أولاً: سيدي إبراهيم الدسوقي - نسبه، وحياته:
الدسوقي([1]) هو الإمام برهان الدين إبراهيم بن عبد العزيز أبو المجد بن علي قريش بن محمد أبو الرضا بن قمر أبو النجا بن علي زين العابدين بن عبد الخالق بن محمد الطيب بن عبد اللَّه الكاتم بن عبد الخالق بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الإمام الحسين بن علي رضي اللَّه عنهم أجمعين، وأمه السيدة فاطمة بنت أبي الفتح الواسطي خليفة السيد أحمد الرفاعي بمصر، والواسطي هو الرجل الذي لعب دورًا كبيرًا في تأسيس وتشييد بنيان الطرق الصوفية بمصر.
وقد ولد سيدي إبراهيم الدسوقي في الليلة التالية للتاسع والعشرين من شهر شعبان عام 653هـ، وتوفي عام 696هـ([2]).
ويقال إنَّه لمَّا وضعته أمه في الليلة التالية للتاسع والعشرين من شهر شعبان سنة ثلاث وخمسين وستمائة (اتفق وقوع الشك في هلال رمضان، فقال ابن هارون([3]): انظروا هذا الصغير هل رضع في هذا اليوم؟ فأخبرت والدته أنَّه من الآذان فارق ثديه ولم يرضع، فأرسل ابن هارون يقول لها: لا تحزني فإنَّه إذا غربت الشمس شرب) ([4]).
ويحيك البرهاميون الأسطورة حول الشيخ؛ ظانِّين أنَّهم بذكرهم مثل هذه الدعاوى يعلون قدر شيخهم، والحق أنَّ شيوخ الطريق براء ممَّا نسبه مثل هؤلاء الأتباع.
فها هو أحد البرهاميين([5])، يقول: (إنَّه لما بلغ من العمر سنة أمسك من يحملهم الريح من أولياء اللَّه وأقعدهم في الأرض، ولمَّا بلغ سنتين أقرأ مؤمني الجن القرآن، ولمَّا بلغ التاسعة فط طلسم السماء، ولمَّا بلغ اثنتي عشر نقل مريديه من النار إلى الجنة بإذن اللَّه، ولمَّا بلغ ثلاثة عشر سنة جعلت الدنيا في يده كماكرة الخاتم يقلبها كيف شاء، ولمَّا بلغ خمس عشرة سنة خاطب جبريل وعرف الإجمال والتفصيل، ولمَّا بلغ سنة عشر جاوز سدرة المنتهى وحصل إليه المراد وانتهى.
ولمَّا بلغ سبع عشرة سنة رأى ما يخطه القلم وما خطَّه ممَّا كان ويكون كرؤية أحدنا الإناء في يده).
وهكذا نجد أنفسنا أمام جنس آخر أرقى من الأنبياء والملائكة، أمام من جاوز سدرة المنتهى ورأى القلم وما يخطه وما خطَّه، أمام عبد من عباد اللَّه ينقل مريديه من الشقوة إلى السعادة، ومن الجنة إلى النار.
وليس غريبًا بعد ذلك أن يتهم الدسوقي بالقول بأنَّه عين اللَّه.
يقول مارجوليوث DS MA Rgoliouth: (ويذهب الدسوقي إلى أكثر ممَّا ذهب إليه الحلاج، فهو يقول إنَّه عين اللَّه في حين أنَّ الحلاج قد سمَّى نفسه الحق) ([6]).
ومعنى ذلك أنَّنا نجد أنفسنا أمام من يقول عن نفسه أكثر ممَّا قال الحلاج، يقول الدسوقي: (أنا موسى في مناجاته، أنا علي في حملاته، أنا كل ولي في الأراضي، جميعهم بيدي، خلع الفقراء ألبسهم اللَّه ربي وربهم ورب كل شيء، أنا في السماء شاهدته وعلى الكرسي خاطبته، أنا بيدي أبواب النار غلقتها أنا بيدي، جنة الفردوس فتحتها، من زارني أو زاره -يعني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم- بيدي جنَّة الفردوس أسكنته) ([7]).
الحق أنَّ هذا الكتاب (الجوهرة: أو كتاب منير من كلام القطب إبراهيم الدسوقي)، والذي ينسب إلى سيدي إبراهيم الدسوقي معظم مادته، ليست من فكر الإمام الربهامي الكبير؛ لأنَّها تتعارض مع الخط العام لفكره وتصوفه، فإنَّنا سنلمس في حينه تيار التصوف الإسلامي السني في طريقة الدسوقس العملية، ولهذا ينبغي أن نأخذ من هذا الكتاب بحذر، وأن نقف عندما نجد الأسطورة تستشري خلال
صفحاته، مع أنَّ هذا الكتاب يعد مرجعًا أساسيًّا لكل الباحثين حول الدسوقي وطريقته.
إنَّ الدسوقي ببساطة يمكننا أن نتصوره مسلمًا طيبًا مباركًا، علمه والده وعني بتربيته منذ كان صغيرًا (وكان نبوغه واضحًا ظاهرًا ملفتًا، وبعد أن حفظ القرآن الكريم وتفقه على المذهب الشافعي بنيت له خلوة بدسوق) ([8]).
ويبدو أنَّه مضى سنوات طويلة بخلوته هذه متعبدًا متهجِّدًا أناء الليل وأطراف النهار، ولمَّا توفي والده (خرج من الخلوة وصلَّى عليه، ثمَّ أراد أن يدخلها فحلف عليه بعض الفقراء ألا يدخلها، فجلس تجاهها، فقطع الناس أسباب معايشهم واشتغلوا بالنظر إليه، وكيف لا وهو مفلح، ومن لا يقع عليه نظر مفلح لا يفلح، فأرخى له برقعًا على وجهه) ([9]).
وإذا كان الدسوقي حفظ القرآن صغيرًا، وتفقه يفقه الإمام الشافعي صغيرًا، وأظهر هذا النبوغ في بواكير سنه، فالظاهر أنَّ الذي وجهه إلى ذلك والده، ولم يذكر ذلك أحد من قبل، فممَّا عرف عن الإمام الدسوقي أن فتحه كان وهبيًّا وانَّه هو نفسه قال: (واعلموا وفقكم اللَّه، أنَّ الفقير كان بقرية لا بها فقيه ولا معلم، ولكن ذلك بما فتح اللَّه به من فتوح الغيب من بركة سيد الأنبياء والمرسلين خير الأنام ومصباح الظلام ورسول الملك العلام على قلب عبده إبراهيم الدسوقي الصوفي القرشي، الصوفي المقتدي بالقرآن) ([10]).
والدسوقي ليس وحده القائل بمقام الفتح، فهناك صوفية آخرون ذكروا أنَّ مقامهم مقام الفتح من الوهاب منهم سيدي أحمد البدوي، الذي قال:
ليس لي شيخ ولا قدوة |
* | غير خير الرسل طه الأول |
وجدير بالذكر، أنَّه (لا توجد رواية تدل على أنَّه سلك الطريق على يد شيخ للتربية لازمه حتَّى وصل على يديه وأذنه بتربية المريدين، ولو كان ذلك والده رضي اللَّه تعالى عنه؛ إذ لو حدث ذلك لاشتهر واستفاض عن المعاصرين نسبة القطب الدسوقي إلى أستاذ معين، بل لأعلن القطب الدسوقي ذلك في مجالسه العلمية وما أكثرها، كما هو شان العارفين مع أساتذتهم، والروايات التي صرحت بذكر شيوخه في الطريق، إنَّما هي روايات تبرك لا تربية([11])، ويقول الدسوقي: (إذا كمل العارف في مقام العرفان أورثه اللَّه علمًا بلا واسطة) ([12]).
ثانيًا: الدسوقي، والتصوف:
نطالع في بعض المصادر رأي الدسوقي في التصوف؛ إذ يقول: (ليس التصوف لبس الصوف، ورقيق ضفاته ورونق بهجته ترقية لا تحصل إلا بالتدرج، فإذا وصل الصوفي إلى حقيقة التصوف المعنوي لا يرضى بلبس ما خشن؛ لأنَّه وصل إلى مقامات اللطافة، وخرج من مقامات الرعونة وعاد ظاهره الحسي في باطنه الإلهي، واجتمع بعد فرقة، وقذف فيه جذوة نار الاحتراق، فعاد الماء يحرقه والثلج والبرد يقوي حزامه([13]).
والطريق عند الدسوقي كله ذوق (ومقصودي لجميع أولادي أن يكونوا ذائقين لا واصفين، وأن يأخذوا العلوم من معادنها الربانية، لا من الصدور والطروس، وما تكلم القوم إلا شيء ذاقوه، وقلوبهم كانت ملآنة بعطاء اللَّه تعالى ومواهبه، ففاضت منها قطرات من الحياة التي فيها، فانفجرت علومهم عن عين عين عين حاصل ماء الحياة، وأمَّا الوصاف فإنَّما هو حاك عن حاكٍ غيره، وعند التخلق والفائدة لا يجد نقطة ولا ذرة من ذوق القوم([14]).
وكان ينصح مريديه دائمًا بضرورة صفاء نفوسهم وتجردها من كل الأوصاف والأعلاق الدنيئة حتَّى يرقوا إلى أعلى المقامات ويشاهدوا، فيقول: (السماع والمخاطبة والمشاهدة من المقامات التي لا يصل إليها إلا من صفت نفسه، وخلا قلبه من ظلمة الخواطر، وتجرَّد من كل وصف دني، وتخلق بكل خُلُقٍ سني، ولم يطلب في الوجود سوى رضا مولاه، فكان في كل حركاته وسكناته مجموعًا على اللَّه ﻷ، لا يبغي سواه، فاعمل لعلك تكون من الذين عادت أرواحهم روحانية لطيفة نورانية، جوالة تجول في الملكوت، وتشاهد الحي الذي لا يموت، وهي تنظر عجائب غرائب يكون من الأمر المكنون) ([15]).
ويبدو لنا أنَّ سكر الدسوقي كان اكثر من صحوه، يظهر لنا ذلك بوضوح في شعره.
والمتأمل في أشعاره يجد أنَّ الدسوقي أحد الصوفية القائلين بالحقيقة المحمدية، ونلمس ذلك في هذه التائية الطويلة التي يتضح من خلالها نظرية الحقيقة المحمدية بكل أبعادها عند الدسوقي([16])، وأكثر من ذلك يتضح لنا كيف وصل في شطحه إلى أن يقول:
أتدري من أنا قلت أنت يا |
* | مناي، أنا إذ كنت أنت حقيقتي |
فقال كذلك الأمر لكنَّما إذا |
* | تغيبت الأشياء كنت تنسختي |
ونلمس وحدة الشهود حين يقول:
وما شاهدت عيني سوى عين ذاتها |
* | لأنَّ سواها لا يلم بفكرتي |
بذاتي تقوم الذات في كل ذروة |
* | أجدد فيها حلة بعد حلة |
أنا موجد الأشياء من غير حاجة |
* | بكره كون الكون من غير آلتي |
يقول:
أنا الواحد الفرد الكبير بذاته |
* | أنا الواصف الموصوف بذاته |
ولعلي كنت على حق حين اتفقت مع رأي مارجليوث في قوله: إنَّ الدسوقي ذهب إلى أبعد ما ذهب إليه الحلاج في شطحه.
وعلى الرغم من وجود شبهة القول بالحلول في قصيدة الدسوقي، إلَّا أنَّه نفى الحلول بعد ذلك حين قال:
فأوصلت ذاتي باتحادي بذاته |
* | بغير حلول بل بتحقيق نسبتي |
ولعل تائية الدسوقي التي ألحقناها بملحق النصوص تصور لنا بوضوح الجانب النظري من تصوف الدسوقي، وهو يقوم أساسًا على نظرية تنقل النور المحمدي أو (الحقيقة المحمدية)، فالنبي محمد، هو في رأي الدسوقي قبضة من نور اللَّه قال لها: كزني محمَّدًا فصارت محمَّدًا، ومعنى هذا أنَّ محمَّدًا ليس بشرًا ولكنه جزء من ذات ذات الجزء، أو قل من ذات اللَّه تعالى، كان قبل خلق آدم يحيا كملك في عالم الملكوت فلمَّا خلق اللَّه آدم من تراب حلَّت فيه تلك الحقيقة المحمدية، ثمَّ انتقلت إلى ابنه شيث، ثمَّ إلى إدريس، وهكذا ظلت تلك الحقيقة المحمدية تنتقل من نبي إلى نبي حتَّى ظهرت في خاتم النبيين محمَّد العربين فلمَّا مات ؛ انتقلت تلك الحقيقة أو ذلك النور المحمدي إلى علي ثم إلى ابنه الحسن، وهكذا ظلت تنتقل من قطب إلى قطب حتَّى ظهر إبراهيم الدسوقي فحلَّ فيه ذلك النور أو تلك الحقيقة المحمدية، كما حلَّت في النبيين من قبل، ولكنها قد أخذت اسمًا جديدًا في الذين حلَّت وتحل فيهم بعد النبي محمَّد، يسمى الذي تحل فيه قطبًا، ومن قبل كان يسمى نبيًّا ورسولًا) ([17]).
ومن هنا نلاحظ، أنَّ القطب عند الدسوقي (قديم أزلي، من حيث الحقيقة الروحية، وإن كان حادثًا من حيث التشخص الجسماني، وهذا هو عين ما ذهب إليه الفاطميون من القول بالمثل والممثول، فالمثل هو الدسوقي وأحزابه من الأقطاب، والممثول هو الحقيقة المحمدية الأولية الأبدية القائمة في عالم الملكوت، ثمَّ إنَّ هذه النظرية القطبانية لا تختلف في شيء عمَّا قررته الفلسفة الأفلاطونية من أنَّ لكل موجود في هذا العالم مثال يطابقه في عالم المثل أو قل في عالم الملكوت، فالدسوقي إذن لم يك أحد أولئك المتصوفين الذين هم بنوا تعاليمهم على الإلهام وحده، وإنَّما أفاد في تصوفه إلى حد كبير والنظريات الفلسفية التي مصدرها العقل والتفكير([18]).
أمَّا الجانب العملي من تصوف سيدي إبراهيم الدسوقي، فتظهر فيه بوضوح التصوف السني كما ترى.
فقد كان الدسوقي يقول لمن يطلب منه سلوك الطريق: (يا فلان، اسلك طريق النسك على كتاب اللَّه تعالى وسنة نبيه محمد ×، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا، وعلى أن تتبع جميع الأوامر المشروعة والأخبار المرضية، والامتثال بطاعة اللَّه ﻷ قولًا وفعلًا واعتقادًا، وألا تنظر يا ولدي إلى زخارف الدنيا ومطاياها، وقماشها ورياشها وحظوظها، واتبع نبيك في أخلاقه فإن لم تستطع فإن نزلت عن ذلك هلكت، واعلم يا ولدي، أنَّ طريقتنا هذه طريقة تحقيق وتصديق وجهد وعمل وتنزه وغض بصر وطهارة يد وفرج ولسان، فمن خالف شيئًا من أمثالها رفضه الطريق طوعًا أو كرهًا) ([19]).
وكثيرًا ما كان ينصح أتباعه باتباع الشريعة الغراء، فيقول: (اسلك المناهج السديدة، والشريعة القويمة السديدة البهية الساطعة اللامعة، التي من عمل بها كان عمله نضمونًا، فإنَّ من سلكها واتبع امرها نجا، فإنَّ اللَّه أمركم أن تطيعوا ولا تعصوا، وأن تستقيموا ولا تلهوا، قال اللَّه تعالى: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ﴾([20]) {الحشر:7}، ويقول في قوة لأتباعه ناصحًا لهم بالتمسك بأهداب الشريعة (من أحب أن يكون من ولدي فليحبس نفسه في قمقم الشريعة، وليختم عليها بختم الحقيقة؛ ليقتلها بسيف المجاهدة وتجرع المرارات، الشريعة أصل والحقيقة فرع، فالشريعة جامعة لكل علم مشروع، والحقيقة جامعة لكل علم خفي، وجميع المقامات متدرجة فيها)([21]).
الحق أنَّ الجاني العلمي من تصوف الدسوقي يقوم على العمل بكتاب اللَّه تعالى وسنة رسوله، كما يقوم على (اصطناع المكابدة والمجاهدة، وذلك بالاكثار من الصيام والقيام والذكر وقراءة القرآن، وبالتسبيح والتقديس والدعاء والابتهال من جهة، وعلى الزهد في الدنيا والترفع عن اللذائذ والشهوات والابتعاد عن ضروب اللهو، وأن يرضى المريد بما قد يصيبه في حياته من متاعب ومضايقات من جهة أخرى) ([22])، وفي ذلك يقول الدسوقي: من أحب أن يكشف له عن الأنوار ويسقي من دون الدنو وخمر الخمار، وتطلع في قلبه شموس المعاني والأقمار، فليلزم عبادة ربه في الأسحار ويداوم الاستغفار) ([23]).
وإذا كان أبناء الطريقة البرهانية في عصرنا هذا قد خالفوا طريق شيخهم البرهاني الكبير، وبعدوا عن تصوفه العملي السني الداعي إلى العمل بكتاب اللَّه تعالى وسنة نبيه الكريم، فإنَّ شيخهم في القرن السابع الهجري كان يخشى هذا اليوم ويدعو أتباعه ألا يسيئوا إلى طريقته أو يدنسوها أو يبتدعوا البدع والخزعبلات يقول الإمام الدسوقي لمثل هؤلاء الأتباع: (يا أولادي، ناشدتكم باللَّه، لا تسيئوا إلى طريقي ولا تلبسوا في تحقيق، ولا تدلسوا ولا تدنسوا، وإن كنتم صحبتمونا لتأخذوا منَّا أوراقًا من غير عمل فلا حاجة لنا بكم) ([24]).
ولطالما حذر أتباعه من مخالفة طريقه (...، وإنِّي أبرأ إلى اللَّه ممَّن يأخذ على الطريق عوضًا من الدنيا، ويتلف طريقي من بعدي، ويخالف ما كنت عليه أنا وأصحابي، اللَّهم إن كان أحد من أصحابي يفعل خلاف طريقي فلا تهلكني بذنوبهم، فإنَّ اللَّه يبغض الفقير الذي يبيع أخلاق أهل الطريق بلقمة، وطريقي إنَّما هي طريق تحقيق وتدقيق، فيا أولادي، إن كنتم أولادي وخالفتموني فأنتم كاذبون) ([25]).
الدسوقي والكرامات:
مع انَّ شيخ الطريقة البرهانية سيدي إبراهيم الدسوقي كان يخشى على طريقته من الأتباع الكاذبين، ومروجي الأساطير، ومنتفعي الطريق، إلَّا أنَّ بعض هؤلاء الأتباع ملأ الدنيا بكرامات أسطورية حول شيخهم الكبير، رغم أنَّ الدسوقي كان يرى؛ بل يقول إنَّ (خواص الخواص جعلوا زواياهم قلوبهم، ولبسوا تقواهم وخوفهم من ربهم ومولاهم، قد رفضوا الكرامات ولم يرضوا بها، وخرجوا عنها لعلمهم أنَّها من ثمرة أعمالهم، فلم يطيروا في الهواء، ولم يمشوا على ماء، ولم يسخَّر لهم الهواء، ولم تبصبص لهم الأسود، ولم يضربوا أرجلهم بالأرض فيتفجر الماء، ولا لامسوا أجزم ولا أبرص فبرئ، ولا غير ذلك، فخرجوا من الدنيا وأجورهم موفورة كاملة رضي اللَّه عنهم أجمعين([26]).
ولقد وجدنا من قبل مثل هذه الأوهام والأساطير تدور حول شيوخ الطرق الصوفية، وشيوخ الطرق منها براء.
وأشد غرابة من ذلك ما ذكره المناوي في (الكواكب الدرية)، ونقله عنه النبهاني في (كرامات الأولياء)، حيث قال: إنَّ من كراماته (أنَّه: خطف التمساح صبيًّا،
فأتته أمه مذعورة فأرسل نقيبه فنادى بشاطئ البحر: معشر التماسيح، من ابتلع صبيًّا فليطلع به، فطلع ومشي معه إلى الشيخ فأمره أن يلفظه فلفظه حيًّا، وقال للتمساح: مت بإذن اللَّه، فمات) ([27]).
ويزداد الأمر شناعة وضلالة حين نعلم أنَّ هؤلاء المرتزقة قد صوروا شيخهم في صورة الإله ويقولون بهتانًا وزورًا إنَّه قال: أذن لي ربي أن أتكلم وأقول: أنا اللَّه. فقال لي : قل أنا اللَّه ولا تبال. وذكروا عنه أقوالًا تصل بالدسوقي إلى درجة الكفر، والرجل برئ ممَّا نسبوا إليه، فها هو أحدهم الشرنوبي البرهاني في (طبقاته) يذكر نصًّا طويلًا وينسبه إلى الدسوقي، فيقول: (قال الدسوقي، من كراماتنا؛ قال لي ربي أنت من نور نبي يا غبراهيم ولك البشرى، ومن كراماتنا: أنِّي أعطيت الحكم على الحور العين، ومن كراماتنا: أنِّي لما وردت على النيران هربت خوفًا منِّي فرفستها برجلي فصارت رمادًا، وصرخت عليها فغلقت أبوابها السبعة ومنها قال لي ربي: لك البشرى أنت وأتباعك ، ومنها تكرم ربي علي أنا وأتباعي بدخولهم الجنَّة كرامة لأجلي، ومنها فتح أبواب الخير لأهل الطرق الأربع، ومنها أنِّي أعطيت سجادة من نور ليست تعطى لأحد غيري إلى يوم القيامة، ومنها أنِّي سددت أبواب جهنم بفوطتي، وفتحتها لأعدائي وأدخلتهم فيها، ومنها أنِّي فتحت أبواب الجنَّة الثمانية بيدي، وأدخلت أمة محمد × فيها، ومنها أنَّ صنج الميزان بيدي أصير حسنات مريدي أثقل من سيئاته، ومسيت عليها بيدي فصارت سيئات المنكرين على أثقل من حسناتهم ولو كانوا مطيعين، ومنها أنَّه إذا دعاني مريدي أجبته ولو كان خلف جبل قاف، ومنها أنِّي أدخل أتباعي يوم الحشر أعلى مرتبة من أتباع غيري، ومنها أنَّ أول من نطق بكلمة التوحيد رسول اللَّه × والصحابة ثمَّ أنا، ومنها أنَّ اللَّه تعالى سكن في قلبي التوحيد قبل آدم وحواء وقبل العرش والكرسي واللوح والقلم والسموات والأرض، وقبل الماء والطين، ومنها أنَّ ربي جعلني قبل بناء البيت الحرام وأعطاني علومًا ليس يحصيها إلا هو، ومنها أنَّ اللَّه تعالى أجرى لساني على طلاسم القرآن العظيم، ومنها أنَّه
أذن لي ربي أن أتكلم وأقول: أنا اللَّه. فقال لي: قل أنا اللَّه ولا تبال، ومنها أنَّه إذا وافت الدنيا ميعادها ثمَّ نفخ إسرافيل في الصور فلا ينفخ إلا بإذني).
ولا أجد في النهاية تعليقًا على هذه الخرافات والأوهام التي افتراها أتباع الدسوقي على شيخهم الجليل أجمل من قول الدسوقي نفسه: (اللَّهم إن كان أحد من أصحابي يفعل خلاف طريقي فلا تهلكني بذنوبهم، فيا أولادي، إن كنتم أولادي وخالفتموني فأنتم كاذبون).
ولقد رأينا من قبل كيف كان منهج طريقته العلمية يدعو إلى اتباع كتاب اللَّه تعالى وسنة رسوله الكريم، وما هذا الهراء وتلك الخرافات التي امتلأت بها صفحات كتب المناقب والطبقات من مريدي الطريقة، فشيوخهم لم ينطقوا بها بل تقولوها وافتروها على هؤلاء الشيوخ الأتقياء، فما كانت دعوة أصحاب الطرق الصوفية إلا دعوة المسلمين إلى التوبة والاستغفار والهداية والعمل بكتاب اللَّه وسنة رسوله الكريم، يقول الدسوقي لأتباعه: (...، وإنَّما آمركم بما آمركم به ربكم، وإن نقضتم العهد فإنَّما هو عهد اللَّه لا عهدي)([28]).
الدسوقي
والطريقة الدسوقية (البرهانية)
مبني الطريقة البرهانية:
يقول الإمام محمد بن علي السنوسي الإدريسي([29]): (وأمَّا طريق السادة لابرهانية فهو المنسوب إلى الشيخ برهان الدين إبراهيم الدسوقي، وهو مبني على الذكر الجهري، ولزوم الجد في الطاعات، وارتكاب خطر أهوال المجاهدات، وذبح النفس بسكين المخالفات، وحبسها في سجن الرياضة حتَّى يفتح اللَّه عليها بالسراج في رياض المعرفة، ومن شأن أهل هذه الطريقة السنية الاستكثار بذكر «دايم» بياء النداء (سيما في ضم مجالس التلاوة والذكر الجهري بالجلالة مع الهوية، ومن شأنهم لبس الزي وهو الأخضر)([30]).
ويصف الإمام الدسوقي نفسه طريقته، فيقول: (آه، آه. ما أحلى هذه الطريقة ما أسناها وما أمرها، ما أصعب مواردها، ما أعجب واردها، ما أعمق بحرها، ما أكثر أسدها، ما اكثر حيَّاتها وعقاربها، فيا للَّه يا أولادي لا تتفرقوا، واجتمعوا يحميكم اللَّه من الآفات ببركة أستاذكم) ([31]).
وحقيقة الطريق لا يقدر عليها إلَّا كل مجاهد للنفس، مجالد لهواه.
يقول الإمام الدسوقي: (واعلم، أنَّ الطريق إلى اللَّه تفني الجلاد، وتفتت الأكباد، وتضني الأجساد، وتدفع الشهاد، وتسقم البدن، وتذيب الفؤاد، فهيمان القلب في باطن
الأمر، وجولان الفكر في حصول السر، ونشآن السكر في مداومة الذكر، ومجاهدة النفس والحواس، والحس في حصول الأنس هو الهيمان الحقيقي المشكور الذي هو أفضل من هيمان كل واد ودأب مبرور، والمحافظة على السنن والفرض والتأهب يوم العرض)([32]).
والطريقة كلها عند الدسوقي (ترجع إلى كلمتين: تعرف ربك وتعبده، فمن قبل ذلك عنده فقد أدرك الحقيقة والشريعة)([33]).
ونلاحظ أنَّ الدسوقي يجعل (الطريقة كالخلافة أو الإمامة، تأخذ العهد والتربية من شيخ عن شيخ)([34]).
ولعلنا نتلمس في ذلك وجود أثر شيعي في فكر شيخ الطريقة البرهانية.
ونحن لا نتصيد أي فكرة شيعية فنلصقها بأصحاب الطريق ونقول بوجود هذا الأثر في خطهم الفكرين ولكنَّا نرجح احتمال وجود صلات شيعية في فكر هؤلاء المتصوفة من أصحاب الطريق.
فمثلًا، هذه الفكرة وهي أنَّ الطريقة يجعلها الدسوقي كالإمامة وتربية المريد بواسطة شيخ يقول عن ذلك الدسوقي: (رأس مال المريد المحبة والتسليم، وإلقاء عصا المعاندة والمخالفة، والسكون تحت مراد شيخه وأمره)([35]).
وعند الدسوقي من أهم واجبات المريد (أن لا يتكلم إلا بدستور من شيخه إن كان جسمه حاضرًا، وإن كان غائبًا يستأذنه بالقلب، وذلك حتَّى يترقى إلى الوصول إلى هذا المقام في حق ربه ﻷ، فإنَّ الشيخ إذا رآه هكذا رقاه إلى الأدب مع اللَّه
وربَّاه بلطيف الشراب وسقاه من ماء التربية، ولاطفه بالسر المعنوي الإلهي، فيا سعادة من أحسن الأدب مع ربه، ويا شقاوة من أساء)([36]).
والحقيقة التي أكدناها كثيرًا هي أنَّ الجانب العملي من الطريقة البرهانية يتساوق تمامًا مع التصوف السني العملي (إذ أقام الدسوقي كل وزن للشريعة حتَّى إنَّه عد الطريقة أو الحقيقة شيئًا ثانويًّا بالنسبة للشريعة)([37])، ويستدرك الدكتور صافي بعد ذلك ويقول: (ولكنه مع ذلك قد اختلف مع الشريعة في الجانب الاعتقادي، حيث ذهب في الجانب النظري من تصوفه إلى اعتناق فكرة تنقل النور المحمدي)([38]).
وهذا ما وصلنا إليه أيضًا من تتبعنا لفكر الدسوقي من الناحية العلمية والنظرية.
إنَّ الذي يهمنا في المقام الأول هو الجانب العملي من فكر أصحاب الطرق الصوفية؛ ذلك أنَّ الطرق الصوفية تمثل حركة التصوف العملي في الفكر الصوفي الإسلامي، وقد رأينا من قبل أن حركة التصوف العملي دعوة عملية لتوبة المريد واستغفاره وهدايته للعمل بكتاب اللَّه وسنة رسوله، ولهذا وجدنا الدسوقي يقول: (إنِّي استخرت اللَّه تعالى في أنَّ الولد يلبس الخرقة النظيفة العفيفة على كتاب اللَّه تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم)([39]).
وإذا كان الطريق شيخ ومريد بينهما عهد، فقد اهتم إمام الطريقة الدسوقية بإرشاد هؤلاء الأشياخ والمريدين إلى الطريق الحق، فها هو يحذر الشيخ من الرشا، (إن أردت أن تكون ولدي حقًّا فأخلص العبودية للَّه ﻷ، واجعل واعظك من قلبك، وكن عمالا بجسدك وقلبك، ولا تأخذ لأحد من المريدين درهمًا،
فإنَّ هذه طريقي ومن أحبني سلك معي فيها، فإنَّ الفقير الصادق، هو الذي يطعم الناس ولا يطعمونه، ويعطيهم ولا يعطونه، فإنَّ الرشا في الطريق الحرام، وشيخكم قد بايع اللَّه تعالى ألا يأخذ فلسًا ولا درهمًا ولا يأكل له طعامًا إلا أن سلم من العلل([40]). (وعند الدسوقي أنَّ الذي يقدم في الطريق هو من فتح عليه اللَّه)، ليس لأحد أن يقدم في الطريق لكبر سنه وتقادم عهده، إنَّما يقدمه فتحه، ومع هذا فمن فتح عليه منكم فلا يرى نفسه على من لم يفتح عليه، وتأمل يا ولدي إبليس اللعين لمَّا رأى نفسه على آدم ؛ وقال: أنا أقدم منه وأكثر عبادة وقدرًا، كيف لعنه اللَّه تعالى وطرده([41]).
واجبات الشيخ كما يرى الدسوقي:
ومن أهم واجبات الشيخ كما يرى سيدي إبراهيم الدسوقي، حمل الناس على التوبة من المعاصي (تتوب الناس وتدعوهم إلى طاعة اللَّه وتأمرهم وتنهاهم وتحذرهم وتنذرهم وتخوفهم وتعظهم، وتكون مجتهدًا فيما يفلح مريدك، والمريد على قدر ما يربى ممن يتوبه، فكن آمرًا بالأعمال الصالحة، تعمل بنفسك، وتأمر بالعدل، فإذا رآك الذين تأمرهم بالعمل عاملًا عملوا أو سمعوا، وعملت فيهم الموعظة. وإن كنت يا بطال بطالًا وتأمرهم بالعمل قالوا: يعدل هذا نفسه ويقوم ويصوم فإنَّ كنت عمَّالًا ولم تعظهم وعظتهم أعمالك التي يرونها، فإنَّ الأعمال أعظم موعظة من الأقوال) ([42]).
وبالنسبة لواجبات المريد مع شيخه فقد رأينا من قبل أنَّ أهم هذه الواجبات كما يقول الدسوقي: (وللمريد مع شيخه الأدب وحسن الطلب والتسليم للشيخ، وأن لا يتكلم إلا بدستوره) ([43]).
وكم (نبَّه الدسوقي أتباعه إلى أنَّ الطريقة ليست ورقة أجازه من شيخ لمريده)
يا ولدي، عليك بالتخلق بأخلاق الأولياء لتنال السعادة. وأمَّا إذا أخذت ورقة أجازة وصار كل من نازعك تقول: هذه إجازتي بالمشيخة دون التخلق، فإنَّ ذلك لا شيء إنَّما هو حظ نفسي، لكن اقرأ الإجازة واعمل بما فيها من الوصايا، وهناك تحصل على الفائدة، ويحصل لك الاصطفاء، وهذه طريق مدارج الأولياء قرنًا بعد قرن، وجيلًا بعد جيل إلى آخر الدنيا([44]).
فروع الطريقة البرهانية:
تتفرع الطريقة البرهانية إلى: الطريقة الشهاوية، والطريقة الشرنوبية، والطريقة العاشورية، والطريقة التازية.
الدسوقي، والسماع:
مرَّ بنا كيف كان الإمام الشاذلي والإمام الرفاعي من المنكرين للسماع؛ لأنَّه يفسد الطريق، وها نحن نجد أيضًا الإمام الدسوقي من المنكرين له واعتباره من آفات الطريق، يقول شيخ الخرقة البرهانية وصاحبها (يا من قتل نفسه ولم يسمع، يا من اشتغل باللهو والزهو والسرور وللغناء يسمع، يا مفتون، إلى متى ترجع ما خلا للوعظ منك موضعًا) ([45]).
ومن العجيب أنَّ مريدي الطرق الصوفية بعد وفاة أصحاب الطريق، خالفوا أصول شيوخهم الذين أنكروا السماع، وهاموا في سماعهم؛ بل اعتبروه من مستلزمات حلقات الذكر، كما نراهم في أيامنا هذه.
صلة الدسوقي بأصحاب الطرق الصوفية الأخرى:
ذكرنا من قبل صلة الدسوقي بالرفاعي، وقلنا إنَّ أبا الفتح الواسطي، مبشر الطريقة الرفاعية بمصر، والد السيد فاطمة أم سيدي إبراهيم الدسوقي، وصلة
الدسوقي بالبدوي تظهر في اشتمال حزب الدسوقي الكبير على كلمات كثيرة من حزب سيدي أحمد البدوي (ولا يعقل اشتراك الحزبين في هذه العبارات بدون وجود رابطة روحية قوية بين هذين القطبين الجليلين) ([46]).
وقد نقل الإمام البقاعي في (طبقاته) نقلًا عن العارف أحمد الشناوي البدوي الطريقة أنَّ البدوي قال للقطب الدسوقي: (أما سمعت وعلمت أنَّنا أخذنا العهود والمواثيق على بعضنا؟ أما سمعت وعلمت أنَّ اللَّه حرم على من يفرق بيننا خيري الدنيا والآخرة؟ أما سمعت وعلمت أنَّ اللَّه لعن من يقول هذا على طريقة وهذا على طريقة؟ أما تعلم أنَّ اللَّه لعن من يقول هذا له مجلس ذكر وهذا ليس له مجلس ذكر؟ أما تعلم أنَّ اللَّه تعالى فتح على من لم يفرق بيننا؟)([47]).
وعن صلة الدسوقي الشاذلي يقول البعض: إنَّ هناك دليلًا واضحًا على وجود هذه الصلة وهي اشتمال الحزب الكبير للدسوقي على الحروف المركبة الدائرة في الشاذلية (ووجود هذه الحروف في الورد لا يأتي عن طريق المصادفة؛ بل لابد أنَّه تلقاها عن الشاذلية) ([48]).
تراث الدسوقي
ترك الدسوقي الكثير من التعاليم والمواعظ والحكم وله شعر صوفي قليل.
وبالنسبة لأسلوب أشعاره فهو (جار في جملته من حيث الأسلوب على نمط عموم المتصوفة في هذا العصر؛ إذ ساد شعره عبارات الحب الإلهي، وكثرت فيه
كلمات الساقي والشراب، وغير ذلك من نعوت الخمر، وأوصاف الحق، أو الذات القدس) ([49]).
وكنموذج لشعره أقدم له هذه التائية المختصرة([50]):
سقاني لمحبوبي بكأس المحبة |
* | فتهت على العشاق شكرًا بخلوتي |
ونادمني سرًّا بسرٍّ وحكمة |
* | فما كان أهنى جلوتي ثمَّ خلوتي |
ولاح لنا نور الجلالة لو أحنا |
* | لصم الجبال الراسيات لدكت |
وكنت أنا الساقي لمن كان حاضرًا |
* | أطوف عليهم كرة بعد كرة |
وكان دليلي يوم حضرة قدسية |
* | على المرتضى الكرار يوم الكريهة |
بإذن من المختار خير مهذب |
* |
وإن رسول اللَّه شيخي وقدوتي
|
وعاهدني عهدًا حفظت لعهده |
* | وعشت وثيقًا صادقًا بمحبتي |
وحكمني في سائر الأرض كلها |
* | وفي الجن والأشباح والمردية |
وأوهبني منه عصاة لسجنهم |
* | فكنت عليهم دعوة ثم نقمة |
وفي أرض صين الصين والشرق كلها |
* | إلى أقصى بلاد اللَّه صحت ولايتي |
أنا الحرف لا أقرأ بكل مناظر |
* | وشاعت طريقي في الورى بعد غيبتي |
وكم عالم قد جاءني وهو منكر |
* | فردَّ بفضل اللَّه من أهل خرقتي |
مريدي محفوظ بعين عناية |
* | من اللَّه إذ لاحت عليه إشارتي |
وذكري ملأ الأقطار شرقًا ومغربًا |
* | وكل الورى من امر ربي رعيتي |
وما قلت هذا القول فخرًا وإنَّما |
* | أتى الإذن حتَّى يعرفون طريقتي |
أنا عن حقيق ابن أبي المجد من الورى |
* | وشيخي رسول اللَّه خير البرية |
والشطح واضح في هذه القصيدة، ومعظم قصائد الدسوقي على هذا المنوال، ومن شعره الذي يتضح فيه عبارات الحب الإلهي، وعبارات السكر والشراب هذه الأبيات([51]):
رح على الراح رغم الصحى |
* | فلحا اللَّه عليها من لحا |
خمرة الحب التي قد ذقتها |
* | كاسها بدل حزني فرحًا |
أنجم طاف بها بدر وحبي |
* | أخجلت بهجته شمس الضحى |
راحت الأرواح في راحته |
* | تثبت الفرح وتنفي الترحا |
أيها العاذل فيها خلني |
* | إنَّ عذري في هواها فضحا |
لا تلومن فقيرًا إن بكى |
* | أو تغنَّى أو شكا أو صرحا |
إنَّما العشق زناد قادح |
* | بحراق من فؤادي مدها |
فأرح نفسك من هذا العنا |
* | واطرح النفس إلى من طرها |
أحزاب الدسوقي:
ذكرنا من قبل أنَّ الحزب الصغير للدسوقي به بعض ألفاظ حزب سيدي أحمد البدوي (وقد ألحقنا نص هذا الحزب بملحق النصوص بالكتاب، ويقول شارح حزب الدسوقي عن الألفاظ المستعجمة بهذا الحزب (أحمى حميثًا أطمى طميثًا، هذه الأسماء سريانية، وفيها أسرار ربانية يعرفها ذوو المعارف اللدنية، فمعنى أحمى: يا مالك، وفي سره يا مالك الملك العظيم الأعظم، وأنت الحي القيوم وحميثًا: إشارة إلى مملكته التي يتصرف فيها بمشيئته ويظهر فيها مظاهر أسمائه بإرادته، فكأنَّه يقول: يا مالك الأسرار، يا مالك الأنوار، يا مالك الليل والنهار، يا مالك السحاب المدرار، يا مالك الشمس والأقمار، يا مالك الجنة والنار، يا مالك كل شيء، وأسرار هذا الاسم عجيبة لا تفي بها العبارة، وأما أطمى: فهو بمنزلة من يصفه تعالى بالصفات الجلالية والكمالية من العظمة والكبرياء والعهد والغلبة والعزة والانفراد في ذلك كله، فكأنَّه يقول يا قاهر كل شيء، يا قادرًا على كل شيء، يا عالمًا لكل شيء، يا مريدًا لكل شيء، يا مدبر كل شيء...
وطميثًا: إشارة إلى الأشياء التي يتصرف فيها بسائر مظاهر الأسماء في المملكة التي يفعل فيها ما يشاء، ففي هذه الأسماء سر كبير لا يحيط به إلا اللطيف الخبير، ومن أطلعه عليه من نبي وولي كبير).
وهذا التفسير الذي قاله البرهاني محمد البهي لا يقنعنا، فإنَّ مثل هذه الألفاظ التي وردت في أحزاب مشايخ الطرق الصوفية، يحتمل لها عندنا تفسيران؛ الأول: أن تكون هذه الألفاظ وضعت وأدخلت في أحزاب مشايخ الطريق من بعض المريدين المستأثرين أو الذين اشتغلوا بالكلام وعلم الحروف والأسماء والأوفاق([52])، أو أنَّ هذه الحروف المتقطعة يحتمل أن تكون إشارات صوتية لا يعرفها إلا من تذوقها
فعلًا، فلا تكون أحوال وأسرار لا يصل إلى معرفة حقيقتها، أو محاولة تأويلها أو تفسيرها إلا صاحب هذه الأحوال.
والتفسير الأول يؤكده حزب الدائرة الشاذلية المنسوب إلى الشاذلي، والذي أخذ منه الدسوقي هذه الألفاظ المستعجمة بحزبه الكبير وهي ظهور، بدعق، محببة، صورة محببة، سقفاطيس أحون).
والحق أنَّ نسبة هذا الحزب إلى الشاذلي غير صحيحة، وقد أخطأ اليافعي([53]) حين ذكر في كتابه (الدر النظيم) أنَّه رأى حزب الدائرة بخط شهاب الدين بن الشيخ تقي الدين بن الشيخ أبي الحسن الشاذلي (الذي يرويه عن والده ب، فيقول: (أملاني والدي أطال اللَّه بقاءه هذا الحزب، وقال: اعلم يا بني، أنَّه لا يحيط بعظم هذه الدائرة إلا من هداه اللَّه بعونه وهداه، وأبان له من نوره) ([54]).
ويفند عمار كلام اليافعي، فيقول: (ومن عجب، أن يرى اليافعي خط الشيخ أبي الحسن الشاذلي، ويروي عنه ما لم يروه ابن عطاء اللَّه ترجمان المدرسة الشاذلية، ولا ابن الصباغ مؤرخها، وما لم يقل به خلفاؤه من المناسبة أمثال: أبو العزائم ماضي، أو عبد اللَّه بن سلطان، أو الحبيبي، أو أبو الحسن بن مخلوف، أو غيرهم؛ بل إنَّه كان معاصرًا لابن باخلا، المتوفى سنة 723 هجرية، ولتقي الدين السبكي، المتوفى سنة 765هـ، تلميذ ابن باخلا، وكل منهما لم يرد عنه شيء من ذلك، بل لقد جاء بعده أبو المواهب الشاذلي، وإبراهيم المواهبي، والشيخ زروق، وأحمد بن عقبة الحضرمي، وشمس الدين الحنفي، ومحمد وفا، وعل وفا رضي اللَّه عنهم جميعًا، من أبناء القرن التاسع، ولم يروِ أحد منهم عن الشاذلي شيئًا من ذلك، وهؤلاء كبار زعماء المدرسة الشاذلية، ومن الطبقة الخامسة) ([55]).
ويتابع الأستاذ عمار تفنيده لليافعي الذي نسب حزب الدائرة للشاذلي، فيقول: (ولكنَّ العجب يزول إذا رجعنا إلى ما لفقه الملفقون من المحاولات لإيجاد الصلات بين الشيخ أبي العباس البوني أكبر الدعاة لعلوم الأسماء والحروف والأوفاق والطلاسم في القرن السابع الهجري، وبين زعماء المدرسة الشاذلية الأولى) ([56]).
وقد أثبت عمار بطلان هذه الدعاوى عن وجود مثل هذه الصلة بين البوني وبين مدرسة الشاذلي الأولى، فإذا كان البوني يقول في كتابيه: (نبع أصول الحكمة)، و(شمس المعارف الكبرى) ([57])، (أخذت علم الحروف والأسماء والأوفاق عن مساعد بن ساوي الحميري القرشي، عن شهاب الدين أحمد، عن تاج الدين بن عطاء اللَّه الكندري، عن أبي العباس المرسي([58]).
فإذا طبقنا هذا السند على الوقائع التاريخية حكمنا بأنَّ البوني لم يقل ذلك، وإنَّما أولئك الذين اتبعوا طريقته ليوقعوا النَّاس، فيما وقعوا فيه من مجانية التصوف الحق الذي التزمه أقطاب الطريقة الشاذلية المحققون، لقد ولد ابن عطاء اللَّه سنة 650هـ، بعد أن توفي البوني سنة 622هـ بثمانية وعشرين سنة، كما هو ثابت في تاريخه، ومؤلفاته العديدة وبينهما ثلاثة من رجال السند، ولابد لنا أن نعتقد أحد أمرين، وهما أن تتأخر وفاة البوني نصف قرن على الأقل، أو يتقدم ميلاد ابن عطاء اللَّه، مثل ذلك ليتحقق صحة السند.
ثانيًا: وصفهم تلفيق آخر، وهو قولهم على لسان البوني أيضًا: تلقيه قسمًا بأسماء البرهانية.
تلقيت عن أبي عبد اللَّه الفاسي، عن أبي العباس المرسي القسم الآتي:
بدأت ببسم اللَّه للروح هاديًا |
* |
إلى كشف أسرار علمت فيه خافيًا
|
فيا (برهتيه) يا (كرير) تمذني |
* | بأسرار (تتليه) وسر (براهيا) |
ولتطبيق هذا السند نجد أنَّ ميلاد المرسي كان سنة 116هـ، ووفاة البوني كانت سنة 622هـ، وبينهما أبو العباس الفاسي، ولا يعقل أن يكون المرسي وهو في السادسة من عمره وضع قسمًا شعريًّا بأسماء البرهنية، تلقاه عنه أبو عبد اللَّه الفاسي، ثمَّ لقنه للبوني على أنَّ هذا السند يهدم السند الأولالذي ورد على لسان البوني أيضًا.
وهناك سند ثالث يقلب السندين السابقين رأسًا على عقب، فبعد أن كان البوني تلميذًا لتلامذة المرسي أصبح أستاذًا للمرسي رأسًا، فقد ذكر الشيخ النبهاني في كتاب (جامع الكرامات) في تاريخ البوني ما نصه: (أخذ عنه أبو العباس المرسي).
وهذا السند وإن كان قريبًا إلى الوضع التاريخي، إلا أنَّنا لا نقر أنَّ أبا العباس الرسي، وهو في سن السادسة أخذ عن البوني طريقته في علم الحروف والأسماء والأوفاق.
ومن هذا كله يتضح لنا بطلان الدعوى، التي تؤكد وجود صلة بين البوني زعيم مدرسة الحروفيين في القرن السابع الهجري، وبين مدرسة الشاذلي؛ ولهذا فمن الخطأ نسبة حزب الدائرة إلى أبي الحسن الشاذلي.
وقد أردت من هذا العرض أن أبين خطأ تلك الفكرة التي تقول إنَّ الدسوقي قد أخذ هذه الحروف المتقطعة، التي احتواها حزبه الكبير عن حزب الدائرة للشاذلي، فقد تبين لنا أنَّ هذا الحزب موضوع.
ومن هذه الناحية فإنَّ افتراض الأول يصح على حزب الدائرة([59])، المنسوب
خطأ للشاذلي، وقد يكون صحيحًا أيضًا بالنسبة للدسوقي لوجود نفس الحروف في الحزب الكبير للدسوقي([60]).
والاحتمال الثاني: وهو احتمال أضعف أن تكون هذه الألفاظ المتقطعة التي تضمنها الحزب الكبير للدسوقي، والتي لا معنى لها هي أسماء أحوال لا يستطيع فهمها إلا صاحبها فقط؛ ولهذا فإنَّنا نرى في هذه الحالة عدم ترديد هذه الحروف بالنسبة للمريد، فطالما أنَّه لا يفهمها لن يتذوقها، فألفاظ مثل: (طهور، بدعق...) أو (كدكد، كردد، كردد كرده، كرده، ده ده اللَّه رب العزة)، التي احتواها حزب الدسوقي الكبير، أي محاولة لتفسيرها، إنَّما تكون من قبيل التخمين أو الاختلاق.
وقد عرضت نص الحزب الكبير للدسوقي بملحق النصوص بالكتاب، وسنلاحظ -كما قلنا- احتواءه على فقرات من حزب سيدي أحمد البدوي.
المرجع : الطرق الصوفية في مصر ، نشأتها ونظمها ، أ/د عامر النجار ، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب ، (ص 233 - 259) .
([1]) يقول عنه المناوي في مخطوطة (الكواكب الدرية)، وجه الورقة 228: (شيخ الخرقة البرهامية، صاحب المحاضرات لاقدسية، والعلوم والأسرار العرفانية، أحد الأئمة الذين أظهر اللَّه لهم المغيبات وخرق لهم العادات، ذو الباع الطويل والتصريف النافذ، واليد البيضاء في أحكام الولاية، والقدم الراسخ في درجات النهاية، انتهت إليه رياسة الكلام على خواطر الأنام وكان يتكلم بجميع اللغات، ويعرف لغات الوحش والطير).
وليس المناوي وحده الذي يرسم هذه الصورة الأسطورية للدسوقي، فقد وجدنا من قبل كيف كانت تصور كتب المناقب والطبقات مشايخ الطرق الصوفية، ولقد حامت الأسطورة حول الدسوقي -كما سنرى- منذ مولده حتَّى وفاته.
([3]) صوفي معاصر للدسوقي قال عنه الكركي إنَّه بشر بمولد الدسوقي: (وكان ابن هارون إذا رأى والد الأستاذ سيد إبراهيم أعني أبا المجد قام له ثمَّ ترك ذلك، فسُئِل، فقال: ما كان القيام له؛ بل لبحر في ظهره وقد انتقل إلى زوجته). كتاب (مسرة العينين)، ص5.
([13]) كتاب (الدسوقي)، لعبد العال كحيل، ص18، وكتاب 0من قادة التصوف) لأحمد عز الدين خلف اللَّه، ص135.
([16]) القصيدة من كتاب الدسوقي (كتاب منير)، من ص166، ص168، وقد ألحقناها بملحق بالرسالة، وهذه القصيدة بها أبيات غير موزونة، يكثر بها الزحاف والعلل.
([27]) (طبقات الشرنوبي)، طبعة مصر 1305هـ، ص2، 3، 4، وذكره عنه أيضًا الشيخ فرج غنيم في كتابه ( غذاء الباحث في التصوف)، ص32 إلى 34.
([46]) (من قادة الفكر الصوفي) لأحمد عز الدين خلف اللَّه، ص50. حزب البدوي وحزب الدسوقي بملحق النصوص بالكتاب.
([52]) شرح ابن خلدون في (مقدمته) هذا العلم، وقال عنه: (اعلم أنَّ علم الحروف والأسماء والأوفاق من العلوم الحادثة في الملة الإسلامية، من تفاريع علم السيميا، نقل وصفه من علم الطلسمات في اصطلاح أهل التصوف من المتصوفة، وكان أول من أظهرها جابر بن حيان الذي اشتهر بجابر الصوفي، فقد تصفح جابر الكتب القديمة عند السريان والكلدان من أهل بابل وعند القبط من أهل مصر، ولخص منها علوم الكيمياء والسحر والطلسمات، ووضع فيها التآليف، ثم تبعه مسلمة بن أحمد المجريطي إمام أهل الأندلس في التعاليم السحرية، فوضع منها كتاب (غاية التحكيم)، وحدث أن جنح غلاة الصوفية إلى كشف حجاب الحس وظهور الخوارق على أيديهم بالتصرف في عناصر الطبيعة، فاستعملوه استعمال العام في الخاص، وما وافى القرن السابع الهجري حتَّى وضع فيه التآليف الكثيرة أبو العباس البوني وابن عربي الحاتمي، فسارت علوم الحروف والأسماء والأوفاق إلى الاشتهار).
(مقدمة ابن خلدون، الطبعة المصرية، ص562، وذكرها علي سالم عمار بكتابه (أبو الحسن الشاذلي جـ1، ص112، 113).
وهناك صلات بين القائمين على دراسة الحروف وبعض الصوفية، وقد عالج الصوفية الحروف، ومن ذلك نلاحظ أنَّ هناك فرقًا جوهريًّا بين منهجين في دراسة الحروف منهج (نشد في الحروف خصائص تدل على النسب والمقادير عن طريقها يمكن التحكم في المادة، كما في رسائل جابر بن حيان والمجريطي والبوني، ومنها ما اتخذ الحروف رموزًا لأسرار تمثل أئمة وقادة الفريق الدارس، كما في دراسات الشيعة والإسماعيلية... وإذا نظرنا إلى الطابع الذي يميز دراسة الصوفية الخلص للحروف وجدنا أنَّه يختلف اختلافًا جوهريًّا عمَّا سبق من دراسات سواء كان ذلك من حيث طريقة التناول أو من حيث الهدف المقصود من هذه الدراسة والتأمل، فالصوفية الخلص لم يقصدوا إلى اعتبار القيم العددية للحروف، ولم يقصدوا إلى اكتساب السيطرة والتحكم في المادة، كما لم يهدفوا إلى رصد هذه الحروف لتمثل قادة سياسيين أو روحيين يرعون طائفة أو فرقة أو نحلة معينة، فالصوفية كانوا يحذرون من الجري وراء مثل هذا الهدف لإيمانهم بأنَّ الكرامات التي يتفضل اللَّه عليهم بها خير لهم وأبقى من هذه الأمور غير المؤكدة أو غير المأمونة العواقب).
عن كتاب من التراث الصوفي (سهل التستري) للدكتور كمال جعفر، جـ1، ص360، 361.
([53]) ولد أبو محمد عبد اللَّه بن أسعد اليافعي باليمن حوالي سنة 700 هجرية، وتوفي بمكة بالمعلى سنة 768هـ، وكان يتعصب لمذهب الأشعري، ويذم ابن تيمية وكان شافعي المذهب.