[جد المنصف -رحمه الله- يوسف بن يعقوب البويوسفي]
وكانت ولادته في عام ثمانين وستمائه، ووفاته في عام أربعة وستين وسبعمائة. وتوفى وهو جالس في مرضه يمسح بيده اليمنى في التيمم لصلاة العصر، ودفن بزاويته بجنب أبيه وحضر جنازته من لا يحصى عدده. وأعلمهم بسنة موته قبل ذلك بتدريج في التعريف مرة بعد أخرى ، وتوفيت زوجته جدتي بعده بشهرين. وأقام معها في الزوجية سبعين سنة بعشرة قويمة وهداية مستقيمة وإعانة على الطاعة العظيمة.
وكانت تربيته على يد والده، وحدث عنه قال: أمرني والدي في أبتداء أمري بالأعتكاف في شهر رمضان، وناولني في الليلة الأولى ثلاثين تمرة وفي الليلة الثانية تسعًا وعشرين تمرة، ثم مازال ينقص لي واحدة في كل ليلة وما رأيت تشوفًا لشيئ في ذلك الشهر.
وأقام نحوًا من خمسين سنة لايطلع عليه الفجر إلا في المسجد، ولايسكت عن الذكر جهرًا بعد صلاة الصبح إلا بعد أن تطلع الشمس، وكان يلازم المسجد أبدًا إلا في الضروريات البدنية.
وكانت صفته التي داوم عليها وهى أسهل الأشياء عليه، وعرفها منه الخاصة والعامة: إفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام.
ووضع الله له القبول عند الأمراء الراشدين { وأعانهم على ما يرضاه منهم- وعند ولاتهم في قضاء الحاجات وقبول الشفاعات وكف المدعى عليهم بالجنايات؛ فكان يدخل بذلك على المكروبين المسرات.
حضر يومًا عند الخليفة أمير المؤمنين المتوكل على رب العالمين أبى العباس ابن الأمراء الراشدين -أعلى الله مقامه وأطال في العز دوامه- بالجامع الأعظم من قصبتهم السعيدة بقسنطينة المحروسة بعد صلاة الجمعة، وطلبه في حوائج قضاها كلها إلا واحدة في تسريح مسجون، تردد السلطان فيه وعسر عليه إطلاقه، فقال له الشيخ بعد أن حبسه بيده من صدره، قابضًا على الثوب من هنالك: والله إن لم
تطلقه لاخرجت عنك إلا غير طيب فأبى من ذلك أيده الله أنه لا يطلقه.
فأنصرف الشيخ بانزعاج وبغير سلام. فنظر السلطان في الأرض، ثم حركه اعتقاده وفضله، وتواضعه، وقام وتبعه وأمر أخاه الأعز عليه أن يبادر إليه ليوقفه، ففعل ورده إليه بلطافة قول وليانة فعل. واجتمعا في الطريق، فقال له السلطان، نره الله: لاتأخذ علينا ياسيدي ونحن أولادك فقال له الشيخ بعد أن تبسم: غيار الوالد على الولد بالظاهر لا بالباطن ثم قضى له الحاجة التي توقف فيها وأخرى معها وأنصرف.
وسمعته- نره الله وأبقاه- يقول في مجلسه الأشرف، بحضرتهم العلية بتونس المحروسة: ما رأيت بعد سيدي أحدًا وهم –نصرهم الله – الحجة في مثل ذلك.
وحدث عنه الفقيه ابن رضوان معجبًا غير مامرة في مجالس عدة قال [زرته مع غيري وأشتهيت في نفسي طعامًا عينته، قال] ([1]) فلما قضينا زيارتنا وأحضر لنا الطعام قرب لي الطعام الذي أشتهيته وحدى وهو يبتسم ورأيت في ذلك مالا كنت أظن أني أقف عليه.
وحدث عنه ابن([2]) أبى مدين في غير ما موطن قال: أمرنا السلطان بالجلوس في (فرجوية) بقية عامنا، فشق ذلك علينا، فركبه إلى الزاوية وأعلمت سيدي يوسف بما كتب به إلينا السلطان وما نحن فيه من الكرب بسببه، فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال: تنصرفون إن شاء الله تعالى، فقلت: متى ذلك؟ وأنصرفنا بعد أيام يسيره بكتاب آخر ولنا وتعجبنا من ذلك.
وكان كثير العطية. فرق مرة في مرضه على المحتاجين من أقاربه ومعارفه ألف دينارٍ جديدة، وثلاثمائة دينارًا ذهبًا، جعل ذلك أكداسًا تحت فراشه، ولا يخرج الزائر المحتاج حتى يناوله بقدر حاله. وقسم سائر كسبه على ورثته، وليس ذلك في مرض موته.
ولما كان يوم إفاقته قال لأهله: لم يبق لي إلا ثوب عنقي! وحمد الله على ذلك. وما أخذخ الوراث لم يسترجعه منه.
وكان ببركة الشيخ أبى مدين وظهور عنايته؛ من انتسب إليه تكرمه العلماء والصلحاء والسلاطين. ما يكتب إليه أحد من الأمراء الراشدين إلا ويخصصه بالسادة. وكتب مرة لأمير منهم في تسريح مسجون، فسرح كل من في السجن بسبب ذلك.
[تلاميذ جد المنصف]
[الشيخ أبو عبد الله الصفار]
وكان له تلامذة مباركة وإخوان مباركون فمن تلامذة الشيخ: الفقيه المبارك الصالح الولي أبو عبد الله محمد بن أبى محمد ([3]) عبد الله الصفار، المدفون عندنا في المسجد الذي كان يؤم فيه، داخل باب القنطرة من قسنطينة. أدركته غيرًا وتبركت به، ورأيت والده صفارًا.
وكانت لأبى عبد الله البركة التامة والكرامة العامة؛ واختصه والدي –رحمه الله لبناته يعلمهن القرآن، ولم تفارقه إحداهن حتى ختمت وكررت ثلاث مرات.
وقرأت عليه الرسالة وأنتفع بها والدي -رحمه الله تعالى- كثيرًا في مقابلة الكتب ونحوها.
وقالت لي إحدي أخواتي: مارأيته رفع بصره فينا يومًا قط. وما سمعناه منه كلمة في غير التعليم. وإذا قربنا له طعامًا يفطر عليه، تارة يقبله وتارة يرده بيده.
وكان يحدث عن جدي للأم ويكرر ذلك دائمًا: أنه خرج لزيارته من باب القنطرة فناداه من أعلى الرمال التي هنالك، وجد في طريقه، فلما بلغه في اليوم الثاني بملارة وجده مبتعدًا عن الدار، جالسًا في الطريق وقال له: من حين ناديتني (وأنا ننتظرك) ([4]).
ولما قدم والدي -رحمه الله- من الحجاز خرج إلى لقائه وقال لبعض الفقراء مع: غرضي لأن ينزل الخطيب عند بنت الشيخ _ فإنه كانت لوالدي زوجة أخرى في مكان آخر_ فكان يتبعه ويرمقه حتى رآه عدل إلى دار والدتي، قال لمن معه: الآن طابت نفسي وأنصرف.
فانظر -وفقك الله- رعى هذه الحقوق واستعمال الخاطر فيها.
وكان يسعى في حوائج الناس ويختلف إلى باب السلطان في ذلك، وقال له الحاجب يومًا: أكثرت من هذا فصلا تعد! فسكت عنه، فخرج فلقيته امرأة وكلمته أن يرجع، فرجع في حاجتها إلى الحاجب فأعلمه، فقضى حاجته وقال: ياسيدي لا تتأخر عني في حاجة، وتبين له أن لا فرق عنده بين الحاجة التي تقضى والتي لم تقض.
وكان قد قدمه جدي للأم -رحمه الله- على تلامذته بقسنطينة. ودقت فيه فراسته وظهرت عليه عنايته. وتوفى -رحمه الله- على أفضل حال من الطاعة والعبادة في عام تسعة وأربعين وسبعمائة، وقبره يزار ويتبرك به.
[والد المنصف رحمه الله]
ومن تلامذته أيضًا والدي -رحمه الله- الخطيب حسن ابن الخطيب علي [ابن بين اللمعة] ([5]). صافحه وعاهده، وسلك طريقته، وساعده وقصد الله تعالى في مصاهرته، واعتضد بقربه وموالته، وحدث متعجبًا أنه لنا أنتهب في ركب الحجاز حين قطعت عليهم لصوص الأعراب، لم يسلم إلا المفرش الذي دس فيه شاشية الشيخ مربوطة مع نفقة صالحة جدد بها رحلته. وكان والدي -رحمه الله- يستعين بعارية كتبه في تدريسه للعلم، ويقاسمه فيما يترتب له على ذلك من حول الثواب ونفى الإثم. وكانا مسرورين معًا بمواصلتهما ، وقليل أن تقع مصاهرة في الصفاء كمصاهرتهما. ومازلا والدي -رحمه الله- حفاظًا على عهده ، مشغولًا بطلب العلم ، وتدريسه ببلده ، مقتديًا بسمته بطريقة أبيه وجده حتى لقى الله تعالى بوسيلة العلم وروايته وسنده.
وكانت ولادته في عام أربعة وتسعين وستمائة، ووفاته في عام خمسين وسبعمائه وهو عام الوباء العظيم العام، وكان في صحته أعدَ نفقة جميع ما يحتاج إليه بعد الموت من كفن ونعش وتعيين نفقة وغير ذلك.
وله في آدبه الشريفة وأحاديثه السنية ونكته وأحكامه العلمية تأليف استحتنه من وقف عليه من اهل العلم.
وكان مما أوى ب أن ترد البغلة التي أعطيت له أيام السلطان أبى الحسن المريني ليركبها، فردت على معطيها منه بعد موته، عملًا على إنفاذ وصيته.
ومما استحسن منه جماعة من الفقهاء أنه لما قطع للشيخ الفقيه العالم المحقق الشهير أبى علي بن الحسين اللجائي([6])، شارح المعالم الدينية مرتبه -بسبب ما أذكره- وذلك ببجاية، بعث إليه والدي كتابًا فيه: أنه قطع مرتبك وساءني ذلك وإني التزمت أداءه على قدره من مالي من كل شهر، فكان يبعث إليه ذلك، وكان أحب أفعاله إليه دقة السر.
وكان يتحدث بفعلة فعلها والده –ما أحسن القصد فيها! وهى أن والده ملكه جميع ربعه إلا دارًا معتبرة أنفذها لنفسه، فصلما قرب أجله دفعها إلى النداء وأمر بإنفاذ بيعها فعجب والدي من ذلك بسبب أنه لاحاجة إلى بيعها، ففهم عنه وقال له ياوالدي: أبقيت لك عددًا من الدور والجنات والأرضين وغير ذلك مما تعلم، وما أبقيت لنفسي إلا دارًا واحدة أريد أن أرتحل بها عنكم، فلم تهن عليكم! فقال له: حاشا لله وإنما وقفت لجهلي بهذا السبب فبيعت الدار بثمن معتبر وأوصى أن يتصدق بها على قبره يوم موته. ففعل، وذلك سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، وكانت ولادته بعد أربعة وأربعين وستمائة، وتردد في خطة الخطابة مدة تقرب من ستين سنة. هكذا أخبرني بعض الفضلاء –رحم الله الجميع بفضه.
[الشيخ أبو الحسن علي الأندلسي]
ومن إخوان جدي للأم –رحمه الله: شيخ المريدين، الشيخ الفقير الصالح السالك العارف المبارك أبو الحسن على بن محمد يوسف الأنصاري الأندلسي، السراج ببلدنا. كان كثير الزيارة له بملارة وحريصًا على القيام بحوائجه. وكان إذا سمع بقدومه يأتي إلى منزل نزوله فيتفقد سرجه على يحتاج إلى إصلاح أو لا؟ وإذا احتاجت رقعها بيده. وكان والدي -رحمه الله- يستحسن منه نباهة([7]) أخواته. وكان هذا الشيخ أبو الحسن علي الأندلسي من الأتقياء الأخفياء وليس على فضله مختلف. وله سند الشيخ أبى مدين } وكان له معرفة بالتربية والمعية وأخذ في الأنوار الألمعية، وكان له فهم وسلوك في معانى نظم السلوك، وهى القصيدة التي منه:
لأنت منى قلبي وغاية مطلبي |
* | وأقصى مرادي وأختياري وخيرتي |
وهى للإمام أبى القاسم عمر بن علي السعدي المعروف بابن الفارض([8])، وكانت ولادة ابن الفارض سنة ست وسبعين وخمسمائة بالقاهرة، وبها توفى سنة اثنتين وثلاثين وستمائة. وجاور بمكة عشرين سنة ومات على أفضل حال فكانت للأندلسي بها دراية، وكان حديثه في الطريقة نهاية، وله محبة في نظم الشيخ الصالح الزاهد العابد الولي المحقق المكاشف الشهير أبى الحسن([9]) علي الششتري، رحمه الله، وكانت وفاة الششتري بدمياط سنة ثمان وستين وستمائة، وهو من معارف جدي للأم. وتوفى شيخه أبو محمد عبد الحق ابن([10]) سبعين بمكة سنة تسع وستين وستمائة. وظهرت للأندلسي الفراسة والكرامة، وكانت له عند الخواص مكانة وكرامة. وتوفى -رحمه الله- بقسنطينة في حدود ستة وأربعين وسبعمائة ودفن بخارجها في وجه الكدية، وقبره هنالك معروف عند الأفراد من الناس، وقد أخفاه الله تعالى حيًا وميتًا كما هى عادته سبحانه في كثير من أوليائه.
[الشيخ أبو هادي مصباح الصنهاجي]
ومن إخوان جدي للأم –رحمه الله تعالى- وأقربهم إليه: الشيخ الصالح المبارك الفقير السالك أبو هادي مصباح([11]) بن سعيد الصنهاجي، والعامة تقول له عند هادي وأسمه في البادية (يشوا), وقد يقال إنه من المغرب. وأخبرني من يقبل قوله من الشيوخ أنه من عرب (برقة) وارتحل إلى المغرب. والشهرة أنه من المغرب وبلسانهم كان يتكلم وارتحل إلى المشرق. وجاور بمكة والمدينة مدة وكانت له بهما مجاهدة وعبادة. وأنتقل إلى بلاد إفريقية بعد أن هم بالإقامة في برقة وفي طرابلس بضم الباء واللام، وتردد هنالك وتبعته بإفريقية التلامذة وظهرت بركته.
وكان معظمًا عند السلطان وعامة الناس، وكانت بينه وبين الفقهاء منافرة. وله مجلس معروف مع فقهاء تلمسان، وبخهم وزجرهم السلطان عنه. وأراد قاضي الجماعة أبو عبد الله محمد ابن عبد السلام الهواري التونسي([12]) شارح ابن الحاجب([13])، وتوبيخه ولنزوله بجامع الزيتونة من تونس [ورقصه] ([14]) بتلامذته في صحن الجامع ولغط بما يفعل، ثم كف لسر رآه من أحوال الفقراء.
وكان إذا رآه والدي –رحمه الله- سأله عن حاله وقرر له محبته فيه وباسطه وسأله عن حال والدتي يقول له: كيف بنت الشيخ، مازالت فقيرة؟ أن رجعت فقيه؟ فيجيبه أنها على الوجه الذي يريده، ويضاحكه. وكان يحفظ جملة من مسائل الفقه وبعض غرابئه. وكان يؤول ما يسمع من المسائل العلمية إلى معنى التصوف بالوجه المستحسن.
وكان كثير الصلاة جدًا يتكلم مع الزائر، ثم يركع ركعتين ثم يعود إلى الكلام تارة وتارة. وكان كثير الذكر، وله أوراد مقدرة. وكان لتلامذته أوقات من الذكر جماعة بعد أخرى، وكان ينفرد عنهم في أكثر الأوقات.
وكان قليل الأكل. وكان له رأي نافذ في تدبير الدنيا؛ ولذلك كانت القواد تستشيره. وكان أرفع ثيابه برنوسة ويستر جسده بما تيسر، أعطى مرة ثيابه التي عليه لرجل، وتستر بما استعار حتى غسل له طرف من جلال فرس ولبسه. وكانت له في السفر راحلة تشبه راحلة القواد من قيطون وخباء وآلة طبخ وكلاب صيد، وكان لا يركب إلا جياد الخيل. تلونت الألسن فيه في حياته واتفقت على فضله بعد مماته.
أخبرنا شيخنا الفقيه القاضي الشهير المحدث المرحوم أبو علي حسن بن أبى القاسم بن باديس([15])- توفى سنة سبع وثمانين وسبعمائة وسنه يقرب من تسعين سنة-: أنه توفى لم يعتقده إلا بعد أن تلقى أخيارًا بالحرم الشريف تعرف منهم مجاهدته هنالك وعبادته وذلك بعد موته.
وقال لي أيضًا: رايت مرة ما أخبرك به: وذلك أن السلطان أبا الحسن المريني أراد أن يبني مدرسة بقسنطينة، فتحدث في شراء دار، فقيل له: ما ثم أليق من دار أشتراها أبو هادي، وكان قريب العهد من شرائها، قال: وكلفني السلطان أن أتحدث معه في أن يوليها له بأي ثمن شاء، قال: فدخلت من المحلة بسبب الكلام فيها، فأنساني الله ذلك واشتغل السلطان، ولم يكرر على في أمرها ورأيت أن ذلك من بركته ولما وصل الخبر بنزول السلطان أبى الحسن المريني متوجها إلى بلاد أفريقية خرج الشيخ أبو هادي مسافرًا من قسنطينة، فبات عند جدي للأم -رحمه الله- بزاويته بملارة، فبعد فراغهما من وظيفة صباح تلك الليلة قال الشيخ أبو هادي: أريد أن تتحرك معي إلى هذا السلطان وتتعاونوا في الكلام معه ليرجع عن هذه البلاد! فسكت عنه. وكرر عليه الكلام وقال له في أثنائه: لعلك خفت!! فقال له: والله ما خفت، لكن المانع الأعظم عندي أن يقول لنا: لا، فلا فائدة في الكلام.
فقال له أبو هادي: إذا قال لنا: لا، نقول له نحن: لا!! ورفع صوته بذلك.
ثم قال له: سلمت لك في الجلوس ولا تنسنا بباطنك، وأعطيني سرجك نركب بها لإاخذها وأنصرف.
وقدم على السلطان أبى لحسن ودخل عليه فقال له: ما حاجتك؟ فقال له: حاجتي أن ترجع وتترك البلاد لأهلها.
فقال له: هذا لا يمكن، فأطلب غير ذلك.
وتلطف له السلطان حتى رأى أنه لا طلب له إلا هذا أعرض عنه، وأنفصل المجلس وكل واحد منهما غير طيب بما وقع.
وعرض السلطان فيه بالقول بعد إنصرافه وقال: هذا أحمق.
مثلي يصد؟ وطريقتي كذا، وشأني كذا ولي من القوة كذا؟
ورجع الشيخ أبو هادي إلى قسنطينة وصرف أكثر أتباعه، وتحمل في نفسه ولازم خلوته.
ولغط كثير من الناس أنه متوجه إلى الله تعالى في السلطان المذكور، وكان من عاقبة السلطان بإفريقية ما كان من الفساد، وذلك بعد موت الشيخ أبى هادي بأشهر. وكان بعض الصالحين يقول: صدقت لا من الجانبين.
[الشيخ عبد المؤمن أبو لقمان]
ومن أشياخ الشيخ أبو هادي: عبد المؤمن أبو لقمان من جهة مراكش، من إخوانه طائفة أبى محمد صالح.
وكانت لعبد المؤمن هذا أحوال، أخبرني بها بعض الفقراء المصامدة: أن له معرفة تامة بكتاب البوني([16]) في أسرار الأسماء.
وسمع عنه الفقهاء بمراكش أشياء أنكروها، فاحضروه يومًا للسؤال والبحث عن سبب ما يدر عنه من الأحوال، فقال لهم: أنا أعرفكم بسبب ذلك: أنا مع ربي بالباطن وأنتم معه بالظاهر، فتركوه وسلموا له. وكان معاصرًا مع الشيخ أبى زكريا يحيى بن أبى عمرو بن عبد العزيز الحاحي، وكان كل واحد منهما غير طيب بصاحبة ولاحاجة لي في استيفاء هذا.
وكان الشيخ أبو هادي يتردد في بلاد أفريقية، وأكثر أستقراره بقسنطينة وحوزها. وله نوادر في طرف الكلام ويباسط ببعض الكلمات المضحكة. وكان يقبل عطاء الأمراء وجوائز العمال ويطلب ذلك ويوسع به على المحتاجين من تلامذته، ومنه أقام زواية ببلاد أفريقية ، وله في ذلك مستند في الشرع معروف، وشاركه في الأجر من أعانه عليه من الأمراء الراشيدين {.
وكان -رحمه الله- موقرًا لجدي للأم في أخوته وكثير المحافظة على محبته. وضع يده عليه يومًا بمحضر الناس وتلامذته وقال لهم: هذا أحد أشياخي وقال الشيخ لتلامذته أيضًا: من عاهدني فليجدد عهده مع أبى هادي، وما كان بينهما افتقار إلى الاستئذان في أخذ ما يحتاج أحدهما من حوائج الآخر. ومازالت بينهما المداولة في ذلك. وكان كثير الزيارة له بملارة.
وحدث جدي لمن سمعته منه قال : زارني أخي أبو هادي مرة فبات عندي واعتزلنا عن الناس في المسجد بالليل، وليس معنا ثالث، والباب مغلق علينا فشاهدنا في إحيائنا ليلتنا والله أحوالًا عجيبة وأمورًا غريبة، لا ينبغي التحدث بها
وكان يقول: ينبغي أن يعتقد كان كثير الترحم عليه. توفى -رحمه الله- بقسنطينة
بعقب مرضه أصابه عالجه من الأطباء سنة ثمان وأربعين وسبعمائة. ودفن بالزاوية المعروفة بأسمه ورفع كثير من متروكه لبيت المال أيام المريني لأنه لم يظهر له وارث.
وكان أشهد قبل موته أن كل ما يتركه صدقة لطلبة العلم والمنقطعين للعبادة، وإشهاده بذلك يدل على أنه لاوارث له. ودفن بعده بجنبه إمام الفريضة به وأحد تلامذته ومن ظهر بعده بأسمه: الشيخ المبارك الصالح العامل التالي للقرآن أبو عبد الله المغربي سنة تسع وخمسين وسبعمائة.
[الشيخ أبو عبد الله محمد المسفر]
ومن أكابر أصحاب جدي للأم -رحمه الله- وعليه أقتصر لأن الغرض الإشارة إلى إنتشار بركة الشيخ أبى مدين } وعلى تلامذته وعلى السالكين سيبل هدايته، وظهور بركته عليهم وعنايته: الشيخ الإمام العالم المحقق المدرس المفتي الصالح الشهير قاضي الجماعة ببجاية أبو عبد الله محمد بن يحيى([17]) الباهلي المسفر،شهير الذكر، رفيع القدر، رقيق القلب، غزير الدمع، لقة الشيخ الفقيه الشهير أبا الحسن الغير المغربي الذي ينسب إليه شرح المدونة. وتحدث معه في الفقه، ورد عليه بكلمة ملحونة، فلما فارقه أبو الحسن قال لأصحابه: بم يدرك هذا؟ فقالوا:
بمعرفة كتاب الفصيح لثعلب([18]) قالوا: فحفظه في ليلة واحدة. وهكذا كانت همم الرجال.
وكان للمسفر ببجاية مجلس للعلم معروف بإجتماع الفقهاء والفضلاء والصلحاء، وهما معًا من أصحاب الشيخ الصالح العالم الشهير أبى على ناصر الدين منصور بن أحمد المشذالي([19]). وتوفى ناصر الدين ببجاية في فر عام واحد وثلاثين وسبعمائة وسنه لحق المائة.
حدث جدي للأم غير مامرة: كلفني السلطان أمير المؤمنين أبو يحيى أبو بكر أن آخذ في الصلح بينه وبين أبى حمو([20])، صاحب تلمسان، فترددت في ذلك حتى أشارو ناصر الدين فاجتمعت به، فعندما رآني قال لي من غير أن أكلمه:﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [النساء:114] ([21]).
وسمعت أيضًا يقول: كان عندي رجل من الصلحاء الأخفياء البلهاء، فقال لي ناصر الدين: سمعت أن عندك رجلًا يخدمك، شأنه كذا وكذا، فقلت له: هوعلى خير عظيم، ولكنه يفر من الناس، فقال لي: بحق ما بيننا من الأخوة إلا وجهت وراءه ، فبعثت إليه فحضر وحمل ثوبه وانزوى في نفسه منقبضًا، فقلت له: ابسط نفسك! فتبسم ثم قال له ناصر الدين: آمين. وكررها وهو يبكي.
وتوفى المسفر في سنة أربع وأربعين وسبعمائه، وله إملاء عجيب على بعض مختصر الإمام أبى عمرو بن الحاجب في الفقه. وله القصيدة الطويلة البديعة الجليلة التي سماها: نظم فرائد الجواهر في معجزات سيد الأوائل والأواخر صلى الله عليه وسلم.
ومطلعها:
تبدت فغابت واختفت فتجلت |
* | فشاهدتها حالي حضوري وغيبتي |
وله شرح على أسماء الله الحسنى، وله كلام عجيب في التصوف، وله تقاييد في أنواع فنون العلم، وله شعر فائق، وخط رائق.
وكان من فصحاء الفقهاء في جوابه في الفتيا. وكان على مكانته العلية وسيادته السنية، يتولى قضاء حوائجه من السوق بيده. وكان لعلمه وأمانته وفصاحته وديانته يتوجه في الرسائل السلطانية. وكان كثير التواضع حسن الملاقاة.
وهو على الجملة ممن يحصل الفخر بلقائه وصحبته، وينال الخير بدعائه وبركاته -رحمه الله ونفع به-
عاشر جدي للأم ورافقه وصافحه في الله تعالى وعانقه، وزار معه الشيخ أبا مدين } وفي توجههما لسعي المصالح بين المسلمين، وذلك في عشرة الثلاثين وسبعمائة. وكانت بينهما مكاتبة سنية محتوية على معانٍ علية، وزاره بزاويته بملارة وأتحفه جدي مرة بمائة دينار ذهبًا. ذكر لي غير واحد أن المسفر تعجب من سماح الشيخ له بهذا القدر.
ومعاني كتبه له تدل على فضله ومحبته في اهل الطريق ورقة قلبه. فمنها كتاب وقفت عليه بخطه -رحمه الله- نصه:
زارت وقد فعل النوى أفعاله |
* | صبا رأى في وصلها آماله |
يا أهل بابل قد شغلتم باله |
* | بكم كما أشغلتم بلباله([22]) |
فخذوا لكم عنكم بكم حتى يرى |
* | منكم سواء هجره و وصاله |
الوحشة -لا أوحش الله منكم- الالتفات ولو بالسر إلى السوى.
والفرقة: التفريق من الوصل والهوى.
فالأول: إعراض عنه، والثاني: طلب الحظ منه.
والعبودية له: إخلاص التسليم والإتيان بقلب سليم. رزقنا الله وإياكم الوفاء بالعهود وبلوغ المقصود بمنه.
وليعلم سيدي أبو يعقوب أن كتابه وصل وكنت على شوق له، فجدد عندي ما لم يندرس؛ وأكدعندي ما لم يلتبس، وتبركت به وتأنست بوروده، وطلب مني موصله الجواب، وكان غرضي أن أطيل الكتاب لأنه عندي مناجاة معكم وملاقاة بكم، ولكن أعجل الظمآن قبل تمام ريه، وغيلان قبل مشاهدة ميه، والأمل مرافقتكم والتبرك بكم.
وياسيدي أبا يعقوب أذكروني ولا تنسوني؛ فإني أطالبكم وجميع سادتي الفقراء بالمواساة التي بنيتم عليها طريقتكم، ولتعلم أني محب فيكم وما جزاء من يحب إلا أن يحب، ولا تقطعوا عني مكاتبتكم، فإن لي فيها اعتقاد بركات وإغتنام دعوات.
والله تعالى يعيننا وإياكم على الإخلاص في الأعمال، ويبلغنا من فضله وجوده جملة الآمال. والسلام عليكم وعلى جميع سادتنا الفقراء ورحمة الله وبركاته.
ووقفت له -رحمة الله عليه ونفع به- على كتاب آخر للجد، فيه فصول كثيرة. من فصول أوائله قال: محمد المسفر -لطف الله به- يسلم على سيدي أبى يعقوب ابن سيدي يعقوب -نفع الله تعالى بهما- وأعاننا على القيام بواجبهما - ونعلمه أن الذي يعلمه من حبه وإعتقاده فيه وخلوصه في ولائه وتصافيه لم يزل على ما يعهده يعتقده بذمته وتعهده.
ومن فصول الكتاب:
ومحبكم يشاهدكم بما جلوتم ببركاتكم من مداته، ويقطع بذكركم طيب
أوقاته ويجد عنده أثرة فقدكم إياه بباطنكم السليم وبركاته، وأما شوقه الذي برح وإعتقاده فيكم الذي لم يبرح، فأكثر مما تعرفه وفوق ما أصفه. ولولا عذر وولي لم ينب عن قربي قلمي، وعن مشافهة خطابى توجيه كتابى، فباطني عامر بزيارتكم وشوقي كثير إلى مجالستكم ومحادثتكم. والله تعالى ييسر أسباب اللقا ويجعلنا ممن أطاع وأتقى. وكيف لا أشتاق إلى لقائكم وأنتم ممن نرجو بركته دنيا وأخرى. وأعتد بمحبته في الله تعالى وسيلة نافعة وذخرًا.
ومن فصول هذا الكتاب:
وإن من ملاطفة سيد الصوفية ومعاتبته القدرية تنبيها على جبر وقتي بمكاتبته وإخفائه في ذلك باطنًا في ظاهر معاتبته، فهو يعاتبني عني ويشير خطابه إلى مني. وهل مكاتبتكم إلا لطائف روحانية، ومصالح دينية تحض على الخير وتندب إليه وترشد إلى سبيل البر وتدل عليه، جزيت من حبيبٍ في الله تعالى خيرًا، وأقامنا الله تعالى في الخير سرًا وجهرًا وإلى غير ذلك من فصوله.
وفي آخر هذا الكتاب: يسر الله لنا أسباب قربه، وعمر قلوبنا بذكره وحبه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وله إليه فصول من كتاب آخر: أبقى الله سيدي أبا يعقوب يوسف ابن سيدي يعقوب عامر المغنى رائق المعنى.
المملوك محمد المسفر -لطف الله تعالى به- يتوسل إليكم بما بينه وبينكم من صادق ودً وتأكيد عهدٍ، وحب في طريقتكم، وإنتماءً لكم ولفريقكم، أن تجعلوا باطنكم وخاطركم معه في كل الأوقات بإغتنام التفكر والدعوات إليه.
ومن كتاب آخر:
العبد الفقير محمد المسفر -لطف الله به- يرغب من سيده وشيخه أبى يعقوب يوسف ابن سيدي يعقوب أن يتعهد مجدب أرضه بطيب دعواته، ويتفقد وقت الفقير بخاطره وبركاته. فما زال يعلق آماله بساداته الفقراء، ويستجدى منهم في ورده وصدره الزاد والقرى، ولم يألوا يواسونه في فقره ويتلطفون في إصلاح خلله وجبره. ولم لا؟ وهم الأطباء للإساءة وأهل الخير والمواساه -نفع الله تعالى بهم- وضاعف بمنه في حبهم.
وما أشوقني ياسيدي إلى مشافهتكم ومجالستكم! ولو تيسر لي الطريق في زيارتكم! وأنا حريص أن تتفقدوني من أقاتكم فأنا فقير إلى مواساتكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وله إليه كتاب آخر مقتضاه: العذر والاستغفار عن تقصيره في تأخير كتبه عنه وهو جواب كتاب الجد له نصه من أوله إلى آخره.
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما:
حملًا وإن أفرطت في التقصير |
* | حمل الأذى من شأن كل كبير |
وانا جنيت وجئت منكسرًا ومن |
* | خلق التصوف جبر كل كسير |
وبباطني قد قمت مستغفرًا لكم |
* | فهبوا بباطنكم قبول فقير |
إذا حكمت الطريق بواطن الأحباب، وقامت بما للمحب من وظائف وآداب وصحت روحانيتها ظلمات الحجاب، اندرج في رأي البصيرة رأى العين، وأرتفع الفرق بين القرب والبين؛ فحينئذ من يرى القرب زيادة في حبك؟ والبعد أن
يشتغل عنك ولو بملاحظة قربك.
وكيف يشتكي البعد من يتوسم نسيمه في كل وسيم، ويجد طيبه في نفحة كل نسيم، ويذكره مع ظاعن ومقيم؟؟
فالحب -زاده الله في معناك وعمر باللطائف السنية معناك- فناء في بقاء وبقاء في فناء، وحالة لطيفة يخفى عنده الفرق بين ناءً ودانً. فإن بقيت بين المحب بقية تمدها لطيفة نور الألمعية فهم معنى دوام المعية ومعنى الجمع([23]) في الفرق والفرق في الجمع. وكيف احتجاب الشفع عن الوتر بالشفع فينشد بلسان حاله لا بمقاله:
وغنى لي مني قلبي |
* | فغنيت كما غنى |
وكنا حيث ما كانوا |
* | وكانوا حيث ما كنا |
فإن أخذه محبوبه عن نفسه وأذهله عن معقوله وحسه، خرج مطلوبه عنه إلى اختيار مكلوبه، ولم يرى محبوبه إلا المحبوبه فتخاطبه نتائج الطريقة عند الاستغراق في بحار الحقيقية.
تمنى المحب يرى علوًة |
* | وقد شاع في حبه وصفها |
أعارته عينًا يراها بها |
* | فكان البصير لها طرفها |
إيهٍ يا أبا يعقوب! فهم رقة الزجاجة (والحمل) ([24]). فمثل روحانيتك الحافظة لآداب الفقر يفهم معناها الدقيق، ويخرق وإن عز حجابها الرقيق. فهنيئًا لك إن وافيت الطريق ورعيت فيه حق المصاحب والرفيق. وجبرت وقت كاتبها الفقير بخاطرها، وشفعت باطنك الصافي بظاهرك فتفضلت بالكتاب مرة بعد أخرى ولم تبق لي عن التقصير في حق جوابكم عذرًا، ولم تنتقل عن اعتنائك لعتابك ولم تخرجني على جفائي عن أحبابك، ولا أقول: إن لي عذرًا بل أقول: غفرًا غفرًا فأنا ظلمت نفسي، وندمت اليوم على تقصير أمسي؛ والندم والتوبة، وكم أزالت وحشة الغيبة أوبة. وقد قمت في غيبتكم مستغفرًا بباطني، والطريق أمانة وأنا أرتقب لحق الظاهر مكانة، فأحط الرأس مستغفرًا وأقوم بطريق سادتي الفقراء، وإقبالكم. بالقبول مأمول، وربعكم بالفضائل مأهول، والحمد لله تهالى، والله سبحانه يمد نورانيه أبصارنا بأنوار فتحه، وينسخ ليل العبد بتباشير نهار القرب وصبحه، ويحفظ أوقاتنا باستحضار أسمه الرقيب. ويعين كلًا منا على ما يجب لأخيه في المشهد والمغيب. ويبلغنا من فضله آمالنا ويجعل همنا بمآلنا بمنه وفضله.
والسلام عليكم وعلى من بجماكم ومن شمله نظركم من الفقراء وأنتم واسطة عقدهم ومصطفى عين وردهم لترتيب وردهم. من العبد المقر المفتقر في ورده وصدره، المنكسر قلبه بتفريطه فيما مر من عمره، محمد المسفر –لطف الله به
وأفاض علينا من بركات أهل الخير في حاله ومنقلبه بمنه وفضله، ورحمة الله وبركاته أنتهى.
ولا نطول بذكر كتبه إليه؛ فقد وقفت على رزمةٍ([25]) من مكاتبته إليه، وهى كلها تدل على محبته في الفقراء ومباطنته له، وميل نصفسه إليهم وإقتراحه عليهم، وإندراجه في سلكهم وتمنيه أن يكون في بسائط حضرتهم وسلكهم، وكفى به الحجة في مكانة المكتوب إليه ومحاسب الطرق والأخذ في معاني أمور التحقيق.
وكل ذلك من بركة الشيخ أبى مدين رحمه الله والأنتساب إليه.
فتلامذته أهل الصفا، وهم محفوظون بالله تعالى، وما من مؤذٍ لهم إلا ويلحقه ضررٍ ما. والمشاهدة في فصول ذلك كافية.
وقد حكى الفقيه أبو ربيع المديوني -رحمه الله- أنه وصل بعض أهل المكاشفة إلى بعض من تلامذة الشيخ أبى مدين رحمه الله فأنكر عليهم أمورًا من أحوالهم، فأعلموا الشيخ أبا مدين رحمه الله بذلك فقال لهم: سيسلب([26]) ما يجد من المكاشفة فسلبها الرجل -والعياذ بالله- بتغيير قلب الشيخ أبى مدين رحمه الله عليه لإنكاره على تلامذته، وصار واحدًا من العامة. نسأل الله العافية.
فهذه عاقبة من مقامه المكاشفة بإحدى غيرةٍ
وقد ظهر ببلادنا رجل مغربي يقال له: علي المغربي وهو المدعو (بالمظلوم) المدفون بمقربة من بجاية ،وذلك قبل الثلاثين وسبعمائة. وكان معه جمع كبير، فكان بعضهم يقدح في تلامذة الشيخ أبى مدين ويصرح بأشياء. سمعت جدي للأم –رحمه الله تعالى- يقول: ركبت إليه من موضعي ونهيته عن شئ سمعته وأمرته بالإنفراد ونصحته في الله تعالى، فسبق قدر الله تعالى أنه لم يقبل، وشكى به إلى بعض الولاة من أعجل فضرب عنقه وفرق جمعه.
قلت: وفضلاء الفقراء لايسلكون هذا الطريق، ولا يتعبون في سد باب التحقيق، لأن المؤمنين إخوة في الدين، ولا تقع المنافرة إلا من ضال جاهل، فإن الأصل البدار إلى الهداية بكتاب الله تعالى وسنه نبيه — والتعاون على ذلك على يد من شاء الله تعالى من الأشياخ المهديين المعلمين.
وما كانت طريقة الأشياخ إلا الحرص على مثل ذلك، كالشيخ أبى محمد صالح، رحمه الله، ونفع به- وأنه كان إذا جاءه الفقير عرفه بعيوب نفسه وأمره بالوحدة ودرجه في أوراده حتى يصير من أهل المجاهدة. وأنتفع كثير من الناس على يده
وبركته.
وشيخه أبو محمد عبد الرزاق الجزولي من كبار تلامذة الشيخ أبى مدين وقبره قرب الأسكندرية، وأما قبر الشيخ أبى محمد صالح فقد وقفت عليه بآسفي سنة ثلاث وستين وسبعمائة، ورأيت هنالك أحفاده.
وهذا البلد آخر المعمور في الأرض من الجانب الغربي ويرده أهل الله تعالى.
[الشيخ أبو العباس أحمد بن يوسف]
ورأيت هنالك من الأخيار كثيرًا. وأكبر الحفداء حينئذ سنًا وقدرًا: الشيخ
الصالح المسن الحاج الشهير المعظم أبو العباس أحمد بن يوسف. له معرفة لسلفي وقال: صليت الجمعة بقصبة قسنطينة خلف جدك وأخبرني الثقة أن له ثماني عشرة حجة وأما هو فكان يكتم ذلك. قدمت عليه يومًا في وقت تعذر عليه فيه الطعام، فدعا بعسل مفصى وحلة بالماء وسقاه لي بيده المباركة. بيني وبينه مواصلة ربانية من كل وجهٍ، وكانت له أوراد لا يفارقها بوجه وكأنها في وقتها كالخمس في وقتنا. وكان يتحدث بالأمور المستقبلة في أحوال السلاطين ويقع ما يتحدث به، وكانت له منزلة علية عند الأمراء والأخيار.
زلم يذكر التادلي([27]) أبا محمد صالح ذكر استيفاءً، وإنما أشار إليه في بعض المواضع من كتابه، فمنها في أوله حيث قال: وقد شرعت في تصنيف هذا الكتاب في شهر شعبان سنة سبع عشرة وستمائة، ولم أذكر فيه أحدًا من الأحياء. قال: وأكبر من في وقتنا هذا حي: الشيخ صالح الوفي أبو محمد صالح بن ينصارن ابن غفيان الدكالي ثم الماجري نزيل رباط آسفي. قال: وهو إلى الآن لايفتر عن الإجتهاد والمحافظة على المواصلة والأوراد.
قال: ومن كلامه: الفقير ليس له نهاية إلا الموت.
قال: وحدثني عنه تلامذته بعجائب الكرامات([28]) وذكره أيضًا حين عرف بأبى إبراهيم أوادار([29]) ، نفع الله به. قال هنالك: وأبو محمد صالح مازال يزوره وذكره أيضًا حين ذكر عبد الرازق الجزولي قال: وهو شيخ العبد الصالح أبى محمد صالح وهو حي([30]) الآن.
قلت: أخبرني غير واحد أن الشيخ أبا محمد الح لقى الشيخ أبا مدين رحمه الله وأخذ عنه. وهذا والله أعلم صحيح لأنه كان معاصرًا معه وملازمته للخير قديمة أو يكون أخذه عنه بالواسطة في الابتداء.
ودلني على صحبته له أن الفقيه القاضي الشهير أبا العباس أحمد بن أحمد الغبريني البجائي ذكر في كتابه: عنوان الدراية أنه أخذ علم التصوف عن الشيخ الفقيه الصالح الولي أبى عبد الله محمد بن أبى القاسم([31]) السجلماسي عن الشيخ أبى محمد صالح عن أبى مدين بسنده. وتوفى الغبريني آخر سنة أربع وسبعمائة. قال الغبريني
-رحمه الله- : أخبرني ابن أبى القاسم هذا أنه خدم الشيخ أبا محمد بالمغرب مدة، منها أربعة أعوام، على صفة المحرم- قال: وإزاري في وسطي وشملتي على كتفي، وكان إمامًا في التوحيد، وقبره بقلعة بني حماد([32]) مزور.
ووقفت أنا بأسفي عند بعض أحفاد الشيخ أبى محمد صالح على كتاب مجموع فيه(المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى)، وبداية الهداية، والرسالة القشيرية بشرحها، وعقيدة الجبرانية، وفرائض الصلاة للصقلي. كل ذلك بخط الشيخ أبى محمد صالح.
وكان الفراغ من ذلك على يد العبد الضعيف -الفقير إلى رحمة ربه- أبى محمد صالح بن ينارن بن غفيان بن الحاج يحيى بن يلاخت، عشية يوم الأثنين وهو
التاسع من شهر شعبان، عام أربعة وثمانين وخمسمائة. وعلى ظهر الكتاب ما نصه: اللهم ياحي! ياذا الجلال والإكرام أسألك بأسمائك الحسنى كلها، ما علمت منها وما لم أعلم، أن تغفر لي ذنوبي، وتحسن عوني على طاعتك وتيسر لي أسبابها؛ فإني لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًا وأنت العالم بذلك بجودك وكرمك يارب العالمين. وتحت ذلك بخطه –نفع الله به وبأمثاله بمنه وكرمه:
سيكون ما هو كائن في وقتهِ |
* | وأخو الجهالة متعب محزون |
فلعل ما يخشاه ليس بكائن |
* | ولعل ما يرجوه سوف يكون |
وفي تاريخ نسخه -رحمه الله- لهذا الكتاب كان الشيخ أبو مدين } ببلاد إفريقية، وبعده أستقر ببجاية.
(2)هو عبد الله بن شعيب أبى مدين بن مخلوف، أبو محمد، من بني أبى مسعود، من قبائل كتامة، كاتب فقيه من بيت علم وورع، كان من خاصة السلطان يوسف بن يعقوب المريني، توفى سنة 709هـ انظر الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى(2/48) والأعلام للزركلي (4/62).
(2)كذا في المخطوطة والمطبوعة، وقد ترجم المصنف لوالده رحمه الله في شرف الطالب فلم يذكر هذه الزيادة في اسم والده، انظر موسوعة أعلام المغرب (2/653).
(1)هو أبو علي الحسن بن الحسين البجائي وليس اللجائي، الفقيه العالم المحقق العمدة أخذ عن الناصر المشذالي، وغيره، له شرح على المعالم الدينية توفى سنة 754هـ، انظر موسوعة أعلام المغرب (2/660).
وشجرة النور الزكية (1/232).
(1)هو عمربن علي بن مرشد بن علي الحمي، أبو حفص شرف الدين ابن الفارض، أشعر المتصوفين،ولد في بيت علم وورع، ولما شب اشتغل بفقه الشافعية، وأخذ الحديث عن الحفاظ ابن عساكر، وأخذ عنه الحافظ المنذري وغيره. له ديوان شعر، وتوفى سنة 632هـ انظر وفيات الأعيان (1/383)، وشذرات الذهب (5/149)، والأعلام للزركلي (5/56).
(1)هو: علي بن عبد الله النميري، أبو الحسن الششتري الأندلسي، من كبار الصوفية، نعته صاحب نفح الطيب بعروس الفقهاء، وكان يتبعه أربعمائة من المريدين يخدمونه ويأخذون عنه، توفى بقرب دمياط سنة 668هـ، له مصنفات منها: العروة الوثقى في بيان السنن وما يجب أن يفعله المسلم، والمقاليد الوجودية في أسرار الصوفية، وله شعر في غاية الانطباع والملاحة وقد طبع ديوان شعره، ولشيخنا العلامة المحدث السيد عبد العزيز الغماري -رحمه الله- شرح على بعض مقطعات شعره وقد نشر بعنوان (فتح القريب المجيب بشرح مقطعة بدأت بذكر الحبيب) انظر نفح الطيب (1/416)، والأعلام (4/305).
(1)هو: عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن سبعين، الفقيه الجليل العارف، من أهل مرسية بالأندلس، رحل إلى سبتة وجال في بلاد المغرب، ثم رحل المشرق، وحج واستوطن مكة فلازم البيت الحرام، وكان ملازمًا للحج والاعتمار في كل عام، توفى سنة 696هـ انظر عنوان الدراية ص237، نفح الطيب (2/395)، وشذرات الذهب (5/329).
(1)ولى قضاء تونس سنة 734هـ واستمر إلى أن توفى سنة 749هـ، وكان لا يرعي في الحق سلطانًا ولا أميرًا، له كتب منها: شرح جامع الأمهات لابن الحاجب، وديوان فتاوي. انظر الديباج ص336، شجرة النور (1/210) الأعلام للزركلي (6/205).
(1)ابن الحاجب هو: عثمان بن عمر بن أبى بكر بن يونس أبو عمرو، جمال الدين ابن الحاجب فقيه مالكي من كبار العلماء بالعربية، كردي الأصل، ولد في (إسنا) بعيد مر، ونشأ في القاهرة، وتوفى بالأسكندرية سنة 646هـ من تصانيفه: الكافيه في علم النحو، والشافية في علم الصرف، مختصر في الفقه، استخرجه من ستين كتابًا، ويسمى (جامع الأمهات)، ومنتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل. انظر وفيات الأعيان (1/314)، وآداب اللغة (3/53) والأعلام (4/211).
(1)الفقيه الصوفي المؤرخ، من تصانيفه: شرح مختصر ابن فارس في السيرة، والنفحات القدسية، راجع ترجمته في نيل الابتهاج ص108، تعريف الخلف (2/118)، معجم المؤلفين (3/270).
(1)هو: أحمد بن علي بن يوسف أبو العباس البوني ، متصوف مغربي الأصل، له اهتمام بعلم الحروف والخواص توفى بالقاهرة سنة 622هـ من مصنفاته: شمس المعارف الكبرى، ورسالة في شرح أسم الله الأعظم انظر جامع الكرامات (1/314) ، والأعلام للزركلي (1/174).
(2)ثعلب هو: أحمد بن يحيى بن زيد بن يسار الشيباني بالولاء، أبو العباس، الشهير بثعلب، إمام الكوفيين في النحو واللغة، وكان راوية للشعر، محدثا مشهورًا بالحفظ، توفى ببغداد سنة 291هـ، من كتبه: الفصيح، وقواعد الشعر، وإعراب القرآن، وشرح ديوان زهير. انظر تاريخ بغذاد (5/205)، وتذكرة الحفاظ (2/214)،
والأعلام للزركلي (1/267).
(1)أحد فقهاء المالكية، له شرح على رسالة أبى زيد، ولم يكمله، عمر مائة عام ولد سنة 631هـ وتوفى سنة 731هـ، انظر عنوان الدراية ص229.
(2)هو موسى بن عثمان أبى سعيد بن يغمراسن بن زيان أبو حمو، رابع سلاطين بني عبد الواد من آل زيان في تلمسان وبلاد المغرب وبلاد المغرب الأوسط، توفى سنة 718هـ. انظر دائرة المعارف الإسلامية(1/327) والأعلام للزركلي (7/325).
(1)لفظ الجمع والفرق يجري على ألسنة القوم كثيرًا، والجمع مأخوذ من جمع الهمة على الحق تعالى، والتفرقة مأخوذة من تفرقها في الكائنات مع الحق، والجامع والمفرق في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى. وأيضًا الفرق ما نسب إليك، والجمع ما سلب عنك.
=ومعناه: أن ما يكون كسبًا للعبد من إقامة وظائف العبودية، وما يليق بأحوال البشرية فهو فرق، وما يكون من قبل الحق من إبداء معان وابتداء لطف وإحسان فهو جمع. ولابد للعبد منهما فإن من لا تفرقة له لا عبودية له، ومن لا جمع له لا معرفة له.
فقول العبد:Íإياك نعبدÌ إثبات للتفرقة بإثبات العبودية، وقوله: Íإياك نستعينÌ طلب للجمع، فالتفرقة بداية الإرادة، والجمع نهايتها. انظر الرسالة القشيرية ص 59، والتعريفات للجرجاني ص 105.
(1)كذا في المطبوعة والمخطوطة ولعلها الخمر.
(1)الرزمة: ما جمع في شئ واحد، يقال رزمة ثياب، ورزمةورق، وهكذا. انظر لسان العرب (3/1638) والمعجم الوسيط (1/343).
(1)هو: أبو يعقوب يوسف بن يحيى التادلي، المعروف بابن الزيات، المتوفي سنة 627هـ، وهو صاحب كتاب التشوف إلى معرفة رجال التصوف.