ولقد حضرت مع جملة من هذه الطوائف مواطن عدة، منها زمان أجتماع فقراء المغرب الأقصى، على ساحل البحر المحيط، جوف أقليم دكالة بين بلد آسفى وبلد تيطنفطر – ومعنى هذا الأسم عين باردة – زمان قضائي بدكلة، وهى أرض مستوية طولها مسيرة أربعة أيام وكذلك عرضها، ووجدت فيها خمسة وعشرين مدرسًا، وبلغت أزواج حراثتها زمان ورودي عليها عشرة آلاف وبعض حيوان فيها من إنسان وغيره زائد على مثله في قدره، وليس بها نهر ولاعين إلا آبار طيبة. دخلها القاضي أبى بكر ابن العربي – رضى الله عنه- بعد رجوعه من العراق وعجب من قلة مائها وكثرة خيرها، وقال: رأيتها أنبتت ثاني يوم المطر!!
وكان الإجتماع في شهر ربيع الأول المبارك الأسعد الأنوار، سنة تسع وستين وسبعمائة، وحضر من لا يحصى عدده من الفضلاء، ولقيت هنالك من أخيارهم وعلمائهم وصلحائهم ما شردت به عيني بسبب كثرتهم.
ومما يدل على نهاية كثرتهم، أن بعض أصحابنا الدكاليين الراغبين في الدعاء اشترى لهم بثلاثين دينارًا ذهبًا عنبًا وحده من جنة رجل ولم يكفهم لكثرتهم، وسألت يومئذ عن قيمة العنب فقيل لي: قفة بدرهم كببير وهو ثاث الدرهم الجديد التونسي.
ووردت عليهم أصحاب العلل المزمنة كالمقعدين وغيرهم، ورأيتهم يتزاحمون في حِلقِ الذكر، والمريض يتضرع ويرغب في صلاح جسده كأنه يطلب قُوته، فيقوم من يأخذ بيد المريض ويصرفه وقد رجعت إليه صحته. ومنهم من يضربه بطرف كسائه فيقوم كأنه حل من عقال، ثم يختلط الرجل الذي يفعل ذلك بالقوم ولا يعرف شخصه. وهذا كنت أسمعه حتى رأيته والله عيانًا!! ورأيت ولدًا قريب الحلم سِيق إلى حلقة الذكر، وفي ركبتيه تشنج يابس جدًا رق عظمه منه، ولا يستطيع مد ساقيه معه، فقام إليه رجل رقيق أصفر اللون، فسمعت آخر خلفي يقول له: ليست هذه قوتك ينكر عليه مبادرته للقيام وكونه لم يترك ذلك لمن هو أفضل منه، فنظر إليه وسكت عنه، وأتى إلى الصبي، وأنا أرقبه ومسح بيده على ركبتيه، ومد له ساقيه فامتدا وخفف الله عنه، وفرح الولد وضحك لقوة سروره بصحته، إلا أنه لم يكمل برؤه، وصدق قول من عارضه، ولا أدري عاقبة الولد.
ورأيت في ذلك المجمع العظيم والمشهد الجسيم غرائب وعجائب لايرى مثلها أبدًا لتغيير الأحوال بعد ذلك.
[الشيخ أبو الحسن بن يونس الصنهاجي]
وهنالك لقيت الشيخ أبا الحسن بن يونس الصنهاجي من آيت محبوب. ولي فخر عظيم بلقائه واغتنامي لبركته ودعائه، وكان ضخم البدن جدًا ولاتكف له دمعة،إذا سمع آيه من كتاب الله -عز وجل- أو حديثًا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم بيتًا من شعر أو كلمة وفية، وضع كفيه على عينيه وأخذ في البكاء والزيادة فيه
حتى يخاف عليه، وقلت لبعض الفضلاء منهم: هذا الولي لايموت إلا بالبكاء! لما رأيت منه، وكان من عباد الله الصلحين وأعرف أهل صنهاجة بإقراء التلقين، وله تلامذة في الفقه وتلامذة في الفقر. وكان إذا حدث له البكاء تصيب أهل المجلس خشية عظيمة وتدمع عين كل واحد منهم.
حضرت معه ذلك غير ما مرة، وبت معه في جمع خاص من الفقراء والفضلاء على ساحل البحر المحيط ليلة، وكانت من الليالي الغريبة، ولو أخذت في وصف جزئياتها لطال كلام الكتاب لذلك، وكان إذا رآني وقف وضمني إلى دره ويجيل بيده المباركة على ظهري، ويبكي حتى يخاف عليه ولا يطلقني إلا بعد ساعة، وتصيبني أنا من مهابته وشدة حاله قشعريرة ، ويرى الحاضرون أنه حصل لي حظ عظيم بذلك، وبكى مرة بكاء شديدًا لمنشدٍ قال:
احفظ خليلك لا تبغى به بدلًا |
* | لابارك الله فيمن خان أو غدرا |
إن الخيانة لا تخفى وإن كتمت |
* | كذلك الحب لا يخفى وإن سترا |
وقصد بعد هذا التاريخ زيارة امراة متعبدة ضريرة -أي لا تصبر- فجلس في فم الغار الذي كانت منقطعة فيه، فسلم عليها ورحبت به، ثم كلمته بكلام شهق منه شهقة واحدة فمات، فقالت المرأة: أركاز([1]) للرجل الذي يخدمه، وكان واقفًا مع فرسه، فقال لها: نعم فقالت له: أرفع عني صاحبك، فإنه مات فجاء وجذبه وحمله على الفرس وسار به إلى منزله وشاع هذا بالمغرب، وتعجب منه كل من سمعه وتشوقت الخواص إلى سبب الموت، ووقع البحث عن ذلك، فأقرب ما قيل إنها كلمته في أمر نبوي كشف له ببركاتها عنه فمات عند معاينته -نفع الله به وبها. وأعاد علينا من بركاته.
فهذه عمدة الطوائف الكائنة بالمغرب الأقى، وثم تلامذة ملحقة وخواص محققة، وأفراد من الناس على سنن المتقين، ومنهم عباد الله المحققون، ورأيت منهم أعدادًا وعرفت من أعيانهم أجوادًا.
[الشيخ أبو الحجاج يوسف بن عمر]
وأول من رأيت منهم الشيخ الصالح العالم المحقق العابد: أبو الحجاج([2]) يوسف بن عمر إمام جامع القرويين بفاس ويحيى فيه ما بين العشاءين أبدًا قائمًا. وله أوراد مقدرة، ومجالس لقراءة العلم والتصوف. وتوفى وقد بلغ من السن مائة، في سنة إحدى وستين وسبعمائة، وصلى عليه بعقب صلاة الجمعة وحمل ولم يبلغ إلى قبره من كثرة الزحام إلا بعد غروب الشمس. ووقف موقفه ولده الشاب الصالح العام الولي أبو ربيع سليمان([3])، ولي به معرفة وأخوة من مجالس العلم، وكان من كبار الصالحين، ومن أهل الكرامات، وفر من الإمامة وانقطع لنفسه، وأخذ عليه في ذلك كثير من أصحابه، وكنت أنا ممن أخذ عليه ورأيته فر من طاعة، فبينما أنا أتكلم على ذلك مع بعض أصحابنا، وإذا برجل من الطلبة أقبل وبيده كتاب فقلت له: أقبل به، ما هذا؟ قال: الطالع السعيد في تاريخ السلطان أبى سعيد فأخذته، فأول وقوعي على سنةٍ، فقال فيها: وفي هذه السنة تاب فصلان لرجل سماه من إمامة جامع القرويين - قال: والسبب في ذلك أن رجلًا ممن صلى خلفه قال له: سمعتك نونت الميم من السلام عليكم فقال له: إنما قلت: السلام عليكم بضمة واحدة على الميم، وأشهدكم أني تائب من هذه الإمامة، فقال له الشيخ الولي الشهير أبو محمد الفشتالي([4]) -نفع الله به: شرفتنا شرفك الله!
فاستغفرت الله تعالى من أخذى عليه، وظهر لي أن هذه كرامة له.
وقصد السلطان عبد العزيز ابن السلطان أبى الحسن المريني زيارة أبى الربيع سليمان هذا، فجلس في جامع القرويين بعد صلاة الجمعة، وكلف قاضي الحماعة أبا محمد الأوربي أن يجمعه به، فقام باحثًا عنه فلم يوافقه على ذلك، فجاءه برجل آخر من الصالحي، أسمه سليمان على أسمه يعرف بسليمان ذي العيون، وهو من الأخيار، فقال له وزيره: ما بهذا كلفت! فقال له القاضي هذا مبارك ومن أشياخه وفصل به المجلس، وغدت للقاضي سياسة حسنة، وطلبه السلطان مرة أخرى فكتب له براءة قنع بها السلطان عن رؤيته.
وقلت لبعض أصحابنا هلا رأى السلطان؟ ففي رؤيته له تفريج كرب فقال لي: والله لا رأيته أبدًا.
وكانت له البركة التامة في إنقطاعه للعلم والعبادة، ولا رأيت أحسن قراءة ولا أسرع منه فيها لحديث النبي صلى الله عليه وسلم وتوفى على أحسن حال وأبلغ منال وأحمد سيررة، سنة تسع وتسعين وسبعمائه، وسنة يقرب من أربعين سنة -نفع الله به.
[الشيخ محمد المشنزائي]
ورأيت منهم فاس -وهو حي الآن- الشيخ الصالح الزاهد أبا عبد الله محمد المشنزائي من أرض دكالة، وهو من الزاهدين في الدنيا ومن الأخيار عباد الله الصالحين، ويغلب على ظني أنه يحفظ (إحياء علوم الدين) لكثرة ذكره لمسائله ويسحر الناس بحلاوة لسانه في تذكريره، ويحملهم على التدريج والخروج من الدنيا فيمتثل أكثرهم أمره.
ورأيت لباسه تليسًا، ولا يجلس إلا على الأرض بغير حائل ولا يتوسد إلا الحجر.
وما رأيت في بيته زيادة في أوراق من الكتب .
ونقرت يومًا عليه الباب وكان في ركن بيته مع جمع من الفقراء فرفع صوته وقال: أدخل ياأبا العباس! فدخلت وعجب الحاضرون من ذلك.
وأكثر أكله من المباح المطروح في الأرض من خبز وبقل، ولقى يومًا غلامًا أسود فقال له: من تكون؟ فقال: خديم لرجل سماه له. فقال وأين هو؟ فقال له: مات فقال له: أيخدم أحد من يموت ؟ فصاح الغلام وهداه الله على يده.
وجعل الصناع يذكرون الله على أشغالهم، وكان يقول لهم" ما يضركم أن تحركوا ألسنتكم بالتسبيح في أشغالكم.
ولي معه -نفعنى الله به- مجالس وغرائب، وكان يوادعني إذا سافر، ويكتب لي في مغيبه.
ولقيته يومًا في وسط باب السلسلة من مدينة فاس، فوقف معي يسألني عن حالي ثم ألتفت إلى فوالٍ فطلب منه الفول، فأعطاه كفًا منه فقال لي: ((بسم الله)) فتراخيت واستربت ممن يحضر، فعزم علي في ذلك، فقهرت نفسي وأكلت معه في كفه الأيسر حبة بعد حبة في وسط السوق، ولم ينظر إلى أحد بقدرة الله تعالى، ولم يحضر من يتحدث عني ذلك، فلما فرغنا منه سره ذلك مني فقبلبي في رأسي ودعا لي وأنصرف.
ودخل عنده يومًا قاضي الجماعة بفاس يزوره، فقدم إليه يسير طعام عليه إدام، فأكل القاضي معه لقمات، ورفع يده ينظر ما يمسحها به، فقال له: أراك تجل ذلك الحرام الذي عليك أن تمسح فيه!؟ فبادر القاضي ومسح في ظاهر ثوبه من جهة صدره.
وقيل لي: إن السلطان قصد زيارته فوقف إليه وفتح يسير من الباب وقال له: مالك عندي أنصرف بالعافية! ودخل الباب وغلقه دونه وهو الآن -نفع الله به- يتردد من جزيرة الأندلس إلى أحواز فاس، وسبتة، وأكثر لبثه في الرباطات –أبقى الله بركاته بمنه.
[الشيخ أبو عبد الله محمد الجناتي]
ورأيت منهم بفاس -وهو حي الآن بها- ولي الله الفقيه الزاهد الورع أبا عبد الله محمد الجناتي، من أهل العلم والصلاح والزهد والورع والفلاح. وكان يبرني كثيرًا ويدعو لي، ولباسه فيما رأيت إما عباءة من تليس أو جبة من صوف، ولايغطي رأسه إلا في زمان البرد، وكان دائمًا يطالع (إحياء علوم الدين) وما كان فيه سير الصالحين. وإذا سمع موعظة يصيح صيحة يبقى لها أثر في الهواء، وما رأيته ضاحكًا قط، وما رأيته رافعًا بصره في طريق قط.
رافقته بالمغرب ثمانية عشر عامًا، لم تختلف علي في هذه المدة حالته بوجه، وكان عيشه من ضفر يضفره من العزف، وكان في بعض الأوقات يجلس قبالة باب دار السلطان يتأمل في الداخل والخارج ولا أدري له قصدًا في ذلك سوى التفكر والأعتبار. ولا يقبل من أحدٍ ًا إلا ممن يعرفه بعلمٍ أو صلاحٍ.
وكان إذا أراد أن يتنفل بعد صلاة الجمعة يخرج من باب من أبواب الجامع ويدخل من آخر ويتنفل. فكان يبادر إلى خدمة الغريب المريض وييسعى في أمره.
وكان الصلحاء يعظمونه، والفقهاء يبرونه، والعامة ترمقه وتشير إليه، وهو الآن على أكمل حال -نفع الله به-.
[الشيخ أبو الحسن علي اللجائي]
ورأيت منهم بفاس الشيخ الصالح أبا الحسن علي اللجائي، ولي به معرفة ويعتقدني ويسأل عن حالي كثيرًا، وهو ألين الفقهاء وأعذبهم كلامًا، إذا جلست معه لاتريد أن تفارقه.
وله سعي في حوائج المسلمين، وتفريق الصادقات على الفقراء والمساكين. وكان يأخذ في إيصال الحقوق ونصر المظلوم، ويدعى إليه الغريم كما يدعى إلى الحاكم ولا يختلف بوجه، والعلماء ينتابونه وكان يجري على المحتاجين منهم المرتبة اليومية. قلت لبعض الصالحين: من أين عيشك؟ فقال لي: من نفقة أجراها علي اللجائي: يأتي بها في عيشة كل يوم وكذلك كان مع غيره، ويوفي بما يلتزم في ذلك وييسر الله له في قده، ومازل يعين من أحتاج منهم إلى التزويج. وصناعته الخياطة، وكان كثيرًا ما يحبس الإحياء، ولباسه جبه صوف أبيض إلى أنصاف ساقيه. وله مجاهدة وعبادة، وإذا رأيته تعرفه بسمته، وكان يمشي بعض الأوقات حافيًا في الطين في حوائج الناس، أو في تغيير منكر، ويدخل مجالس الأمراء بحالته، فإذا قضى حاجته غسل رجليه وأنتعل، وكان محسودًا فيما سناه الله له من طاعة الأمراء له، وخضوع الوزراء، مقولًا فيه كثيرًا بسبب ذلك -ضاعف الله أجره ونفع به.
[الشيخ أبو علي الرجراجي]
ورأيت منهم بفاس -وهو حي الآن-الشيخ الصالح العام أبا علي الرجراجي([5]) من أولياء الله تعالى وصدور العلماء. وشهرته بالصلاح أكثر من شهرته بالعلم.
ولازمته وقرأت عليه كتاب الحوفي([6]) في الفرائض.
وحضرت معه مجالس العلم وأنتفعت به كثيرًا، وكنت أقصده في بيان ما يعسر على فهمه، فإذا وجدته بالجامع الأعظم وقصدته بالسؤال يحبسني بيده حتى يجلسني مع السارية، ويجلس هو بين يدي كأنه هو السائل وذلك من تواضعه واحتفائه.
وتبعني يومًا بعض أصحابنا الطلبة فقال لي: ما الذي يقرأ عليك سيدي عمر؟ لما رأى من هيبته في جلسته -نفع الله به – وكنت إذا راجعته في مسألة علمية يسكت عني حتى يطلعني على ما قال هو في كتاب من الكتب، ويبسطه بين يدي ويشير إلى المحل بأصبعه من غير أن يقول لي شيئًا. ورأيته من ورعه وتحفزه أنه لا يحبس الكتب التي تنسب إلى قوم وليست هى لهم كشرح الرسالة المنسوب للجزولي وشبه ذلك.
وكان في أكثر أوقاته يخلو بنفسه، ولا يعرف أحد أين هو. ومازال يباشر جسده بتليس ويستره بجبة. وعيشه من حبك البرانيس في بعض الأوقات، وغلة دويرة ورثها من أبيه. وأكثر طعامه مايشترى من أولاد (الكوشة) وقال لي: ليس لي عادة في غذاء أو عشاء وإنما إذا احتجت أكلت من غير توقيت.
وكان هو القارئ في مجلس شيخنا الفقيه العالم الصالح المفتي بفاس أبى محمد عبد الله الونغيلي([7]) الضرير من تلامذة أبى الربيع اللجائي الذي قرأ على القرافي. وقد انفرد الونغيلي بفهم كتاب ابن الحاجب في الفروع والأصول، وعليه ختمت الأصلين بفاس بمدرسة الوادي –-نفع الله به-.
وكان الرجراجي أيضًا يحضر معنا مجلس شيخنا الفقيه الحافظ الصالح المفتي الحاج أبى العباس أحمد بن القباب في الحديث والفقه وأصول الدين. وكانت وفاة هذين الشيخين -رحمهما الله ونفع بهما- عام تسعة وسبعين وسبعمائة.
وسرق لي يومًا قدماي([8]) في صلاة العصر في المسجد الذي يقع فيه حضورنا عند ابن قباب، فسكت وانعقد المجلس، وجلست وفي نفسي منه شيئ، ولم أعلم بذلك أحدًا، فجاء الرجراجي على عادته للحضور وجلس بجنبي ساعة، ثم خرج عنا خلاف عادته، وجاء بقبقابً([9]) وقدمه محتفيًا وقال: أمش بهذا، وطيب نفسك على من أخذ قدميك فقبلته وعجبت من ذلك، نفع الله به.
وكنت إذا عسر على أمر دنيوي قدته فيه وأقول: أريد كذا وكذا فيسكت وتدمع عيناه ثم يقول لي: نعم يكون إن شاء الله فييسر الله عز وجل علي في ذلك. ومازلت أفعله معه.
وقدم للخطابة بالجامع الأعظم من عدوة الأندلس بفاس، فخطب بها بعض جمعة من غير أن يغير ثوبه ثم فر من ذلك.
وهو لا يرد زيارة السلطان له، ويجلس معه ويحضه على الخير وعلى رعي من يستند إلى الله تعالى وإن كان كاذبًا. ويمتثل السلطان ما يأمره به من أفعال البر.
وسعى في هذا الزمان في تغيير المنكر بنفسه([10])، وأقام الحد على من يرى أنه لا يحسن عليه بذلك وظهر في ذلك ظهورًا تامًا، ويسر الله له في هذه المطالب وأعانة العامة والخاصة بحيث لو قال: هذا اقتلوه! لقتل قبل تمام الكلام.
وتفقد أمر القضاء وأصحاب الأحباس وغير على من لم يصلح، وصارت الخاصة والعامة تحت طاعته، لا بالتزام أمرٍ ولا مخالفة شر، وإنما خاف الله تعالى فخاف منه كل شيئ. ومازال يتفقدني بالسؤال ويبعث لي بالدعاء والسلام، أبقى الله بركته وضاعف في أهل الدين حرمته بمنه وكرمه.
[الشيخ أبو عبد الله الرندي]
ورأيت منهم بفاس الخطيب الشهير الصالح الكبير أبا عبد الله محمد إبراهيم بن عباد الرندي([11]) وكان والده من الخطباء الفصحاء النجباء. ولأبى عبد الله هذا عقل وسكون، وزهد بالصلاح مقرون، وكان يحضر معنا مجلس شيخنا الفقيه أبى عمران موسى العبدوسي([12]) -رحمه الله- وهو من كبار أصحاب ابن عاشر -رحمه الله- ومن خيار تلامذته، وله كلام عجيب في التصوف، وصنف فيه مما هو الآن يقرأ على الناس مع كتب التذكير، وله في ذلك قلم انفرد به وسلم له فيه بسببه. ومن تصانيفه العجيبة: شرح كتاب الحكم لابن عطاء الله في سفرٍ رأيته، وعلى ظهر نسخة منه مكتوب:
لايبلغ المرء في أوطانه شرفًا |
* | حتى يكيل تراب الأرض بالقدم |
ومن كلامه فيه:
[الاستئناس بالناس من علامة الإفلاس، وفتح باب الأنس بالله تعالى الاستيحاش من الناس].
ومن كلامه فيه:[من لازم الكون وبقى معه وقصر همته عليه ولم تنفتح له طريق الغيوب الملكوتية ولا خلص بسيره إلى فضاء مشاهدة الوحدانية فهو مسجون بمحيطاته، ومحصور في هيكل ذاته].إلى غير ذلك من كلامه.
وهو لايرد زيارة السلطان له، ويحضر السماع ليلة المولد عنده، وما رأيته قط في غير مجلس جالسًا مع أحد، وإنما حظ من يراه الوقوف معه خاصة.
وكنت إذا طلبته بالدعاء أحمر وجهه واستحيا كثيرًا ثم يدعو لي، وأكثر تمتعه من الدنيا بالطيب والبخور الكثير، ويتولى أمر خدمته بنفسه، ولم يتزوج ولم يملك أمة. ولباسه في داره مرقعة، فإذا خرج سترها بثوب أخضر أو أبيض، وله تلامذة كلهم مباركون، وبلغني عن بعضهم أنه تصدق حين تاب على يده بعشرة آلاف دينارٍ ذهبًا، وهو الآن إمام جامع القرويين بفاس وخطيبه، وأكثر قراءته في صلاة الجمعة:﴿ إِذَا جَاءَ نَصرُ اللهِ وَالفَتْحُ﴾([13]) [النَّصر:1] وأكثر خطبته وعظ، ومن يعظ الناس لأنه أتعظ في نفسه، وقد أوحى الله إلى عيسى —: ياعيسى، عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس، وإلا فاستحِ مني([14]). ذكره الغزالي.
وعهدي به أنه على صفة البُدلاء الصديقين النُبلاء ، أكثر الله مثله في الإسلام بجاه النبي —.
[الشيخة مؤمنة التلمسانية]
ورأيت منهم بفاس: المرأة الصالحة مؤمنة التلمسانية. وتبركت بها كثيرًا وما زالت على ما تقرر عندي، تخصني بالدعاء في ظهر الغيب.
وكان قاضي الجماعة بفاس أبو عبد الله المقري([15]) -رحمه الله- يزورها ويسعى في قضاء حوائجها.
وكانت على زُهدٍ وتقشف وعبادة وورع، وكان قُوتُها في العام من غزل يديها من نصف وسقٍ شرعي من الزرع، وهو ثُمنه ونصف بالكيل الجديد ببلدنا. ولا تقبل من أحدٍ شيئًا. ومازالت تقيم بدارنا أيامًا متوالية، لا تأكل شيئًا. وكانت تقيم عندنا الشهر ونحوه علي يسير من قُوتها وما أكلت طعامًا لنا قط، وهذه عادتها مع غيرنا.
وكان الشيخ الصالح أبو الحسن علي بن عبد الوهاب المعلم لكتاب الله تعالى هو الذي يكتب لها لوحها ويبادر بت. وكانت تنقطع عن مخالطة الناس في رجب وشعبان ورمضان،ولاتُساكن أحدًا، ولا يراها في زمن انقطاعها أحد من الناس ولاتكلمه، وإذا احتاجت إلى شئٍ كالزيت تضع البطة([16]) عند الباب والدراهم بإزائها فيبادر إليها به. وكذلك غيره.
وقصدتها في بعض أشهر انقطاعها، فوقفت إلي وكلمتني، ومنعتني من الدخول وقالت لي: لولا مكانتك وما فعلته مع غيرك.
وأراد سيد الشرفاء وجليس الأمراء الفقيه العالم العلم الدر الشيخ الشهير أبو القاسم الشريف([17]) التلمساني زيارتها فأبت وقالت: يعظم على أن يقصدني شريف وأيضًا هو ممن يوالي أهل الدنيا وسألتها مرة عما تكلف به، فقالت لي: حسكة أخلل بها أسناني فأنصرفت ووجدت في طريقي حِملًا من الحسكِ بإزاء كوشة. ففرحت بتيسيره واخذتُ منه نحو الثلاث ورجعت إليها فقالت لي: من أين هذا؟ فأعلمتها فقالت لي: وهلًا استأذنت صاحبها؟ ردها إليه! فرجعت إلى احب الحسك وطلبته في أن يسمح، فسمح وقال لي لاحظ لهذا فرجعت إليها وأعلمتها فقالت لي: ما كان فيه هذا لا حاجة لي به، سر في حفظ الله تعالى فأنصرفت وعلمت أن قصدها أن تطلعني على آداب دقيقة وتنبهني على ما أنتفع به.
ورفعتُ إليها مرة كعيكاتٍ ورغبتها في القبول فقبلت ذلك مني، فكنت بعد ذلك إذا زرتها تقدم لي كعكًا ولا أدري من أين هو، فقدمت إلي يومًا واحدة من الكعك وتبسمت وقالت لي: هذا آخر كعيكاتك ولا أكلت إلا متاعك وكأنها تحذرني من مثل ذلك -نفعنا الله بها.
ورأيتها مرة عليها جبة صوف، وعلى رأسها طرف من تليس معقود تحت ذقنها وشيب رأسها ظاهر على جبهتها، ولوحها فيه من سورة البقرة بيدها. قالت لي: كيف يكون حالي يا والدي بين يدى ربي؟ وأخذت في البكاء. وكانت تقول: أريد أن أموت بعباد تلمسان وتكرر ذلك. فلما قربت منيتها يسر الله لها في السفر إلى تلميسان. فسافرت وتوفيت بها بعد وصولها إليها بأيام -رحمها الله ونفع بها.
[شيخ من المصامدة]
ورأيت منهم شيخًا صالحًا من المصامدة لا يألف إلى إنسان ولا إلى مكان، وما رأيت أنور من أطراف بنه لكثرة الوضوئ، وعليه مرقعة وبيده ركوة([18]).
جلست معه وسألته مختبرًا عن مسألةٍ في الوضوء، فقال: تختبرني؟ فاستغفرت الله تعالى واعتذرت له حتى طابت نفسه.
وتمتعتُ به يومًا في منزلٍ من منازل البادية، وجلست معه بعد صلاة المغرب ذلك اليوم خارج مسجد المنزل، ومعنا إمام المسجد وبعض أهل الدار، فقال لهم: كيف أنتم؟ قالوا له: بخير ياسيدي إذا أمطرنا الله تعالى وكان ذلك في أبريل. فقال: اللهم أمطرنا الليلة. الليلة. الليلة. ولم تكن علامة البتة. وافترق الناس. فلما كان -والله الذي لا إله إلا هو - آخر الليل أنزل الله المطر الكثير. فخرجت بعد الصبح متعجبا، وسألت إمام المسجد عنه فقال لي: طلبته أنا قبلك فلم أجده -نفع الله به-
[شيخ مجهول]
ورأيت منهم شيخًا خارج مدينة سلا في مسجدٍ منقطع بموضوع يقال له: العلاني لا أذكر الآن أسمه، ويغلب على ظني أنه من بلاد (حاحة)، وكنت أسمع عنه أنه يتحدث بما يحدث من أحوال الدنيا. والسبب في لقائه إني قدمت على مدينة سلا في هذا اليوم ولي معرفة بواليها، فقلت لمن معي: إن أردتم الاتساع فنزولنا بدار الوالي أولى بنا. لكنه يعسر علي أن أقده، وتداولنا في هذا، ثم رأينا فرسانًا أقبلت متوجهة إلى طريقنا، فلما ولوا إلينا، وإذا به من تكلمنا عليه، فسلم علينا وشكرت الله تعالى، فقال لي: خرجت برسم إصراف كتاب إلى السلطان، فإن شئت أن تصحبني حتى أفرغ من هذا الكتاب؟ فرجعت معه فقال: أنزل أنت في ذلك المسجد فدخلت المسجد فوجدت هذا الشيخ وهو يقيس الظل لوقت الصلاة، فسلمت عليه وسألته عن أسمه ومن أين هو؟ فأعلمني، فوجدته الرجل الذي كنت أسمع عنه؛ فسررت بذلك وجددت السلام عليه وتمتعت بالحديث معه وبالتبرك به إلى آذان العصر.
وكان مما قال لي: خرجت من سلا فارًا من صاحبها؛ لأنه طلب لقائي فامتنعت من ذلك فقام وأذن العصر، ودخل صاحب سلا ومن معه برسم الصلاة، فصليت بالجميع لأن هذا المبارك طلب مني ذلك، ولى الوالي بجنبه وانفصل الناس بعد الصلاة وجلست معه ساعة وليس عنده [...]([19]) وآنية الوضوء. وسألته عما يتحدث به، وعرضت له أن غرضي في سماع شئ من هذا. فسمعت منه أمورًا مستقبلة وقعت كلها وقلت له: بفضلك بأي الوجوه تطلع على مثل هذا؟ فتبسم وقال لي: يا أخي من أصحابنا من يراه مكتوبًا في الهواء؟ [...]([20]) بلقائه. وسرنا إلى البلد فبعد مسافة وقع مني حديث في بعض ما سمعت منه مع والي سلا. فقال لي: من أين له هذا؟ فقلت له: من فلان فقال لي: وأين رأيته؟ فقلت له: هو الذي صلى العصر بجنبك فتأسف وقال: حجبني الله عنه، كل ما ذكر لك فإنه يقع لأنه من المشهورين في طريقيته -نفع الله به.
[شاب مجهول]
ورأيت بمدينة سلا شابًا في مسجد منقطع، عليه مرقعة، وهومستقبل إلى القبلة لا يكلم أحدًا ولا يحول وجهه عن القبلة، ولا أدري من أين عيشه ولا أرى وقتًا يريد الوضوء. وعجبت منه ولا جسرت أن أكلمه، وهذه المدينة مقر الصالحين.
[الشيخ أبو الحسن علي بن أيوب]
ورأيت منهم فيها عددًا كثيرًا، منهم: الخطيب الصالح الولي الشهير المعلم لكتاب الله تعالى ابا الحسن على بن أيوب. لجأ إليه وأنا عنده رجل يشكو بوجع في بطنه يصيح منه، فمسح بيده المباركة عليه وحرك شفتيه فذهب ألمه بقدرة الله تعالى وببركته.
[الشيخ أبو عبد العزيز الصنهاجي]
ورأيت بها الشيخ الصالح ابا عبد العزيز الصنهاجي . قد زيارته السلطان عبد العزيز المريني، وكاشفه بأشياء تعجب منه بسببها، وكان لا يرد له حاجة ألبته وذلك عظم التوسل به إليه.
[الشيخ القصار]
ورأيت بها الشيخ القصار -نفع الله به- وهو معدود في الأولياء.
[الشيخ ابن مصباح]
ورأيت فيها ولي الله تعالى الفقيه ابن مصباح أكراس. وكان من أقران ابن عاشر، وله عبادة وورع، وهو ابن خالة أبى ربيع سليمان الذي قدمتُ ذكره.
ومعنى أكراس : أن والده مصباح يقال إنه كان يحفظ كراسًا في يوم فلقب به وكان من كبار الفقهاء بالمغرب، واشتغل والده هذا بالعبادة بعد العلم، نفع الله به.
[ الحاج ابن عبد الغني]
ورأيت بها الحاج ابن عبد الغني -نفع الله به- وله زاوية بمقربة من الجامع الأعظم يأوى إليها الأخيار المنقطعون للعبادة، وهو واقف في خدمتهم -نفع الله به وبهم- ودخلت زاويته وأنزلني في بيت كتبه وناولني مفتاح خزانتها وتمتعت بدعائه ولقائه.
قد مرة وزير المغرب عمر بن عبد الله بن علي البياني في حاجة، فأبى أن يقضيها، وسمع من الوزير ما يكره بسببها. فخرج عنه وهو يقول: اللهم أرحنا منه وكرر ذلك وسمع دعاؤه فقتل الوزير بعد أيام. وتعجب الناس من ذلك.
وخرجت إلى ساحل البحر فوجدت على البحر أخيارًا، قوتهم من يد الحوت. وعلى الجملة فهذه المدينة أولى بالمريد بالمغرب من غيرها عمرها الله بالخير والبركة.
[رجل مجهول]
ورأيت منهم رجلًا مجهولًا ببلد (صفرو) من حوز مدينة فاس ، وسبب رؤيته أني دخلت جامع هذا البلد على عادتي في البحث على الفضلاء، وذلك في غير وقت الصلاة، فصلم أجد فيه أحدًا، ففتحت باب بيت غير في قبلته ودخلت إليه فوجدت فيه رجلًا نحيف البدن جدًا ، فسلمت عليه، فرد علي السلام، فسألته عن الحال فلم يجبني، فكررت عليه من أين ورد؟ فسكت عني فجلست أنظر إليه ساعة، وادركتني منه عبرة، ثم طلبته في الدعاء ولم أسمعه منه، ولا أدري هل دعا لي في نفسه أم لا؟ فخرجت وفي فسي منه شئ. وإذا بجماعة من الفقهاء الواردين، فسألوني من أين؟ فأخبرتهم وأعلمتهم بالرجل، فقال أحدهم: هذا مبارك أرجع معنا بفضلك إليه، فدخلنا على الرجل فما سمعوا منه إلا رد السلام فبكى أحدهم بين يديه، فنظر إليه وسكت عنه، فجلسنا ساعة كل واحد منا يذكر الله تعالى ثم خرجنا، فقلت: ولعل أن نعطي له شيئًا ما يستعين به فوافقوني على ذلك وأخرجنا دراهم كثيرة ورجعت أنا بها وأعلمته بذلك، فلم يكلمني، فوضعتها بجانبه وسلمت عليه وأنصرفت وسافرت عن البلد المذكور.
فلما قضينا سفرنا ورجعنا على طريقتنا إلى (صفرو) سألتُ عنه شيخ البلد فقال لي: غاب عنا وما علمنا أمر ذلك لرجل ولا سمعنا له كلامًا قط إلا رد السلام. وإذا قُرب له الطعام تارة يأكل منه اليسير وتاره يرده، وهو لا يعرف كل الناس ثم قال لنا: وهل رأيتموه؟ قلنا له: نعم قال لنا أنتم الذين أعطيتموه الدراهم؟ قلنا نعم قال: وجدنا دراهمكم بعد سفره مطروحة هنالك، وتراها وقفناها عند إمام الجامع حتى يرى ما يتصرف فيه فعلمنا حينئذٍ ولايته -نفع الله به-.
[الشيخ عبد الواحد الصنهاجي وزوجته]
ورأيت منهم بصنهاجة آزمور([21]) من بني تامدد الشيخ الصالح أبا محمد عبد الواحد الصنهاجي، ورزوجته الحرة الصالحة فاطمة. وتبركت بها وحلت لي الغنيمة التامة بدعائها، وأخبرني بعض([22]) صدور هذا الكتاب قال لي: خطرت علي صنهاجة في فصل العنب وأنا أسير بين كرمها وهم يجنون عنبها فقلت في نفسي: ما أبخلهم! هلا عرض علي أحد منهم! وسرت وإذا بشيخ ينادي: قف! فناولني عنقودًا عظيمًا فيه حب يقرب من (الليم) ([23]). فقال لي: خذ هذا ولا تنسىب صنهاجة إلى البخل فعجبت من ذلك!! وسألت عن الرجل فقيل لي: هذا الشيخ عبد الواحد وقال لي بعض الفقهاء: ما هو إلا ببركة زوجته ولما أردت لقاءها أستأذنته، فبعث معي من كلمها لي فوقفت وأسدلت عليها كساءً ورحبت بي وأخذت في أدعية عظيمة يقصر عنها من يسردها من كتاب. وتكاثر الناس علينا عند سماعها بخروجها إلي، كلهم يسمعون دعاءها. وخطرتُ على بئر في وسط الطريق بمقربة من دراهم فقيل لي: هذا البئر من حفر الشيخ عبد الواحد وزوجته وتسويتهما ولا ثالث معهما وخرجا عنه للمسلمين نفع الله بهما بمنه.
[الشيخة عزيزة السكسوية]
ورأيت منهم بالمغرب الأقصى في طرف (سكسوية) ([24]) من جبال درن بموضع يقال له القاهرة([25]):الحرة الصالحة عزيزة السكسوية، وتبركتُ بها وجلست معها وهى متوجهة في صلح بين فئتين عظيمتين، ولها أتباع من الرجال وأتباع من النساء. وكل طائفة اشتغلت بالمجاهدة والعبادة في جهة ما يخصها ويضرب لها قيطون([26]) بالوسط بمقربة من طائفة النساء ولا يتحرك أحد إلا عن أمرها، وإذا جلست للناس تُلقى عليها كساءً لا تترك فيها من أين تنظر إلى أحد، وهى فصيحة جدًا في أجوبتها وأوامرها ووعظها. ورأيت الناس يتزاحمون عليها، وما رأيت ألين من كلامها في السؤال عن الحال، ولها كرامات مشهور.
ركب إليها الرئيس الشهير صاحب مراكش عامر بن محمد الهنتاتي، وجلس معها كثيرًا وقال لي بعد أن أنفصل عنها: يا فقيه هذا هو العجب، تبادرني بالجواب عما يخطر في نفسي وما قدرت أن أراجعها في كل ما طلبت مني، وما رأيت أنفذ من حجتها فيما تحتج علي به في الذي نتوقف فيه، وكان عامر بن محمد بن محمد من الأذكياء الفصحاء الذين لا يقهرون بحجة، وهو من العظماء ورؤساء الدنيا الذين كلامهم في ذلك حجة، وكان في جيش صحيح يزيد على ستة آلاف، وأقام حركة بمال جزيل. وكان قادًا لحصار السكسوي في جبله ليدخل تحت طاعته فأمرته بالرجوع وألزمت له طاعة السكسوي. فرجع وجاءه كتابه بخدمته وطاعته. وأخبرني بعض الفضلاء أن لها في مقامات الصالحين حالًا عظيمًا نفع الله به.
[الشيخ عبد الله الصنهوجي]
ورأيت منهم الشيخ الصالح المبارك: أبا محمد عبد الله الصنهاجي، له مقام في الصالحين اكتسبه بخدمته وركونه إليهم وقيامه بحقهم.
سمعت من جملة الفضلاء حكاية سجنه الشهيرة، فلما قدمت عليه وقدم إلي الطعام حُبست عن الأكل وقلت له: ياسيدي تشوقني نفسي إلى سماع سجن ابن بطان لك؟
فقال: حدث بيني وبين ابن بطان والي صنهاجة أمر فثقفني عليه أحد عشر يومًا وأطلقني، فخرجت إلى زيارة الصالحين، فأول من رأيت منهم رجل منقطع قال لي عند إقبالي عليه: كم سجنك ابن بطان؟ فقلت له: أحد عشر يومًا: قال: أنا أسجنه إحدى عشرة سنة! فقال لي: والله مامرت أيام يسيرة حتى وصل كتاب السلطان أبى الحسن المريني بسجن ابن بطان، فسجن وما ترك حمية ولا رشوة إلا أخذ فيها ليخرج من سجنه. وكنت أقول لهم: حتى تتم المدة التي عينت لي قال لي: فما خرج من السجن إلا بعد إحدى عشرة سنة، وكانت هذه النكتة سبب حرمتي عند العمال.
ورأيت أنا ابن بطان هذا وهو في غاية التعظيم له والخوف منه.
وذكر لي أيضًا هذا المبارك أنه أخذ في حركته إلى الحجاز، قال لي: وكان في زاويتي فقير حقير تعرض إلى يومًا وقال لي: لا تتعب نفسك في الحركة وإنما تحرك في العام الثاني وفيه يولد لك ولد أسمه شعيب قال: فلم أقبل ذلك منه وتحركت فعاقني أمر ورجعت بسببه، وشرقت في العام الثاني وتركت الزوجة حاملًا، فلما رجعت وجدت في الدار ولدًا تزايد بعدي، فقلت لهم: ما أسمه؟ فقالوا لي: شعيب، ودعاه حينئذٍ وقال لي: هذا هو.
وأخبرني هذا الشيخ المبارك بكثير مما شاهده من ذلك -نفع الله به وبأمثاله.
وحدثني بعض أصحابنا الفقهاء: أنه كان عندي ولد مريض بالأسهال أعيى الأطباء أمره، قال: فدخلت إلى الدار فوجدت أمه متحسرة عليه وأمره في زيادة. فتغيرت في نفسي وقلت: ما لي إلا الغيبة ورفعت درهمًا في فمي وخرجت فلقيني رجل في زحام السوق فحبسني بيده وقال لي: أعطني ذلك الدرهم نشتري به النبق، فدفعته له ودهشت من مكاشفته حتى غاب عني، ثم قلت في نفسي النبق! والله طيب لصاحب هذه الشكاية. وكان ولدي لا يذوق شيئًا بوجهٍ إلا الماء خاصة، فاشتريت النبق وأطعمته له فقبله وأكله وكان سبب برئه.
[آداب الإخوان]
ولو استقصيت لك ما اطلعت عليه في هذه الجزئيات، لطال الكتاب لذلك، ولنقتصر على ما ذكرته ونختمه بالتنبيه على الأصل في تأليف الفقراء: وهو الإخاء في الله تعالى؛ ولولا هذا القصد لكان كل إنسان منهم لنفسه. لكن لما كانت الأخوة درجة عالية ومقامًا شريفًا وبها يظهر قوي الإيمان في التخلق والبر، واحتمال الأذى، وفاء المعاملة، وقبول العذر والتماسه، والصفح والإحسان إلى غير ذلك من السير الحسان حرص الفقهاء عليها.
وعلامة حصولها: نفي التمييز في المال وجميع الأحوال، ونفى الافتقار إلى الاستئذان، وشأن الأخوين أن يحزن كل منهما بحزن أخيه، ويفرح بفرح أخيه، وكل ذلك في طاعة الله سُبحانه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((في الجنة عمود من ياقوتة خضراء عليها غرف مبنية، لها أبواب مفتحة تضئ كما يضئ الكوكب الدري)) فقال أبو هريرة رضى الله عنه: ومن يسكنها يارسول الله؟ قال: المتحابون في الله، والمتجالسون في الله، والمتلاقون في الله([27]) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أكثروا من صحبة الصالحين فإن فيهم الشفعاء»([28]) فهذا هو الأصل في تأليف الفقراء.
وإياك أن تذم من ترى منهم فإن ذلك سبب لحرمانك.
تذم هذا وتذم هذا فيخفي عليك الأفضل، فإذا أحسنت ظنك بها ووقرت وأعتقدت هذا وقع بيدك الأكمل. والدين النصيحة، والمؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، وسلامة الصدور رأس العبادة وأساسها، والتخلق بالأخلاق الجميلة نجاحها، والتواضع عزها وجمالها؛ والتنافس في الظهور خللها وفسادها، والمبتدع ضال، والتفرغ لغير الله ضلال.
وقد ورد على سؤال من جهة بعض الطلبة مقتضاه: أن يسأل عن شهادة طائفة من الفقراء عينها بانتسابها إلى رجل. فأجبته بعد الحمد لله: من استقام بطريقة وثبتت عدالته، جازت شهادته من أي طائفة كان من الفقراء والله أعلم.
ولايظن ظان أني طولت هنا حتى خرجت عن الغرض الذي كنت قدته أولًا؛ فقد أحتوى هذا المحل على أشياء شأنها أن تُميل النفس إلى السؤال عنها مع الإشارة إلى آداب حسنة وسير قوم مستحسنة.
ولنرجع إلى ما كان قد جرى القلم عنه، والإعانة بالله -تعالى- ولله در القائل:
فيا ليت شعري أين أو كيف أو متى |
* | يُقدر مالا بُد أن سيكون |
(1)أحد علماء فاس، فقها، وعلمًا، وورعًا راجع ترجمته في نيل الابتهاج ص352، والروض العطر ص298 وشجرة النور (1/233).
(1)الناسك، الزاهد، والورع، الفذ المجتهد، كان من أكابر العلماء، وأفاضل الفقهاء وأعلام الزهاد الأتقياء، توفى سنة 779هـ، وسنه يقرب من أربعين سنة، انظر روض العطر ص300، شجرة النور (1/233).
(1)هو: عمر بن محمد الرجراجي، أبو علي الفاسي، توفى سنة 810هـ راجع ترجمته في نيل الابتهاج ص195، وشجرة النور (1/250).
(1)هو: الفقيه أبو القاسم أحمد بن محمد بن خلف الحوفي الإشبيلي ، توفى سنة 580هـ له كتاب الفرائض، اخترها محمد بن محمد بن عرفة التونسي المالكي المتوفي سنة 803هـ، انظر كشف الظنون(2/1246).
(1)هو الولي الكبير، والعارف الخطير، الإمام أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبد الله النفزي الشهير بابن عباد شارح الحكم، توفى سنة 792هـ انظر ترجمته في نفح الطيب (5/341) والروض العطر ص195، 204، وشجرة النور(1/238)، وسلوة الأنفاس (2/133).
(2)هو: موسى بن محمد بن معطي العبدوسي، أبو عمران الفاسي، عالم فاس ومفتيها، الإمام الحافظ العلامة، كان آية في معرفة المدونة، أقرأها نحوًا من أربعين سنة، وله مجلس لم يكن لغيره، يحضره الفقهاء والمدرسون والصلحاء، توفى سنة 776هـ انظر ترجمته في درة الحجال (3/5)، وشجرة النور (1/234).
(3)هو: محمد بن محمد بن أحمد القرشي، المعروف بالمقرئ قاضي الجماعو بفاس، الإمام المحقق القدوة، الفقيه الأولي، توفى سنة 756هـ. انظر ترجمته في الاستقصا (3/207)، وشجرة النور (1/232).
(1)البطة: إناء كالقارورة، وفي حديث عمربن عبد العزيز: أنه أتى بطة فيها زيت فصبه في السراج. انظر لسان العرب (1/301)، النهاية في غريب الحديث (1/135).
(2)هو محمد بن أحمد بن علي المعروف بالشريف التلمساني، الإمام العالم الفذ، كان مقربًا عند السلاطين، فقد أختاره السلطان أبو عنان لمجلسه العلمي ، ورحل بت إلى فاس، وقد زوجه السلطان أبو حمو موسى بن يوسف بن عبد الرحمن ابنته وبنى له مدرسة أقام يدرس فيها إلى أن توفى رحمه الله سنة 771هـ . انظر الوفيات لابن قنفذ 368، ومقدمة الفارسية في مبادئ الدولة الحفصية لابن قنفذ أيضًا، ونيل الابتهاج ص255-264.
(1)ويقال لها أيضًا سكساوة، وهى أسم قبيلة جنوب مراكش بالمغرب العربي، وبوسطها ضريح عزيزة السكسوية، التي كات تتمتع بنفوذٍ روحي عظيم على السكان خلال العصر المريني حتى كانت تُشد إليها الرحال. انظر كتاب المغرب للأستاذ الصديق بن العربي ص230.
(2)القاهرة: صحن بناه المرينيون في عهد أبى عنان المريني بجبال سكساوة بالأطلس الكبير، ومازال هذا الصحن معروفًا حتى اليوم، وكان من أهم القواعد الحربية في عهد بني مرين خلال القرن الثامن الهجري. انظر (كتاب المغرب) للأستاذ الصديق بن العربي ص215.
(1)لم أجد بهذا السياق فيما تحت يدي من كتب السنة المشرفة، ولكنه ورد من حديث معاذ بن جبل} قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: وجدت محبتي للمتحأبىن في، والمتجالسين في، والمتزاورين في، والمتباذلين في. أخرجه مالك في المؤطأ(2/945)، وأحمد في المسند(2/239) والحاكم في المستدرك (4/169) وقال صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي.
(2)لم أجد أيضًا، وقد أخرج الترمزي(2440) من حديث أبى سعيد الخدري رضى الله عنه بإسناد حسن مايفيد إثبات شفاعة غير النبي صلى الله عليه وسلم من الصالحين، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : «إن من أمتي يشفع للفئام -وهى الجماعة الكثيرة-، ومنهم يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للعصبة، ومنهم من يشفع للرجل حتى يدخلوا الجنة»