعَنِي...﴾ باب البصائر للأتباع»، يريد الشيخ أن قول الله سبحانه وتعالى:
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي...﴾ [يوسف:108]؛ أي ومن اتبعني يدعو إلى الله على بصيرة على ما يقتضيه اللسان؛ لأنك إذا قلت: «زيد يدعو إلى السلطان على نصيحة هو وأتباعه» أي وأتباعه يدعو إليه نصيحة، إذا ثبت هذا؛ فالرسول > يدعو على بصيرة الرسالة الكاملة، والأولياء يدعون على حسب بصائرهم قطبانية وصديقية وولاية، وقد قال >: «العلماء ورثة الأنبياء»([12]).
وقال >: «فإنَّ الأنبياء لا يُوَرِّثُون دينارًا ولا درهمًا، وإنما يورثون العلم».
وقال >: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»([13])، وها هنا نكتة، وهو أنه > لم يقل علماء أمتي كرسل بني إسرائيل، فمن الناس من ظَنَّ أن النبي > هو الذي نُبِّئَ في نفسه، والرسول هو الذي أرسل لغيره، وليس الأمر كما ظن هذا القائل، وإن كان كذلك؛ فلم خَصَّ الأنبياء دون الرسل بالذكر في قوله: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»! ومما يدلك على بطلان هذا المذهب، قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ...﴾ [الحج:52].
فدل على أنَّ حكم الإرسال يعمهما، وإنما الفرق ما قال بعض أهل العلم أن النبي لا يأتي بشريعة جديدة، وإنما يجيء مقرِّرًا لشرع من كان قبله، كيوشع بن نون؛ فإنه إنما أتى مقررًا لشريعة موسى —، وآمرًا بالعمل بما في التوراة، ولم يأتِ بشرع جديد، والرسول -كموسى —- إنما أتى بشرع جديد وهو ما تضمنته التوراة، فقال >: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»؛ أي: يأتون مقرِّرين ومؤكدين وآمرين بما جئت به، لا أنهم يأتون بشرع جديد.
إعلام وبيان:
اعلم أنَّ قوله >: «العلماء ورثة الأنبياء، علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل؛ فإن الأنبياء لم يُوَرِّثُوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، إلا أن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه وعالم أو متعلم، وإن الملائكة لتَضَعُ أجنحتها لطالب العلم»([14]).
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ...﴾ [آل عمران:18]، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ...﴾ [القصص:80]، ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ...﴾ [العنكبوت: 49].
وحيثما وقع العلم في كلام الله تعالى وكلام رسول الله >، فإنَّما المراد به العلم النافع المخمد للهوى، القامع، الذي تكتنفه الخشية، وتكون معه الإنابة، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿...إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ...﴾ [فاطر:28]، فلم يجعل علم من لم يخشه من العلماء علمًا، وقال داود —: «يا رب، ما علم من لم يخشك، ما خشيك من لم يطع أمرك»؛ فشاهد العلم الذي هو مطلوب الله الخشية لله، وشاهد الخشية موافقة الأمر ما علم تكون معه الرغبة في الدنيا والتملك لأربابها، وصرف الهمة إلى اكتسابها، والجمع والادخار، والمباهاة والاستكثار، وطول الأمل ونسيان الآخرة، فما أبعد من هذا العلم علمه من أن يكون من ورثة الأنبياء! وهل ينتقل الشيء الموروث إلى الوارث إلا بالصفة التي كان بها عند الموروث عنه!.
ومثل من هذه الأوصاف أوصافه من العلماء، كمثل الشمعة تضيء على غيرها، وهي تحرق نفسها، جعل الله العلم علمه من هذا وصفه حجةً عليه، وسببًا في تكثير العقوبة لديه، لا يغرنك أن يكون به انتفاع البادي والحاضر؛ فقد قال >: «إن الله تعالى ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر»([15]).
وَمَثَلُ من تعلم العلم لاكتساب الدنيا وتحصيل الرفعة فيها، كمثل من رفع العَذَرة بملعقة من ياقوت، فما أشرف الوسيلة! وما أخس المتوسل إليه!.
ومَثَلَ من قطع الأوقات في طلب العلم، فمكث أربعين سنة أو خمسين سنة يتعلم العلم ولا يعمل به، كمثل من قعد هذه المدة يتطهر ويجدد الطهارة، ولم يصل صلاة واحدة؛ إذ مقصود العلم العمل، كما أنَّ المقصود بالطهارة وجود الصلاة وقد
سأل رجل الحسن البصري عن مسألة فأفتاه، فقال الرجل للحسن: «قد خالفك الفقهاء»، فزجره الحسن وقال: «ويحك، وهل رأيت فقيهًا! إنما الفقيه من فقه عن الله أمره ونهيه».
وسمع شيخنا أبا العباس } يقول: «الفقيه من انفقأ الحجاب عن عيني قلبه»، وإذ قد عرفت أن الدعاء إلى الله لا يزال أبدًا؛ فاعلم أنَّ الأنوار الطاهرة في أولياء الله إنما هي من إشراق أنوار النبوة عليهم.
فمثل الحقيقة المحمدية كالشمس، وأنوار قلوب الأولياء كالأقمار، وإنما أضاء القمر لظهور نور الشمس فيه ومقابلته إياها، فإذا الشمس منيرة نهارًا ومضيئة ليلًا؛ لظهور نورها في القمر الممدود منها، فإذا هي لا غروب لها، فقد فهمت من هذا أنه يجب دوام أنوار الأولياء لدوام ظهور نور رسول الله > فيهم.
فالأولياء آيات الله، يتلوها على عباده بإظهاره إياهم واحدًا بعد واحد، ﴿تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ...﴾ [البقرة:252].
وقد سمعت شيخنا أبا العباس } يقول في قوله عز وجل: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا...﴾ [البقرة:106]؛ أي ما من ولي لله إلا ونأتي بخير منه أو مثله، وقد سئل بعض العارفين عن أولياء الله: أينقصون في زمن؟ فقال: لو نقص منهم واحد ما أرسلت السماء قطرها، ولا أبرزت الأرض نباتها، وفساد الوقت لا يكون بذهاب أعدادهم ولا بنقص إمدادهم، ولكن إذا فسد الوقت كان من الله سبحانه وتعالى وقوع اختفائهم مع وجود بقائهم، فإذا كان أهل الزمن معرضين عن الله تعالى، مؤثرين لما سوى الله تعالى، لا تنجح فيهم الموعظهْ، ولا تميلهم إلى الله التذكرهْ -لم يكونوا أهلًا لظهور أولياء الله فيهم؛ ولذا قالوا: «أولياء الله تعالى عرائس، ولا يرى العرائس المجرمون».
وقد قال >: «لا تؤتوا الحكمة غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم»، فإذا كان الله سبحانه وتعالى وَصَّانَا على لسان نبيه >: لا تؤتى الحكمة غير أهلها؛ فهو أولى بهذا الخلق العظيم منَّا.
وقد قال >: «إذا رأيت هوًى متبعًا، وشحًّا مطاعًا، ودنيا مؤثرَة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فعليك بخويصة بنفسك»، فسمعوا وصية رسول الله >، فآثروا الخلفاء، بل آثر الله لهم ذلك، مع أنه لا بد أن يكون منهم في الوقت أئمة ظاهرون، قائمون بالحجة سالكون للمَحَجَّة؛ لقول رسول الله >: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من ناوأهم إلى قيام الساعة»([16]).
وقد قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من مخاطبته لحميد بن زياد: «اللهم لا تُخْلِ الأرض من قائم لك بحجتك، أولئك الأقلون عددًا، الأعظمون عند الله قدرًا، قلوبهم معلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في عباده وبلاده، وا شوقاه إلى رؤيتهم!».
وروى الإمام الرباني محمد بن علي الترمذي } في كتاب «الختم» له، يرفعه إلى ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله >: «أمتي كالمطر، لا يُدرى أوله خير أم آخره».
وروى أيضًا يرفعه إلى أبي الدرداء، قال: قال رسول الله >: «خير أمتي أولها وآخرها، وفي أوسطها الكدر»([17]).
وروى أيضًا يرفعه إلى عبد الرحمن بن سَبْرَةَ، قال: جئت مبشِّرًا من غزوة مؤتة فلما ذكرت قتل جعفر وزيد وابن رواحة ومن معه، بكى أصحاب رسول الله >؛ فقال عليه الصلاة والسلام: «ما يبكيكم»([18]) فقالوا: وما لنا لا نبكي وقد قتل خيارنا وأشرافنا وأهل الفضل منا! فقال —: «لا تبكوا! إنما مثل أمتي مثل حديقة، قام عليها صاحبها فاجتلب رواكيها، وهيأ مسالكها، وجلق سعفها، فأطعمت عامًا فوجًا، ثم عامًا فوجًا، فلعل آخرها طعمًا يكون أجودها قنوانًا، وأطولها شمراخًا، والذي بعثني بالحق، ليتخذن ابنُ مريم من أمتي سلفاء من حواريه»([19]).
وروى أيضًا يرفعه إلى سهل بن سعد، قال: «قال رسول الله >: «إنَّ في أصلاب رجال من أصحابي رجالًا ونساءً يدخلون الجنة بغير حساب»، ثم تلا([20]):﴿وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ الآية [الجمعة:3].
وروى أيضًا يرفعه إلى رسول الله > أنه قال: «في كل قرن من أمتي سابقون».
واعلم -جعلك الله من خاصة عباده، وعرفك لطائف وداده- أنه سواء منهم الظاهر والخفي والصديق والولي، فساد الوقت لا يكدر أنوارهم، ولا يحط مقدارهم؛ لأنهم مع المؤقِّت لا مع الأوقات، فمن كان مع المؤقت لا يتغير بتغير الوقت شيئًا، ومن كان مع الوقت تغير بتغيره وتكدر بتكدره.
وقد قال الإمام أبو عبد الله الترمذي }: «الناس صنفان: صنف منهم عمال الله تعالى، يعبدونه على البر والتقوى، فهم محتاجون إلى خير الزمان وإقبال دولة الحق؛ لأن تأييدهم من ذلك، وصنف منهم أهل اليقين، يعبدون الله على صفاء ووفاء التوحيد عن كشف الغطاء وقطع الأسباب؛ فهم غير ملتفتين إلى إقبال الزمان وإدباره، ولا يضرهم إدباره»، وقول رسول الله >: «إنَّ لله عبادًا يغزوهم برحمته، يحييهم في عافيته، ثم تمر بهم الفتن كقطع الليل المظلم لا تضرهم»([21]).
وقوله >: «يكون في أمتي فتن لا ينجو منها إلا من أحياه الله بالعلم»، قال الترمذي: «يعني بالعلم بالله فيما يرى».
ولقد سمعت شيخنا أبا العباس } يقول: «رجال الليل هم الرجال، وإن أولياء هذا الوقت ليؤيدون بشيء من الغنى واليقين، فالغنى لكثرة ما عند الناس من الإفلاس، واليقين لكثرة ما عند الناس من الشكوك»، وقال بعض العارفين: «إن لله عبادًا كلما اشتدت عليهم ظلمة الوقت قويت أنوارهم؛ فمثلهم كمثل الكواكب كلما قويت ظلمة الليل قوي إشراقها، وأين أنوار الكواكب من أنوار قلوب أوليائه! أنوار الكواكب تنكدر، وأنوار قلوب الأولياء لا انكدار لها، وأنوار الكواكب تهدي إلى الدنيا، وأنوار قلوب أوليائه تهدي إلى الله.
ولنا في هذا المعنى شعر:
أَمُرْتَقبَ النُّجُومَ مِنَ السَّمَاءِ |
* | نُجُومُ الْأَرْضِ أَبْهَى فِي الضِّيَاءِ |
فَتشلْكَ تَبِينُ وَقْتًا ثُمَّ تَخْفَى |
* | وَهَذِي لَا تُكَدَّرُ بِالْخَفَاءِ |
هِدَايَةُ تِلْكَ فِي ظُلَمِ اللَّيَالِي |
* | هِدَايَةُ هَذِهِ كَشْفُ الْغِطَاءِ |
وقال صوفي يومًا بحضرة فقيه: «إنَّ لله عبادًا هم في أوقات المحن، والمحن لا تضرهم»، فقال ذلك الفقيه: «هذا ما لا أفهمه»، فقال الصوفي: «أنا أريك مثال ذلك، الملائكة الموكلون بالنار هم في النار، والنار لا تضرهم».
وسمعت شيخنا أبا العباس } يقول: «الدنيا كالنار، وهي قائلة: للمؤمن جُزْ يا مؤمن؛ فقد أطفأ نور قناعتك لهبي».
واعلم أنَّ شأن الولاية والولي عظيم، والخطب فيهما جسيم، ويكفيك في ذلك ما حدثنا به الشيخ السيد الجليل شهاب الدين أبو المعالي، أحمد بن محمد بن المؤيد الأبرقوهي رحمه الله تعالى، قال: أنبأنا أبو بكر عبد الله بن سابور الفلانس الشيرازي بها سنة تسع عشرة وستمئة.
قال: أخبرنا الإمام أبو المبارك عبد العزيز بن محمد بن منصور الشيرازي الآدمي -قراءة عليه وأنا أسمع- في سنة ثلاث وخمسين وخمسمئة، قال: حدثنا الشيخ الإمام أبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث بن التميمي الحنبلي -إملاء- في يوم السبت السادس عشر من صفر سنة ثلاث وثمانين وأربعمئة بأَصْبَهَان، قال: أخبرنا أبو عمر عبد الواحد بن عبد الله بن مهدي الفارسي، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن المخلد بن حفص العطار الخطيب الدوري، حدثنا محمد ابن عثمان بن كرامة بن خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، عن شريك بن أبي نمر، عن عطاء، عن أبي هريرة {، قال: قال رسول الله >: «إنَّ الله عز وجل قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس عبدي، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه»([22])، وهذا الحديث أخرجه البخاري في «صحيحه»، وقد روي هذا الحديث من طريق آخر: «فإذا أحببته كنت له سمعًا وبصرًا ولسانًا وقلبًا وعقلًا ويدًا ومؤيدًا»، فأصغ رحمك الله تعالى إلى ما تضمنه هذا الحديث من غزارة قدر الولي وفخامة رتبته، حتى ينزله الحق سبحانه وتعالى هذه المنزلة، ويحله هذه الرتبة، فقوله > عن الله: «من عادى لي وليًّا فقد آذنني بالحرب»؛ لأن الولي قد خرج عن تدبيره إلى تدبير الله عز وجل، وعن انتصاره لنفسه إلى انتصار الله عز وجل، وعن حوله وقوته بصدق التوكل على الله تعالى.
وقد قال الله سبحانه وتعالى: ﴿...وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ...﴾([23])، وقال عز وجل: ﴿...وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ﴾([24]).
وكان ذلك لهم لأنهم جعلوه مكان همومهم، فدفع عنهم الأغيار، وقام لهم بوجود الانتصار.
وأخبرني الشيخ شهاب الدين الأَبْرِقُوهِيُّ، قال: دخلت على الشيخ أبي الحسن الشاذلي }، فسمعته يقول: يقول الله عز وجل: «عبدي، اجعلني مكان همك أكفيك همك، عبدي، ما كنتَ بك فأنت في محل البعد، وما كنت بي فأنت في محل القرب، واختر لنفسك».
وقد جاء في الحديث: «من شغله ذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين»، فإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد رضي لهم أن يشغلهم ذكره عن مسألته، فكيف لا يرضى لهم أن يشغلهم ذكره والثناء عليه عن الانتصار لنفوسهم! ومن عرف الله تعالى أفسد عليه باب الانتصار لنفسه؛ إذ العارف قد اقتضت له معرفته ألَّا يشهد فعلًا لغير معروفه؛ فكيف ينتصر من الخلق مَنْ يرى الله تعالى فعلًا فيهم! فكيف يدع أولياءه من نصرته، وهم قد ألقَوْا نفوسهم بين يديه سلمًا، واستسلموا لما يرد عنه حكمًا؛ فهم في معاقل عزه، تحت سرادقات مجده، يصونهم من كل شيء إلا من ذكره، ويقطعهم عن كل شيء إلا عن حبه، ويختارهم من كل شيء إلا من وجود قربه، ألسنتهم بذكره لَهِجهْ، وقلوبهم بأنواره بَهِجهْ، وطَّنَ لهم وطنًا بين يديه، فقلوبهم حائمة في حضرته، وأسرارهم محققة لشهود أحاديثه.
ولقد سمعت شيخنا أبا العباس } يقول: «ولي الله تعالى مع الله تعالى كولد اللبوة في جحرها، أتراها تاركة ولدها لمن أراد اغتياله!».
وقد جاء في الحديث أنه > كان في بعض غزواته، وامرأة تطوف على ولدها رضيع، فلما وجدته حنت عليه وألقمته الثدي، فنظر الصحابة إليها متعجبين، فقال >: «الله أرحم بعبده المؤمن من هذه بولدها»([25])، ومن هذه الرحمة برز انتصار الحق لهم ومحاربته لأعدائهم؛ إذ هم حُمَّالُ أسراره ومعادن أنواره، وقد قال الله سبحانه وتعالى: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا...﴾([26]).
وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا...﴾([27]).
غير أنَّ مقابلة الحق سبحانه وتعالى لمن آذى وليًّا، ليس يلزم أن تكون معجلة لقصر مدة الدنيا عند الله تعالى، ولأن الله سبحانه وتعالى لم يرضَ الدنيا أهلًا لعقوبة أعدائه، كما لم يرضَها أهلًا لإثابة أحبابه، وإن كانت معجلة،
فقد تكون قساوة في القلب، أو جمودًا في العين، أو تتويقًا عن طاعة، أو وقوعًا في ذنب، أو فترة في الهمة، لو سلب لذاذة خدمته.
وقد كان رجل من بني إسرائيل أقبل على الله تعالى ثم أعرض عنه، فقال: يا رب، كم أعصيك ولا تعاقبني! فأوحى الله تعالى إلى نبي ذلك الزمان: أن قل لفلان: كم عاقبتك ولم تشعر! ألم أسلبك حلاوة ذكري ولذاذة مناجاتي!.
وفائدة هذا البيان ألَّا يحكم لإنسان آذى وليًّا من أولياء الله تعالى بالسلامة، إذا لم تر عليه محنة في نفسه وماله وولده؛ فقد تكون محنة أكبر من أن يطلع العباد عليها، وقوله حاكيًا عن الله عز وجل: «وما تقرب إليَّ المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم»([28])، فاعلم أنَّ الفرائض التي اقتضاها الحق سبحانه وتعالى من عباده على قسمين: ظاهرة، وباطنة.
فالظاهرة: الصلوات الخمس، والزكاة، وصوم رمضان، والحج، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، إلى غير ذلك.
والباطنة: العلم بالله، والحب له، والتوكل عليه، والثقة بوعده، والخوف منه، والرجاء منه، إلى غير ذلك، وهي أيضًا تنقسم على قسمين:
فعل وترك، شيء اقتضى الحق منك أن تفعله، وشيء اقتضى الحق منك ألَّا تفعله، وقد جمع ذلك في آية واحدة، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى...﴾ فهذا أمر طلب منك أن تفعله، ثم قال تعالى: ﴿...وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْيِ...﴾([29]).
ثم اعلم -رحمك الله تعالى- أن الله تعالى لم يأمر العباد بشيء وجوبًا أو يقتضيه منهم ندبًا إلا والمصلحة لهم في فعل ذلك الأمر، ولم يقتضِ منهم ترك شيء تحريمًا أو كراهة إلا والمصلحة لهم في تركه.
أمرهم بتركه وجوبًا أو ندبًا، ولسنا نقول كما قال من عدل به عن طريق الهدى أنه يجب عليه رعاية مصالح عباده، بل إنما نقول ذلك عادة الحق وشريعته المستمرة، فعلها مع عباده على سبيل التفضل، فليت شعري إذا قالوا: «يجب على الله رعاية مصالح عباده» فمن هو الموجب عليه؟! ثم إنَّا نظرنا فرأينا كل مأمور به أو مندوب إليه يستلزم الجمع على الله تعالى، وكل منهيٍّ عنه أو مكروه يتضمن التفرقة عنه، فإذا مطلوب الله تعالى من عباده وجود الجمع عليه، لكن الطاعات هي أسباب الجمع ووسائله؛
فلذلك أمر بها، والمعصية هي أسباب التفرقة ووسائلها؛ فلذلك نهى عنها.
وأما الفرائض الظاهرة فلا تنفك عن فروض باطنة، وفرائض الباطنة شروطها وعمدة لها، وبين الفروض الظاهرة والباطنة ما بين الظاهر والباطن، وافهم ها هنا قوله عليه الصلاة والسلام: «نيةُ المؤمن خير من عمله»، وكذلك الذنوب الباطنة، كبائرها وصغائرها أشد من الذنوب الظاهرة كبيرها وصغيرها، ولما كانت الفرائض اقتضاء الحق من عبده، اقتضاها إلزام حتمه عليه، لم يدخل العبد فيها إلا باختيار الله تعالى له، فاندفع هوى العبد فيها؛ لأن الله سبحانه وتعالى وقت إعدادها وإمدادها وأسبابها، فلما كان ذلك قيام العبد فيها منقطعًا عن اختياره لنفسه، راجعًا إلى اختيار الله تعالى له، فأوجبت القرب من الله تعالى ما لم يوجبه غيرها؛ فلذلك قال: «ما تقرب المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم»، وقال: «وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه»([30]).
واعلم أن النوافل هي الزيادة؛ ولذلك يسمى النفل نفالًا، وهو ما ينفله الإمام لمن يراه زائدًا على نصيبه من الغنيمة، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ...﴾([31])؛ أي زيادة لك من فضلنا على ما اقتضته الفرائض لك.
واعلم أنه سبحانه وتعالى لم يوجِب شيئًا من الواجبات غالبًا، إلا وجعل من جنسه نافلة، حتى إذا قام العبد بذلك الواجب وفيه خلل، جبر بالنافلة التي هي من جنسه؛ ولذلك جاء في الحديث: أنه ينظر في صلاة العبد فإن قام بها كما أمره الله تعالى جوزي عليها وأثبتت له، وإن كان فيها خلل كملت من نافلته، حتى قال بعض أهل العلم: إنما تثبت لك نافلة إذا سلمت لك الفريضة.
ولما علم الله تعالى أن في عبادة المؤمنين أقوياء وضعفاء، كما جاء في الحديث: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف»([32])، وفي كلٍ خير، ففسح على الضعفاء بالاكتفاء بالواجبات، وفتح للأقوياء باب النوافل الخيرات؛ فعباد أنهضهم إلى القيام بالواجبات خوفُ عقوبته، فقاموا لها تخليصًا لأنفسهم من وجود الهلكة وملاقاة العقوبة، فما قاموا لله تعالى شوقًا وطلبًا للوفاء مع ربوبيته، فلو قوبلوا بالمحاتفة لم يقبل منهم قيامهم هذا؛ لأنهم لم ينهضوا إلا لأجل نفوسهم، ولم يطلبوا إلا حظوظهم، فقاموا لواجبات الله تعالى مجرورين بسلاسل الإيجاب، كذلك
جاء في الحديث: «عجب ربك من قوم يساقون إلى الجنة بالسلاسل»([33])، وأما العباد الآخرون فعندهم من غليان الشغف وجُودِ الحب ما ليس تكفيهم الواجبات، بل قلوبهم منفلتة إلى الله تعالى من عوائق هذه الدار، فلو لم يحجز عليهم التنفل بالصلوات في أوقات النهي؛ لسرمدوا الأوقات بها، ولحمَّلوا أنفسهم فوق ما يطيقون.
ومما يدلك أنَّ الناس انقسموا على هذين القسمين، أنَّ رسول الله > قال في حديث: «بادروا بالأعمال سعيًا، هل ينظر أحدكم إلا غنى مطغيًا، أو فقرًا منسيًا، أو مرضًا مقعدًا، أو هَرَمًا مقيدًا، أو موتًا مُجْهِزًا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر»([34]).
فهذا الحديث يقتضي إنهاض الهمم إلى معاملة الله تعالى، والحث على المبادرة إلى طاعة الله تعالى، ومسابقة العوارض والقواطع قبل ورودها؛ فهذا خطاب للفريق الأول، فطالبهم الرسول > بالمبادرة بالأعمال، وجاءت أحاديث أخرى آمرة للعباد بالاقتصاد في الطاعة؛ لئلا يطيعوا باعث الشغف، فيحملوا أنفسهم فوق ما يطيقون، فيؤدي ذلك إلى عجزهم عن طاعة الله تعالى، أو قيامهم فيها بوجود التكلف.
وقال >: «اكلفوا من العمل ما تطيقون، فوالله لا يمل اللهُ حتى تملوا»([35])، وقال: «القصدَ القصدَ تبلغوا»([36])، وقوله: «إن هذا الدين متين؛ فأوغلوا فيه برفق»([37])، وقوله: «ولا تُبَغِّضْ إلى نفسك عبادة الله تعالى»([38]).
ومثل القائم بالواجبات المكتفى بها والقائم بها وبالنوافل، كمثل عبدين خارَجهما المالك على أربعة دراهم كل يوم، فأما أحدهما فقام بها ولم يزد، وأما الآخر فقام بها وعمد إلى ظروف الفواكه وغرائب التحف، فاشتراها وأهداها إلى السيد؛ فهو لا شك أولى بود السيد من العبد الآخر، وقوله: «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به...» [الحديث]، معناه وجود البقاء بعد الفناء، فتُمحى أوصافك.
وسمعت شيخنا أبا العباس } يقول: إن لله تعالى عبادًا محق أفعالهم بأفعاله، وأوصافهم بأوصافه، وذاتهم بذاته، وحملهم من أسراره ما يعجز عامة الأولياء عن سماعه، وهم الذين غرقوا في بحر الذات وتيار الصفات؛ فهي إذن فئات ثلاث: أن يغنيك عن أفعالك بأفعاله، وعن أوصافك بأوصافه، وعن ذاتك بذاته؛ ولذلك قال قائلهم:
وَقَوْمٌ تَاهُ فِي أَرْضٍ بِقَفْرٍ |
* | وَقَوْمٌ تاهُ فِي مَيْدَانِ حُبِّهْ |
فَأُفْنُوا ثُمَّ أُفْنُوا ثُمَّ أُفْنُوا |
* | وَأُبْقُوا بِالْبَقَا مِنْ قُرْبِ قُرْبِهْ |
فإذا أفناك عنك أبقاك به، فالفناء دهليز البقاء ومنه يُدخل إليه، فمن صدق فناؤه صدق بقاؤه، ومن كان عمَّا سوى الله تعالى فناؤه كان بالله تعالى بقاؤه؛ ولذلك قالوا: من كان في الله تعالى تلفه، كان على الله تعالى خلفه، فالفناء يوجب عذرهم، والبقاء يوجب نصرهم، الفناء يوجب غيبتهم عن كل شيء، والبقاء يحضرهم مع الله في كل شيء فلا ينقطعون عنه في شيء، الفناء يميتهم والبقاء يحييهم، ومن دُكَّت جبال وجوده استمع داعي شهوده، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجِبَالِ...﴾ الآية ﴿...إِلَّا هَمْسًا﴾ [طه:105- 108]، وصاحب البقاء يقوم عن الله تعالى، وصاحب الفناء يقوم الله تعالى عنه، وقوله: «وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه».
واعلم -رحمك الله تعالى- أن التردد يجب تأويله ولا يحمل على ظاهره، وإنما التردد في المخلوقين إما لتقابل الحوادث وإما لانتهاء العواقب، وذلك محال في حق الحق سبحانه وتعالى.
وإنما المراد بالتردد ها هنا: أن سابق علم الله يقتضي وفاة العبد بالوقت الذي سبق العلم بتعيينه، وصفة الرأفة تقتضي دفع ذلك لولا ما سبق العلم، وقد
أشار سبحانه وتعالى إلى صفة الرأفة بقوله: «يكره الموت وأكره مساءته»، وأشار إلى صفة العلم بقوله: «ولا بد له منه».
انعطاف
اعلم -رحمك الله تعالى بإقباله عليك، وجعل أنواره واصلة إليك- أنهما ولايتان، ولي يتولى الله، وولي يتولاه الله تعالى.
قال الله عز وجل في الولاية الأولى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ﴾([39]).
وقال في الولاية الثانية: ﴿...وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ [الأعراف:196]، قال الشيخ أبو الحسن }: من أَجَلِّ مواهب الله تعالى الرضا بمواقع القضاء، والصبر عند نزول البلاء، والتوكل على الله تعالى عند الشدائد، والرجوع إليه عند النوائب، فمن خرجت له هذه الأربع من خزائن الأعمال على بساط المجاهدة، ومتابعة السنة، والاقتداء بالأئمة؛ فقد صحت ولايته لله ولرسوله وللمؤمنين، ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ﴾.
ومن خرجت له من خزائن المنن على بساط المحبة، فقد تَمَّتْ ولاية الله تعالى له بقوله: ﴿...وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ ففرق بين الولايتين، فعبد يتولى الله، وعبد يتولاه الله تعالى؛ فهنا ولايتان صغرى وكبرى.
فولايتك لله تعالى خرجت من المجاهدة، وولايتك لرسوله خرجت من متابعة سنته، وولايتك للمؤمنين خرجت من الاقتداء بالأئمة؛ فافهم ذلك من قوله: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ...﴾ الآية.
واعلم -رحمك الله تعالى بورود عواطفهْ، وفهَّمك لطائف عوارفهْ- أن الصلاح في قوله عز وجل: ﴿...وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾، ليس مرادًا به الصلاحُ الذي يقصده أهل الطريق عند تفصيل المراتب، فيقولون: صالح وشهيد وولي، بل الصلاح هنا المراد به الذين صلحوا لحضرته بتحقق الفناء عن خليقته، ألم تسمع قول الله سبحانه وتعالى حاكيًا عن يوسف —: ﴿...تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يوسف:101]!.
أراد بالصالحين المرسلين من آبائه؛ لأن الله تعالى أهَّلَهم لنبوته ورسالته، فكانوا لها أهلًا، وإن شئت قلت هما ولايتان: ولاية الإيمان، وولاية الإيقان؛ فولاية الإيمان قال الله سبحانه وتعالى: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ...﴾([40]).
وفي هذه الآية فوائد:
الفائدة الأولى: اختصاص اسم الله تعالى بالذكر في هذا الوطن دون ما سواه من الأسماء، فقال الله سبحانه وتعالى: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا...﴾ [البقرة:257]، ولم يقل: الرحمن ولا القهار، ولا غير ذلك من الأسماء التي تتضمن الأوصاف؛ لأنه أراد أن يعرفك بشمول ولايته لسائر المؤمنين من الاسم الجامع لجميع الأسماء، فلو ذكر اسمًا من أسماء الأوصاف لكانت الولاية من حيثية ذلك الاسم.
الفائدة الثانية: ربط الولاية بالإيمان ليعرفك غزارة قدر الإيمان وعلو منصبه، حتى كان سببًا لثبوت ولاية الله تعالى للعبد، ولا يفهم من هذه الآية اختصاص الولاية بمن وقع منه الإيمان قبل نزول هذا الخطاب لإتيانه بصيغة الماضي، بل المراد من قام به الإيمان وجبت ولاية الله تعالى له؛ أي وقت كان ذلك الإيمان، وقد تُساق الأفعال على صيغة خاصة، وليس المراد خصوص تلك الصيغة، كما تقول: قد أفلح من آمن وخاب من كفر، ألا ترى أن المراد بالأول قد أفلح من كان منه إيمان وقد خاب من كان منه كفر، من غير تعرض لزمان معين.
الفائدة الثالثة: قال سبحانه وتعالى: ﴿...يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ...﴾([41]) على وسع رحمته وسبوغ نعمته؛ إذ لمَّا قال: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ...﴾، علم أنهم قد يدخلون في الظلمات ولكن الله تعالى لولايته إياهم يتولى إخراجهم، كما قال في الآية الأخرى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ...﴾([42]) الآية، تساق لمدح المؤمنين كما ساق قوله: ﴿...يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ...﴾ فساق البشارة لهم ولم يقل: والذين يفعلون الفاحشة؛ إذ لو قال ذلك لم يدخل فيه إلا أهل الاعتناء الأكبر، وكذلك قوله تعالى: ﴿...وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ...﴾([43])، وكذلك قوله تعالى: ﴿...وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾([44]) فمدحهم بالمغفرة بعد الغضب، ولم يقل: والذين لا يغضبون؛ فيصفهم بفقدان الغضب أصلًا؛ إذ الصفة التي هم يتصفون بها لا تقتضي ذلك.
الفائدة الرابعة: إعلام الحق سبحانه في هذه الآية المؤمنين ببشارة عظيمة
تتضمنها ولايته؛ لأنها تضمنت كل خير من خير الدنيا والآخرة، من: نور وعلم، وفتح وشهود، ومعرفة ويقين، وتأييد ووجود مزيد، وحور وقصور، وأنهار وثمار، ورؤية الله تعالى، ورضاء عن الله تعالى ومن الله تعالى، وما بين ذلك من الحشر مع المتقين، وأخذ الكتاب باليمين، وثقل الميزان بالحسنات، والثبات على الصراط، وما سوى ذلك من المنح والمواهب تتضمنه ولاية الله تعالى لعباده المؤمنين؛ فهي البشارة التي تضمنت كل بشارة.
واعلم أنَّ ولاية الله تعالى تتضمن النفع والدفع، أما النفع فمن قوله: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا...﴾([45])، ومن قوله: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا...﴾([46]).
وهذا في صفة الكافرين، فمفهومه أن الإيمان ينفع المؤمنين ولو عند رؤية الناس، وكذلك قوله: ﴿...يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا...﴾([47]).
فمفهومه إذا كانت مؤمنة من قبلُ ينفعها إيمانها، وأما الدفع فمن قوله: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا...﴾([48])، وتتضمن النصرة لقوله تعالى: ﴿...وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ﴾([49])، تتضمن النجاة لقوله تعالى: ﴿...كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ المُؤْمِنِينَ﴾([50]).
الفائدة الخامسة: قوله تعالى: ﴿...يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ...﴾([51])؛ أي: يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن ظلمات البدعة إلى نور السنة، ومن ظلمات الغفلة إلى نور اليقظة، ومن ظلمات الحظوظ إلى نور الحقوق، ومن ظلمات طلب الدنيا إلى نور طلب الآخرة، ومن ظلمات المعصية إلى نور الطاعة، ومن ظلمات الكثائف إلى نور اللطائف، ومن ظلمات الهوى إلى نور التقوى، ومن ظلمات الدعوى إلى إشراق نور التبري من الحول والقُوَى، ومن ظلمات
السكون إلى شهود المسكون، ومن ظلمات التدبير إلى إشراق نور التفويض، إلى غير ذلك مما لا يحصره العد مِمَّا يخرجهم عنه ويخرجهم إليه.
وأما الولاية الثانية: ولاية الإيقان، وهي تتضمن الإيمان والتوكل، وقد قال الله سبحانه وتعالى: ﴿...وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ...﴾([52])، ولا يكون التوكل إلا مع اليقين، ولا يكون توكل ويقين إلا مع الإيمان؛ لأن اليقين عبارة عن استقرار العلم بالله تعالى في القلب، مأخوذ من «يقِن الماء في الجبل» إذا استقر وسكن فيه؛ فكل يقين إيمان وليس كل إيمان يقينًا، والفرق بينهما: أن الإيمان قد يكون مع الغفلة، واليقين لا تجامعه الغفلة، وإن شئت قلت هما ولايتان: ولاية الصادقين وولاية الصديقين؛ فولاية الصادقين بإخلاص العمل لله تعالى، والقيام بالوفاء مع الله تعالى؛ طلبًا للجزاء من الله تعالى، وولاية الصديقين: بالفناء عَمَّا سوى الله تعالى، والبقاء في كل شيء بالله تعالى.
وقد قال الشيخ أبو الحسن }: في بعض كتب الله تعالى المنزلة على بعض أنبيائه: «من أطاعني في كل شيء أطعته في كل شيء».
فقال الشيخ أبو الحسن: «من أطاعني في كل شيء بهجرانه لكل شيء، أطعته في كل شيء بأن أتجلى له دون كل شيء، حتى يراني أقرب إليه من كل شيء، هذه طريقة أولى وهي طريقة السالكين، وطريقة كبرى: من أطاعني في كل شيء بإقباله على كل شيء بحسن إرادة مولاه في كل شيء، وإطاعته في كل شيء، بأن أتجلى له في كل شيء، حتى يراني كأني في كل شيء».
وإذ قد عرفت هذا، فاعلم أنهما ولايتان: ولي يفنى عن كل شيء فلا يشهد مع الله تعالى شيئًا، وولي يبقى في كل شيء فيشهد الله تعالى في كل شيء، وهذا أتم؛ لأن الله تعالى لم يظهر المملكة حتى يشهد فيها.
فالكائنات مزايا الصفات، فمن غاب عن الكون غاب عن شهود الحق فيه، فما نصبت الكائنات لتراها ولكن لترى فيها مولاها، فمراد الحق منك أن تراها بين من لا يراها، تراها من حيث ظهوره فيها ولا تراها من حيث كونيتها، ولنا في هذا المعنى شعر:
مَا أُبْنِيَتْ لَكَ الْعَوَالِمُ إِلَّا |
* | لِتَرَاهَا بِعَيْنِ مَنْ لَا يَرَاهَا |
فَارْقَ عَنْهَا رُقِيَّ مَنْ لَيْسَ يَرْضَى |
* | حَالُهُ دَونَ أَنْ يَرَاهَا مَوْلَاهَا |
فالناظر للكائنات غير شاهد للحق فيها غافل، والفاني عنها عبد بسطوات الشهود ذاهل، والشاهد للحق فيها عبد مخصص كامل، وإنما ترفع الهمة عن الكون من حيث كونيتُه، لا من حيث ظهور الحق فيه؛ فأعضاء الزهاد والعباد وأهل الإرادة عن الكون؛ لأنَّهم لم يشهدوا ظهور الحق فيه؛ وذلك لعدم نفوذهم إليه في كل شيء، لا لعدم ظهوره في كل شيء؛ فإنه ظاهر في كل شيء، حتى إنه ظاهر «فيما به» احتجب؛ فلا حجاب، ولنا في هذا المعنى شعر:
وَكُلٌّ مُحْتَاجٌ وَأَنْتَ لَكَ الْفَتَى |
* | وَمِثْلِي مَنْ يُخْطِي وَمِثْلُكَ مَنْ يَعْفُو |
وَأَنْتَ الَّذِي أَبْدَى الْوِدَادَ تَكَرُّمًا |
* | وَمِثْلُكَ مَنْ يَرْعَى وَمِثْلِي مَنْ يَجْفُو |
وَمَا طَابَ عَيْشٌ لَمْ تَكُنْ فِيهِ وَاصِلًا |
* | وَلَمْ يَصْفُ لَا وَاللهِ أَنَّى لَهُ يَصْفُو |
عَزَمْتُ عَلَى أَنْ أَتْرُكِ الْكَوْنَ كُلَّهُ |
* | وَأَقْفُو سَبِيلَ الْحُبِّ وَالْمُجْتَبَى يَقْفُو |
شُهُودُكُمْ يَجْلُو الْحِجَابَ لِأَنَّه |
* | إِذَا حَقَّقَ التَّحْقِيقَ صَارَ هُوَ الْكَشْفُ |
وَمَا أَحْسَنَ الْأَحْبَابَ فِي كُلِّ حَالَةٍ |
* | فَلله مَا يُبْدُوا وَللهِ مَا يُخْفُوا |
وَإِنَّ الْأُلَى لَمْ يَشْهَدُوكَ بِمَشْهَدٍ |
* | قُلُوبُهُمْ عَنْ نَيْلِ سِرِّ الْهَوَى غُلْفُ |
وَأَنْتَ الَّذِي أُظْهِرْتَ ثُمَّ ظَهَرْتَ فِي |
* | جَمِيعِ الْمَبَادِئِ مِثْلَ مَا شَهِدَ الْعُرْفُ |
ظَهَرْتَ لِكُلِّ الْكَوْنِ فَالْكَوْنُ مَظْهَرٌ |
* | وَفِيهِ لَهُ أَيْضًا كَمَا جَاءَتِ الصُّحْفُ |
فَأَيُّ فُؤَادٍ عَنْ وِدَادِكَ يَنْثَنِي |
* | وَأَيَّةُ عَيْنٍ بَعْدَ قُرْبِكَ لَنْ تَغْفُو |
وَأَيَّةُ نَفْسٍ لَمْ يُمِلْهَا هَوَاكُمُ |
* | عَلَى حُبِّكُم طُرًّا نُفُوسُ الْوَرَى وُقْفُ |
وإن شئت قلت هما ولايتان: ولاية دليل وبرهان، وولاية شهود وعيان؛ فولاية الدليل والبرهان لأهل الاعتبار، وولاية الشهود والعيان لأهل الاستبصار، فلأهل الولاية الأولى قوله سبحانه وتعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ...﴾([53]).
ولأهل الولاية الثانية، قوله سبحانه وتعالى: ﴿...قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾([54]).
وأرباب الدليل والبرهان عند أهل الشهود والعيان؛ لأنَّ أهل الشهود والعيان قدسوا الحق في ظهوره أن يحتاج إلى دليل يدل عليه، وكيف يحتاج إلى دليل من نصب الدليل! وكيف يكون معرفًا به وهو المعرف له! قال الشيخ
أبو الحسن }: «كيف يعرف بالمعارف من به عرفت المعارف! أم كيف يعرف بشيء من شبق وجوده وجود كل شيء!».
وقال مريد لشيخه: يا أستاذ، أين الله تعالى؟ فقال له: أسحقك الله، أتطلب مع العين الأين! وأنشد بعض العارفين:
لَقَدْ ظَهَرْتَ فَلَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ |
* | إِلَّا عَلَى أَكْمَهٍ لَا يَعْرِفُ الْقَمَرَا |
ثُمَّ اسْتَتَرْتَ عَنِ الْأَبْصَارِ يَا أَحَدُ |
* | فَكَيْفَ يُعْرَفُ مَنْ بِالْعِزَّةِ اسْتَتَرَا |
فما احتجب الحق عن العباد إلا بعظم ظهوره، ولا منع الأبصار أن تشهده إلا قهاريةُ نوره، فعظيم القرب هو الذي غيب عنك شهود القرب.
قال الشيخ أبو الحسن: حقيقة القرب أن تغيب في القرب عن القرب لعظيم القرب، لمن يشمُّ رائحة المسك؛ فلا يزال يدنو منها، كلما دنا تزايد ريحها، فإذا دخل البيت الذي هو فيه انقطعت رائحته عنه، وأنشد بعض العارفين:
كَمْ ذا تُمَوِّهُ بِالشِّعْبَيْنِ وَالْعَلَمِ |
* | وَالْأَمْرُ أَوْضَحُ مِنْ نَارٍ عَلَى عَلَمِ |
أَرَاكَ تَسْأَلُ عَنْ نَجْدٍ وَأَنْتَ بِهَا |
* | وَعَنْ تِهَامَةَ هَذَا فِعْلُ مُتَّهَمِ |
ووجدت بخط شيخنا أبي العباس } شعرًا:
أَعِنْدَكَ مِنْ لَيْلَى حَدِيثٌ مُحَرَّرُ |
* | بِإِيرَادِهِ يَحْيَا الرَّمِيمُ وَيُنْشَرُ |
فَعَهْدِي بِالْعَهْدِ بِهَا الْقَدِيمِ وَإِنَّنِي |
* | عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي هَوَاهَا مُقَصِّرُ |
وَقَدْ كَانَ عَنْهَا الطَّيْفُ قِدْمًا يَزُورُنِي |
* | وَلَمْ يَزُرْ مَا بَالُهُ يَتَعَذَّرُ |
فَهَلْ يَحْلِفُ حَتَّى بِطَيْفِ خَيَالِهَا |
* | أَمِ اعْتَلَى حَتَّى لَا يَصِحُّ التَّصَوُّرُ |
وَمِنْ وَجْهِ لَيْلَى طَلْعَةُ الشَّمْسِ تَسْتَضِي |
* | وَفِي الشَّمْسِ أَبْصَارُ الْوَرَى تَتَحَيَّرُ |
وَمَا احْتَجَبَتْ إِلَّا بِرَفْعِ حِجَابِهَا |
* | وَمِنْ عَجَبٍ أَنَّ الظُّهُورَ تَسَتُّرُ |
واعلم أنَّ الأولى إنما نصبت لمن يطلب الحق لا لمن يشهده؛ فإن الشاهد غني بوضوح المشهود عن أن يحتاج إلى دليل، فتكون المعرفة باعتبار توصيل الوسائل إليها كسبية، ثم تعود فيها نهايتُها ضرورية، وإذا كان من الكائنات ما هو غني بوصفه عن إقامة دليل؛ فالمكون أولى بغناه عن الدليل منها.
وقد قال الشيخ أبو الحسن }: «وإنا لننظر إلى الله ببصر والإيقان؛ فأغنانا ذلك عن الدليل والبرهان، وإنا لنرى أحدًا من الخلق هل في الوجود أحد سوى الملك الحق؟ وإن كان ولا بد فكالهبا في الهوى، إذا فتشته لم تجد شيئًا، ومن أعجب العجب أن تكون الكائنات موصلة إليه، فليت شعري هل
لها وجود معه حتى وصل إليه، أو هل لها من الوضوح ما ليس له حتى تكون هي المظهرة له، وإن كانت الكائنات موصلة إليه؛ فليس ذلك لها من حيث ذاتها، لكن هو الذي ولاهم رتبة التوصيل، فوصلت؛ فما وصل إليه غيرُ ألوهيته، ولكن الحكيم هو واضح الأسباب، وهي لمن وقف عندها، ولم ينفذ إلى قدرته عين الحجاب».
وقد قال الراوي: أصبح رسول الله > في أثر مما كان في الليل، فقال: أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «قال ربكم: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته؛ فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنجم كذا أو بنوء كذا؛ فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب»([55]). [رواه مالك في «الموطأ»]، فلا بد من الأسباب وجودًا، ولا بد من الغيبة عنها شهودًا، وكيف تكون الكائنات مظهرة له وهو الذي أظهرها، أو معرفة له وهو الذي عَرَّفَهَا!.
فإن قامت فقد جاء في الحديث: «من عرف نفسه عرف ربه»؛ فهذا يدل على أن معرفة النفس موصلة إلى معرفة الله تعالى، وهي كون من الأكوان؛ ففيه إثبات توصيل الكائنات إليه.
فاعلم أني سمعت شيخنا } يقول: في هذا الحديث تأويلان؛ أحدهما: من عرف نفسه بذلها وعجزها وفقرها؛ عرف الله بعزته وقدرته وغناه، فتكون معرفة النفس أولًا ثم معرفة الله تعالى من بعد.
والتأويل الثاني: من عرف نفسه عرف ربه؛ أي من عرف نفسه فقد دل ذلك منه على أنه عرف الله من قبل، فالأول حال السالكين والثاني حال المجذوبين.
واعلم -بسط الله لك بساط منته، وجعلك من أهل حضرته- أن الله سبحانه إذا تَوَلَّى وليًّا صان قلبه من الأغيار، وحرسه بدوام الأنوار، حتى لقد قال بعض العارفين: إذا كان الحق سبحانه قد حرس السماء بالكواكب والشهب، كي لا يسترق السمع منها؛ فقلب المؤمن أولى بذلك؛ لقوله تعالى فيما يحكيه عنه رسول الله >: «لم يسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن»([56])، فانظر -رحمك الله تعالى- هذا الأمر الأكبر الذي أُعطيه هذا القلب، حتى صار لهذه الرتبة أهلًا.
ولقد قال الشيخ أبو الحسن: «لو كشف عن نور المؤمن العاصي، لطبق ما بين السماء والأرض»،
فما ظنك بنور المؤمن المطيع!.
ولقد سمعت شيخنا أبا العباس يقول: لو كشف عن حقيقة الولي لعبد؛ لأنَّ أوصافه من أوصافه، ونعوته من نعوته.
ولقد أخبرني بعض المريدين، قال: صليت خلف شيخي صلاة، فشهدت ما أبهر عقلي؛ وذلك أني شهدت بدن الشيخ والأنوار قد مَلَأَتْهُ، وانبثَّتِ الأنوار من وجوده، حتى إني لم أستطع النظر إليه، فلو كشف الحق عن مشرقات أنوار قلوب أوليائه لانطوى نور الشمس والقمر في مشرقات أنوار قلوبهم، وأين نور الشمس والقمر من أنوارهم! الشمس يطرأ عليها الكسوف والغروب، وأنوار قلوب أوليائه لا كسوف لها ولا غروب؛ ولذلك قال قائلهم:
إِنَّ شَمْسَ النَّهَارِ تَغْرُبُ بِاللَّيْلِ |
* | وَشَمْسُ الْقُلُوبِ لَيْسَ تَغِيبُ |
ونور الشمس تشهد به الآثار، ونور اليقين يشهد به المؤثر، ولنا في هذا المعنى شعر:
هَذِهِ الشَّمْسُ قَابَلَتْنَا بِنُورٍ |
* | وَشَمْسُ الْيَقِينِ أَبْهَرُ نُورَا |
فَرَأَيْنَا بِهَذَا النُّورِ لَكِنْ |
* | بِهَاتِيكَ قَدْ رَأَيْنَا الْمُنِيرَا |
لكن الحق سبحانه وتعالى يوفي أعيان الممكنات حقها، ويعطيها قسطها، فيقرر لكل كون رتبته، ويوفيه دولته؛ فذلك ستر من الخصوصية في وجوب البشرية، ولا بد للشمس من سحاب، وللحُسن من نقاب، وهل يكون الكنز إلا مدفونًا والسر إلا مصونًا! وصنَع ذلك سبحانه ليكون سر الولاية غيبًا، فيكون المؤمن به مؤمنًا بالغيب، وأيضًا أجلُّ سر ولايته أن يظهره في دار لا بقاء لها، فأرخى عليه ذيل الستر، حتى إذا كانت الدار الآخرة التي رضيها أهلًا لظهوره واقترابه ووجوده، كشف حجابه كذلك بكشف الحجاب هنالك عن سِرِّ الولاية، ويجل مقداره ويرفع مناره.
واعلم -رحمك الله- أنَّ من أراد اللهُ به أن يكون داعيًا إليه من أوليائه؛ فلا بد من إظهاره إلى العباد؛ إذ لا يكون الدعاء إلى الله إلا كذلك، ثم لا بد أن يكسوه الحقُّ كسوتين: الجلالة، والبهاء؛ الجلالة لتعظمه العباد فيقفوا على حدود الأدب معه، ويضع له في قلوب العباد هيبة، وينصره بها ليكون إذا أمر ونهى مسموعًا أمره ونهيه، وجعل هذه الهيبة في قلوب العباد من تمكين الحق له؛ ليعينه على القيام له بالنصرة، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ
المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾([57]).
وهي من إظهار إعزاز الحق لعباده المؤمنين، قال سبحانه: ﴿...وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ...﴾([58]).
وهذه الهيبة التي جعلها الحق في قلوب العباد لأوليائه، سرت إليهم لانبساط جاه المتبوع عليهم.
ألم تسمع قوله >: «ونصرت بالرعب مسيرة شهر»([59])، ألبَسهم الحق ملابس هيبته، وأظهر عليهم إجلال عظمته، كلما نزلوا أرض العبوديَّهْ رفعهم إلى سماء الخصوصيَّهْ؛ فهم الملوك وإن لم تُخفق عليهم البنود، والأعزاء وإن لم تسر أمامهم الجنود، ولله در القائل في مالك بن أنس } شعر:
يَأْتِي الْجَوَابُ فَمَا يُرَاجِعُ هَيْبَتَهْ |
* | وَالسَّائِلُونَ نَوَاكِسُ الْأَذْقَانِ |
أَدَبُ الْوَقَارِ وَعِزُّ سُلْطَانِ التُّقَى |
* | فَهْوَ الْمُطَاعُ وَلَيْسَ ذَا سُلْطَانِ |
ومن مَلَّكَهُ الله أمر نفسه وهواه، فقد أتاه الله الملك، قال تعالى: ﴿قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ...﴾([60]).
وسمعت شيخنا أبا العباس يقول: قال ملك من الملوك لبعض العارفين: تمنَّ عليَّ. فقال له ذاك العارف: إليَّ تعول ولي عبدان قد ملكتُهما وملكاك، وقهرتهما وقهراك، وهما الشهوة والحرص؛ فأنت عبد عبدي فكيف أتمنى على عبد عبدي!.
الكسوة الثانية التي يكسوها الحق لأوليائه إذا أظهر لهم: كسوة البهاء؛ وذلك ليحليهم في قلوب عباده، فينظرون إليهم بعين المنة والمحبة، فيكون ذلك باعثًا لهم على الانقياد إليهم، أفلا ترى كيف قال الله تعالى في شأن موسى —: ﴿...وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي...﴾ [طه:39]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾([61]).
فحلاهم تحلية التبهية ليحبهم العباد، فيجرهم حبهم إلى حب الله، والحب في الله يوجب المحبة من الله؛ لقوله — حاكيًا عن الله: «وجبت محبتي للمتحابين فيَّ»([62])، وهي أربع مراتب: الحب لله، والحب في الله، والحب بالله، والحب من الله؛ فالحب لله ابتداء، والحب من الله انتهاء،
والحب في الله وبالله واسطة بينهما الحب لله، هو أن تؤثِره ولا تؤثر عليه سواه، والحب في الله أن تحب فيه من والاه، والحب بالله أن يحب العبدُ من أحبه وما أحبه، مقتطعًا عن نفسه وهواه، والحب من الله هو أن يأخذ من كل شيء، فلا تحب إلا إياه.
وعلامة الحب لله دوام ذكره مع الحضور، وعلامة الحب في الله أن تحب من لم يحسن لك بدنيا من أهل الطاعة والخيور، وعلامة الحب بالله أن يكون باعث الحظ بنور الله مقهورًا، وعلامة الحب من الله أن يجذبك إليه فيجعل ما سواه عنك مستورًا.
وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: من أحب الله وأحب لله فقط تمَّت ولايته، والمحب على الحقيقة من لا سلطان على قلبه لغير محبوبه، ولا مشيئة له غير مشيئته؛ فإذن من ثبتت ولايته من الله لا يكره الموت، ويعلم ذلك من قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ للهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾([63]).
فإذن الولي على الحقيقة لا يكره الموت إن عرض عليه، وقد أحب الله من لا محبوب له سواه، وأحب له في عشرة، فاعتبرها فيما وراءها في الرسول — وفي الصديق والفاروق، والصحابة والتابعين والأولياء والعلماء، والهداة إلى الله والشهداء والصالحين والمؤمنين، فإذا افترق الأمر بعد الإيمان إلى عشرة أشياء، إلى السنة والبدعة والهداية والضلالة والطاعة والمعصية والعدل والجور والحق والباطل.
وميزت وأحببت وأبغضت له وأبغض له، ولست تبالي بأيهما كنت، وقد يجمع لك الوصفان في شخص واحد، ويجب عليك القيام بحقهما جميعًا، فإذن قد بان لك الحب في العشرة الأولى، فانظر هل ترى للهوى هناك أثرًا؛ فكذلك فاعتبر حب من حضر من إخوانك الصادقين والمشايخ الصالحين والعلماء المهديين، وسائر من أحضر ومن حضر بمن غاب عنك أو مات، فإن وجدت قلبك لا متعلق له بمن حضر، كما لا متعلق له بمن غاب أو مات؛ فقد خلص الحب من الهوى، وثبت الحب لله تعالى.
وإن وجدت شيئًا يتعلق به فيمن يحب أو فيما تحب؛ فارجع إلى العلم، وأتقن النظر في الأقسام الخمسة، من: الواجب، والمندوب إليه، والمكروه، والمحظور، والمباح.
واعلم أنَّ قول الشيخ: «من ثبتت ولايته لا يكره الموت»، هذا ميزان إعطاء الله للمريدين ليزنوا به على نفوسهم إذا ادعى فيهم، أو ادَّعَوْا ولاية الله؛ فإن من
شأن النفوس وجود الدعوى، والتوثب إلى المراتب العالية، من غير أن يسلك السبيل الموصلة إليها؛ ولهذا قال سبحانه: ﴿...هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾([64]).
وقال الرسول > لحارثة: «لكل حقٍّ حقيقة، فما حقيقة إيمانك»([65])، لما قال له: «كيف أصبحت؟». فقال: أصبحت مؤمنًا حقًّا.
ولا يحب الموت من فيه البقايا، ولا من هو مصر على شيء من الخطايا، وجعل الله تمني الموت شاهدًا للولي بولايته، وعدم تمنيه شاهد الغوي بغوايته، قال الله سبحانه: ﴿وَأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالقِسْطِ...﴾([66]).
والموت ميزان على الأفعال والأحوال، كما هو ميزان في دائرة الرتب.
أما الرتب فكما تقدم، وأما الأفعال والأحوال، فإذا التبس عليك الأمر، وأنت فيه لا تدري رضى الله بتركه أو فعله، أو حال أنت بها لا تدري هل قمت فيها بحق أو قمت بها بهوى؛ فأورد الموت على ما أنت فيه من أفعال وأحوال، فكل حالة وعمل يثبت مع تقدير ورود الموت عليها ولم ينهزم فهي حق، وكل حالة وعمل هدمها الموت فهي باطل؛ إذ الموت حق والحق يهزم الباطل ويدمغه؛ لقوله عز وجل: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ...﴾([67])، ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَّامُ الغُيُوبِ﴾([68])، ﴿وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾([69]).
وما كنت فيه قائمًا بحق لم يهزمه الموت؛ إذ هو حق والموت حق والحق لا يهزم الحق، وقد تجاريت الكلام أنا وبعض من يشتغل بالعلم في أنه ينبغي إخلاص النية فيه، وألَّا يشتغل به إلا الله، فقلت له: الذي يقرأ العلم لله هو الذي إذا قلت له: «غدًا تموت»، لم يضع الكتاب من يده، وربما غَرَّ الغافل عن طلبة العلم قولُ من قال: «طلبنا العلم لغير الله؛ فأبى أن يكون إلا لله»، وليس في قول القائل ما يستروح به من طلب العلم للرياسة
والمنافسة، وإنما أخبر هذا القائل عن أمر مَنَّ الله به عليه، وفتنة سلمه الله منها، لا يلزم أن يقاس عليه فيها غيره، ذلك بمثابة من به مرض مزمن في المعى أعياه علاجه وضاف منه خلقه، فأخذ خنجرًا وضرب به مَرَاقَ بطنه ليقتل نفسه، فصادف ذلك في المعى؛ فقطعه فخر الداء منه، فهذا لا يستصوب العقلاءُ فعله وإن نجحت عاقبته، وليست سلامة العواقب رافعة للعَتَبِ عن الملقين أنفسهم إلى التهلكة، «ليس المغر بمحمود وإن سلما».
وقول الشيخ: وقد أحب الله من لا محبوب له سواه؛ فهو كلام يستدعي معرفة المحبة، وما هي أعلم أن المحبة هي من أجلِّ مقامات اليقين، حتى اختلف أهل الله أيهما أتم: مقام المحبة([70])، أو مقام الرضا؟ وإن كان الذي نقول به أن مقام الرضا أتم؛ لأن المحبة ربما حكم سلطانها على الحب، وقوي عليه وجود الشغف؛ فأداه ذلك إلى طلب ما يليق بمقامه، إلا ليرى أن المحب يريد دوام شهود الحبيب، والراضي عن الله راضٍ عنه -أشهده أم حجبه- بحب دوام الوصلة، والراضي عن الله راضٍ عنه وصله أو قطعه؛ إذ ليس هو مع ما يريد لنفسه، بل إنما هو مع ما يريد الله له، والمحب طالب لدوام مراسلة الحبيب والراضي لا طلب له، ولنا في هذا المعنى شعر:
وَكُنْتُ قَدِيمًا أَطْلُبُ الْوَصْلَ مِنْهُمُ |
* | فَلَمَّا أَتَانِي الْعِلْمُ وَارْتَفَعَ الْجَهْلُ |
تَيَقَّنْتُ أَنَّ الْعَبْدَ لَا طَلَبٌ لَهُ |
* | فَإِنْ قَرُبُوا فَضْلٌ وَإِنْ بَعُدُوا عَدْلُ |
وَإِنْ أَظْهَرُوا لَمْ يُظْهِرُوا غَيْرَ وَصْفِهِمْ |
* | وَإِنْ سَتَرُوا فَالسِّتْرُ مِنْ أَجْلِهِمْ يَحْلُو |
قال الشيخ أبو الحسن: المحبة آخذة من الله لقلب عبده عن كل شيء سواه، فترى النفس مائلة لطاعته، والعقل متحصنًا بمعرفته، والروح مأخوذة في حضرته، والسرَّ مغمورًا في مشاهدته، والعبد يستزيد فيزاد، ويفاتح بما هو
أعذب من لذيذ مناجاته، فيكسب حلل التقريب على بساط القربة، ويمس أبكار الحقائق وثَيِّبَاتِ العلوم، فمن أجل ذلك قالوا: «أولياء الله عرائس، ولا يرى العرائس المجرمون».
قال له قائل: قد علمت الحب فما شراب الحب؟ وما كأس الحب؟ ومن الساقي؟ وما الذوق؟ وما الشراب؟ وما الري؟ وما السكر؟ وما الصحو؟ فقال: الشراب هو النور الساطع عن جمال المحبوب، والكأس هو اللطف الموصل ذلك إلى أفواه القلوب، والساقي المتولي للمخصوص الأكبر والصالحين من عباده، وهو الله العالم بالمقادير ومصالح أحبابه، فمن كشف له عن ذلك الجمال وحظي منه بشيء نفسًا أو نفسين، ثم أرخى عليه الحجاب؛ فهو الذائق المشتاق، ومن دام له ذلك ساعة أو ساعتين فهو الشارب حقًّا، ومن توالى عليه الأمر ودام له الشرب حتى امتلأت عروقه ومفاصله من أنوار الله المخزونة؛ فذاك هو الري، وربما غاب عن المحسوس والمعقول، فلا يدري ما يقال ولا ما يقول؛ فذاك هو السكر، وقد تدور عليهم الكاسات، وتختلف لديهم الحالات، ويردون إلى الذكر والطاعات، ولا يحجبون عن الصفات مع تزاحم المقدورات؛ فذاك وقت صحوهم واتساع نظرهم ومزيد علمهم، فهم بنجوم العلم وقمر التوحيد يهتدون في ليلهم، وبشموس المعارف يستضيئون في نهارهم، ﴿...أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾([71]).
قال الشيخ القطب عبد السلام بن مشيش، شيخ الشيخ أبي الحسن الشاذلي: الزم الطهارة من الشرك: كلما أحدثت تطهرت، ومن دنس حب الدنيا: كلما ملت إلى شهوة أصلحت بالتوبة ما أفسدت بالهوى أو كدت، وعليك بمحبة الله على التوقير والنزاهة، وأدمن الشرب بكأسها مع السكر والصحو، كلما أفقدت أو تيقظت شربت حتى يكون سكرك وصحوك به، وحتى تغيب بجماله عن المحبة عن الشراب، والشرب والكأس بما يبدو لك من نور جماله وقدس كمال جلاله، ولعلي أحدث من لا يعرف المحبة ولا الشراب، ولا من الشراب ولا الكأس والسكر ولا الصحو» قال له القائل: أجل وكم غريق في الشيء لا يعرف بغرقه! فعرفني ونبهني عما أجهل، أو لما به علي وأنا عنه غافل.
قلت لك: نعم المحبة آخذة من الله قلب مَن أحب بما يكشف له عن نور جماله وقدس
كمال جلاله، وشراب الحبة مزج الأوصاف بالأوصاف، والأخلاق بالأخلاق، والأنوار بالأنوار، والأسماء بالأسماء، والنعوت بالنعوت، والأفعال بالأفعال، ويتسع فيه النظر لمن شاء الله، والشراب سقيا القلوب والأوصال والعروق من هذا الشراب، حتى يسكر ويكون الشراب بالتدريب بعد التذويب والتهذيب، فيسقى كُلٌّ على قدره، فمنهم من يسقى بغير واسطة، الله سبحانه يتولى ذلك منه له، ومنهم من يسقى من جهة الوسائط كالملائكة والعلماء والأكابر من المقربين، فمنهم من يسكر بشهود الكأس ولم يَذُق بعد شيئًا، فما ظنك بعد الذوق وبعد الشرب وبعد الري وبعد السكر بالمشروب! ثم الصحو بعد ذلك على مقادير شتى، كما أن السكر أيضًا كذلك، والكأس معرفة الحق يغرف بها من ذلك الشراب الطهور المحض الصافي لمن شاء من عباده المخصوصين من خلقه؛ فتارة يشهد الشارب تلك الكأس صورة، وتارة يشهدها معنوية، وتارة يشهدها علمية؛ فالصورة حظ الأبدان والأنفس، والمعنوية حظ القلوب، والعقول، والعلمية حظ الأرواح والأسرار، فيا له من شراب ما أعذبه! فطوبى لمن شرب منه وداوم ولم يقطع عنه، نسأل الله من فضله، ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾([72]).
وقد يجتمع جماعة من المحبين، فيسقون من كأس واحدة، وقد يسقون من كئوس كثيرة، وقد يسقى الواحد بكأس وبكئوس، وقد تختلف الأشربة حسب عدد الكئوس، وقد يختلف الشراب من كأس واحدة، وإن شرب منه الجَمُّ الغفير من الأحبة.
انعطاف:
ثم اعلم -فتح الله قلبك بشهود أنواره، أو والى عليك ورود معارفه وأسراره- أنَّ من أجل مواهب الله لأوليائه وجود العبارة.
سمعت شيخنا أبا العباس يقول: يكون الولي مشحونًا بالعلوم والمعارف، والحقائق لديه مشهورة، حتى إذا أعطي العبارة كان كالإذن من الله له في الكلام، ويجب أن يفهم أن من أُذِنَ له في التعبير، تهيأت في مسامع الخلق عبارته، حليت لديهم إشارته.
وسمعت شيخنا أبا العباس يقول: كلام المأذون له يخرج وعليه كسوة وتلاوة، وكلام الذي لم يؤذن له يخرج مكسوف الأنوار، حتى إن الرجلين ليتكلمان بالحقيقة الواحدة، فيُقبل من أحدهما ويرد على الآخر.
ثم اعلم أنَّ مبنى أمر الولي على الاكتفاء بالله، والقناعة بعلمه والاغتناء بشهوده، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿...وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ...﴾([73])، وقال سبحانه وتعالى: ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ...﴾([74])، وقال: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى﴾([75])، وقال: ﴿...أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾([76])؛ فمبنى أمرهم في بداياتهم على الفرار من الخلق والانفراد بالملك الحق، وإخفاء الأعمال وكتم الأحوال؛ تحقيقًا لفنائهم، وتثبيتًا لزهدهم، وعملًا على سلامة قلوبهم، وحبًّا في إخلاص أعمالهم لسيدهم، حتى إذا تمكن اليقين، وأُيِّدوا بالرسوخ، والتمكين وتحققوا بحقيقة الفنا، ورُدُّوا إلى وجود البقا؛ فهنالك إن شاء الحق أظهرهم، وإن شاء سترهم، وإن شاء أظهرهم هادين لعباده إليه، وإن شاء سترهم فاقتطعهم عن كل شيء إليه.
وظهور الولي ليس بإرادته لنفسه، لكن بإرادة الله له، بل مطلبه -إن كان له مطلب- الخفاء لا الجلاء، كما قدمناه، فلما لم يكن الظهور مطلبهم، وأراد سبحانه إظهارهم، فأظهرهم تولاهم في ذلك بتأييده وإرادة مزيده لقوله >: «يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أُعِنْتَ عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها»([77])، ومن تحقق منها بالعبودية لله لم يطلب ظهورًا ولا خفاء، بل إرادتُه وقف على اختيار سيده له.
وقال الشيخ أبو العباس: من أحب الظهور فهو عبد الظهور، ومن أحب الخفا فهو عبد الخفا.
ومن كان عبدَ الله فسواء عليه أظهره أو أخفاه، ولتحتم هذه المقدمة بذكر كرامات أولياء الله جوازًا ووقوعًا، وأقسام ذلك على سبيل الاختصار، وكون هذا قد سبق إلى كلام عليه بالإيعاب، غيرنا قد أقام لنا الاعتذار، لكنا ننبه على نكت مفيدة لأولي الألباب، ونكشف عن وجه حسنها ما أسدل عليه من نقاب؛ ليكون ذلك مهيأ لك لقبول ما نورده عن هذه الطائفة من الكرامات، وما نسنده إليهم من بواهر الآيات إن شاء الله تعالى.
([3]) رواه السيوطي في («الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة»، 126)، وابن عراق في («نزيه الشريعة»، 2/341)، وأيضًا ابن تيمية في («أحاديث القصاص»، 29)، الفتني في («تذكرة الموضوعات»، 86). ورواه العَجْلُونِي في («كشف الخفاء»، 2/191). أيضًا علي القاري في («الأسرار المرفوعة» 271، 272).
([6]) متفق على صحته؛ رواه البخاري (9/179)، ومسلم في «صحيحه»، وابن أبي شيبة في «الإيمان»، وانظر حديث الشفاعة عند الإمام أحمد في («المسند»، 3/2)، والترمذي (3618)، وقال الترمذي: حديث حسن عن أبي سعيد الخدري.
([9]) رواه الهيثمي في («مجمع الزوائد»، 3/126، 10/241)، والسيوطي في («جمع الجوامع»، 4584)، والطبراني في («المعجم الكبير»، 10/192)، وابن كثير في («التفسير»، 7/439)، والزَبيدي في («إتحاف السادة المتقين»، 7/140، 9/502)، ورواه أبو نعيم في («حلية الأولياء»، 2/280، 6/274)، والسيوطي في («الدرر المنتثرهْ في الأحاديث المشتهرهْ»، 521)، والعجلوني في («كشف الخفاء»، 1/243).
([11]) أخرجه («صحيح البخاري»، 8/35)، رواه الترمذي (2020)، ورواه أحمد بن حنبل في («المسند»، 2/175، 362، 466، 3/484، 5/34، 370، 372، 373)، والبيهقي (10/105)، والحاكم في («المستدرك»، 3/615)، وابن أبي شيبة في («مصنفه»، 8/345)، والهيثمي في («موارد الضمان»، 1971، 1972)، وابن عبد البر في («تجريد التمهيد»، 403)، والهيثمي في («مجمع الزوائد»، 8/69، 70 - 10/209)، ورواه ابن حجر في («المطالب العالية»، 2585، 2586)، ورواه ابن عبد البر في («التمهيد»، 7/245، 246، 248، 249، 251)، ورواه الألباني في («السلسلة الصحيحة»، 1327.
([12]) رواه ابن ماجه في كتاب («السنن»، 223)، وابن حجر في («تلخيص الحبير»، 3/164)، والزبيدي في («إتحاف السادة المتقين»، 1/71، 338، 450)، والهندي في («كنز العمال» 28679)، وروي أيضًا في («تفسير القرطبي»، 4/41 - 13/164)، ورواه العراقي في («حمل الأسفار»، 1/9) ورواه البخاري في («التاريخ الكبير»، 8/337).
([13]) رواه الألباني في («السلسلة الضعيفة»، 666)، ورواه الفتني في («تذكرة الموضوعات»، 20) ورواه علي القاري في («الأسرار المرفوعة»، 247)، ورواه العجلوني في («كشف الخفاء»، 2/83)، ورواه الشوكاني في («الفوائد المجموعة»، 886)، ورواه السيوطي في («الدرر المنتثرهْ في الأحاديث المشتهرهْ»، 113).
([15]) حديث صحيح: رواه البخاري (5/69)، ورواه البيهقي في («السنن الكبرى»، 8/197)، ورواه العجلوني في («كشف الخفاء»، 2/65)، والشوكاني («الفوائد المجموعة»، 212).
([17]) ثبت في الصحيحين من غير وجه: أنَّ النبي > قال: «خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»، وروى أحمد والترمذي عن رسول الله >: أنه قال: «أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يُسْتَحْلَفُ، ويشهد الشاهدُ ولا يستشهد».
([18]) رواه الهيثمي في («المجمع»، 1/117)، والزبيدي في («إتحاف السادة»، 6/300)، والبخاري في («التاريخ الكبير»، 8/335).
([20]) رواه الطبراني في («المعجم الكبير»، 6/248)، السيوطي في («الدر المنثور»، 6/215)، والمتقى الهندي في («كنز العمال»، 34572)، وابن أبي عاصم («السنة»، 1/134).
([34]) رواه الترمذي في («السنن»، 2260)، رواه المنذري في («الترغيب والترهيب»، 4/250)، رواه المتقي الهندي في («كنز العمال» 43564)، أيضًا رواه السيوطي في («الدر المنثور»، 6/137)، أيضًا رواه ابن عدي في («الكامل في الضعفاء»، 6/2434).
([36]) رواه البخاري في («صحيحه»، 8/122)، وأحمد بن حنبل في («مسنده»، 2/514)، ورواه البيهقي في («السنن الكبرى»، 3/18، 19).
([37]) رواه البيهقي في («السنن الكبرى»، 3/18، 19)، وابن المبارك في («الزهد»، 415)، والهندي في («كنز العمال»، 5377، 5378، 5379)، ورواه ابن عبد البر في («التمهيد»، 1/195)، ورواه العراقي في («المغني عن حمل الأسفار»، 4/77)، («المتقين»، 4/264 - 6/368).
([65]) ذكره ابن الأثير في («أسد الغابهْ في معرفة الصحابهْ»، 1/ 425- 426)، وقال الرسول > يوم استشهاده: «يا أم حارثة، إنها ليست بجنةٍ واحدة، ولكنها جنان، وحارثة في الفردوس الأعلى»، وابن أبي شيبة في («الإيمان»، 115)، والعَجْلُونِيُّ في («كشف الخفاء»، 2/208).
([70]) ترى رابعة أنَّ المحبة أعلى مقامًا ولما وهي والمحبة مقامها الأصيل، وسراجها المنير، وتاج نهجها الروحي الجميل، قيل لها: ما تقولين في الجنة؟ قالت: الجار ثم الدار.
وقالت رابعة أيضًا: المحب لله لا يسكن أنينُه وحنينه، حتى يسكن مع محبوبه.
وقال أبو الحسن الوراق: السرور بالله مني شدة المحبة له، والمحبة في القلب نار تحرق كل دنس.
وقال بعضهم: من ادَّعى محبة الله من غير تَورع عن محارمه فهو كذاب.
وسئل الجنيد عن المحبة، فقال: دخول صفات المحبوب على البدل.
وقيل هذا على معنى قوله تعالى في الحديث القدسي: «فإذا أحببته كنت له سمعًا وبصرًا»؛ وذلك لأنَّ المحبة إذا صفت وكملت، لا تزال تجذب بوصفها إلى محبوبها، فإذا انتهت إلى غاية جهدها؛ وقفت الرابطة متأصلة متأكدة.