فالتفويض هو ترك العبد اختياره لله تعالى في النفيس لداعية أمر ما من الأمور والتسليم ترك النزاع مع الاختيار جميعاً لله تعالى فبالتفويض ينقطع اختياره ظاهراً وبالتسليم تنحسم مادة الاختيار ظاهراً وباطناً وهذا هو الفرق بينهما وبين التوكل إن المتوكل إنما توكل في الأمر يدعى ملكيته فالمفوض يبرأ من تلك الدعوى لكن في نفسه من حيث الباطن وجود طلب أمر مخصوص لو وقع لكان هو الأولى عنده وذو التسليم برئ من ذلك كله أيضاً فهو قد ألقى الأمر وسلمه إلى من له الخلق والأمر فمنهم من تفويضه وتسليمه في أموره احتساب لله ناظراً إلى حسن ثوابه في الآخرة ومنهم من تفويضه وتسليمه لعلمه أن الأمر مفروغ منه فلا يقع النزاع وقد قال عليه السلام: (جفت الأقلام ورفعت الصحف) ومنهم من تفويضه وتسليمه لنظره إلى كبرياء الله تعالى فلا ينبغي للعبد أن ينازعه في ملكه ومنهم من تفويضه وتسليمه لله في المعصية والطاعة السواء فلو قدر عليه مثلاً بمعصية ما لسلم الأمر في ذلك وفى هذا المقام قيل:
وقائلة لا تشتكى (-----) من علوى ... وكن صابرا فيها على الضر والبلوى
فقلت دعينى ما دعت لي زينب إلى غير ... خذلاني طريقاً ولا مأوى
تصيبني منها ما تحققت فتحه ... ومن فتح ما حقيقة هذه للشكوى
يقول أنى أعلم أن الشكوى من المحبوب ... قبيحة ولكنني هو ذا فعلى
لأنه جعل ذلك من نصيبي ومن حظى منه فإنا مسلم له فيما أراد ولو أراد ما فيه هلاكي ومضرتي سلمت له ولولا تسليمي لما أتبت ما أتحقق أنه قبيح وفى مثل هذا المقام يقول الأمام سهل بن عبد الله التستري: (ما ثم إلا التسليم ولا وجه للقرار) يعنى ما يمكنك إلا أن تسلم الأمر له في مراده لأنه وكان من الله قدرا مقدوراً ولا وجه لك للقرار إن قدر عليك بمعصية فلا تسكن إليها بل ينبغي لك ولو سلمت أن ترجع إليه بالدعاء والابتهال ليرفع عنك ذلك فإنه لا ينبغي لك القرار على ما نهاك عنه ولو لم يمكن لك الفرار عما قدره عليك كما قيل:
ألقاه في أليم مكتوفاً وقال له ... إياك إياك أن تبتل آلماً
وهذه رتبة أطفال هذا الطريق والمبتدئين الذين لنفسهم (....) الله تعالى بأنواع الاختبارات حتى تصفى بواطنهم وتزكى نفوسهم وتنور ظواهرهم ثم يصطفيهم لقربه ويجمع لهم من حزبه لأن الأولياء المقربين محفوظين من أن يمر عليهم خاطر المعصية فكيف المعصية بل تصفو بالله عن كل ما يحجب عن الله (أولئك حزب الله) ومنهم من يكون تسليمه وتفويضه من حيث المقامات فلا يتشوفون إلى ما فوقهم حتى ينتقلوا من مقامهم وعندي أن هذا لا ينفع أن يتخذه السالك دأباً في سائر المقامات بل في بعضها دق بعضِ ومنهم من يكون تسليمه وتفويضه في ما يطلق الله عليه من أمور الكون فلا يتعرض لشفاعة في زوال بلية ولا يتصدى لكشف غمة وفى هذا المقام قال الجنيد للشبلي: (هذا ضيق وحرج) وقد كان الشبلي تنفس الصعداء فكأنه رضى الله عنه كشف له عن بلية نازلة بأهل الأرض فتنفس لذلك فقال له الجنيد ما قال.