الفصل الثالث
اشتمل مجلس المولوية على الوعظِ والنصيحةِ للإخوانِ الفقراءِ وبقية الحاضرين من الناس، وذكر قصص الصالحينَ وأخبار الأنبياءِ والمرسلينَ بحسبِ ما ينساق إليه الكلامُ في ذلكَ المقامِ، ولا شَكَّ أنَّ هَذَا كُلَّهُ طاعة من أفضلِ الطاعات وقربة ظاهرة من أشرفِ القرباتِ، فمن حكم بالفسقِ على مَنْ حَضَرَ ذَاكَ فَهُوَ كَافِرٌ باللهِ تعالى، فإن قال كما قال أولًا: ما أردتُ حضورَ ذلكَ من حيث هو طاعةٌ. قلنا كما سبق من قولنا الأول في حصول السوءِ والمنكر في مجالس الوُعَّاظِ والمدرسين في المساجد والمدارس إن كانوا من المنصِفِين في الدِّينِ، ومع ذلك فلا نطعن في حضور مجالسهم ودروسهم بقصدِ الفائدة، ومن يعمَل سوءًا يجز به؛ فكذلك مجلس المولوية في وعظهم ونصائحهم. والقاعدة المشهورة أن المعاصي لا تمنع الطاعات؛ فلا نقول أن العاصي لا تصح صلاتُه ولا صيامه ونحو ذلك ومثله ما ذكروا في الحج بالمال الحرام أنه صحيحٌ ومثاب عليه وإن كان معاقبًا في الآخرة على المال الحرام، وهذا كله على تقدير كون السماع المولوي حرامًا اقترنَ بتلك الطاعة على زعمِ المتفقهة القاصر المذكور وسنذكر هذا السماع قريبًا إنْ شاء الله تعالى.
وتأمَّلْ يا أيُّهَا المنصف في صنيعِ العلماء الكامِلِينَ من الأوْلِيَاءِ { كيفَ أوردوا الوعظَ والعلومَ والحقائِقَ الإلَهِيَّة في صورِ الأشعار والقصائدِ الغزلية؛ لتتعشق بها النفوسُ البَشَرِيَّة فتصغي إلى سماعها بالأنغام والألحان الصناعية فتصل معانيها إلى أفهام السامعين وتؤثر فيهم بتوفيق الله تعالى ما ينفعهم في الدين، وقد قال الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي قدس الله سره في «شرح ترجمان الأشواق»: وكان سبب شرحي لهذه الأبيات أن الولد بدر الحبشي والولد إسماعيل ابن سودكين سألاني في ذلك وهو أنهما سمعا بعض الفقهاء بمدينة حلب ينكران هذا من الأسرار الربانية والتنزلات الإلهية، وأن الشيخ يتستر لكونه منسوبًا إلى الدِّين والصلاح فشرعت في شرح ذلك وقرأ عليَّ بعضَه القاضي ابن العديم بحضرة جماعة من الفقراء، فلما سمعه ذلك المنكر الذي أنكرَهُ تاب إلى الله سبحانه وتعالى ورجع عن الإنكار على الفقراء وما يأتون به في أقاويلِهِم من الغزلِ والتشبيبِ، ويقصدون بذلك أسرارًا إلهية؛ فاستخرت الله تعالى في هذه الأوراق وشرحت ما نظمته من الأبيات بمكة شرفها الله تعالى وعظمها في حال اعتماري في رجب وشعبان ورمضان أشير بها إلى معارف ربانية، وأسرار روحانية، وعلوم عقلية، وتنبيهات شرعية، وجعلت العبارة عن ذلك بلسان الغزل والتشبيب؛ لتعشق النفوس بهذه العبارات فتتوفر الدواعي على الإصغاء إليها. انتهى كلامه.
وكذلك مجلس الوعظ والنصيحة للإخوان والحاضرين من أهل الإيمان إذا استجلبوا إلى ذلك بمباح تميلُ إليه النفوسُ من سماع وغيرِه، لتتوفر الدواعي إلى حصول النفع والفائدة في الدِّين فهو أمر مطلوب كما وجدنا كثيرًا من المدرسين يُعَيِّنُ للطلبة شيئًا من العلوفة، ويلين له الكلام، ويعظمه ويحترمه، ليحضر مجلس درسه وينتفع بذلك، ويتخذون لهم الضيافات أيضًا والمآكل النفيسة بهذا القصد، وليس للفقراء قدرة على ذلك؛ فأعدوا السماع إطعامًا للآذان كما نقل عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي أنه قال: «كان ابن أبي حفصة يتغدى عند أبي فإذا فرغ قال أطعموا آذاننا رحمكم الله»، ودخل الشعبي رحمه الله تعالى وليمة فأقبل على أهلها فقال: ما لكم كأنكم اجتمعتم على جنازة! أين الغناء والدف؟!.