التسليم وعدم التدبير([1])
قال الله -سبحانه وتعالى-: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾([2]).
وقال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾([3]).
وقال تعالى: ﴿أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (٢٤) فَللهِ الآَخِرَةُ وَالأُولَى﴾([4]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا»([5]).
وقال صلى الله عليه وسلم : «اعبد الله بالرضا، فإن لم تستطع ففي الصبر على ما تكره خير كثير».
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على ترك التدبير، ومنازعة المقادير، إما نصًّا صريحًا([6])، وإما إشارة وتلويحًا.
وقد قال أهل المعرفة: «من لم يُدبر دُبر له»، وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضى الله عنه: «إن كان ولا بد من التدبير، فدبروا ألَّا تدبروا»، وقال أيضًا: «لا تختر من أمرك شيئًا، واختر ألا تختار، وفِرَّ من ذلك المختار، ومن فرارك، ومن كل شيء إلى الله تعالى، وربك يخلق ما يشاء ويختار».
فقوله تعالى في الآية الأولى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ فيه دَلالة على أنَّ الإيمانَ الحقيقي لا يحصل إلا لمن حَكَّمَ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على نفسه، قولًا وفعلًا، وأخذًا وتركًا، وحبًّا وبغضًا، ويشمل ذلك حكم([7]) التكليف، وحكم التصريف([8]) والتسليم، والانقياد واجب على كل مؤمن في كليهما.
فأحكام التكليف: الأوامر والنواهي المتعلقة باكتساب العباد.
وأحكام التصريف: هو ما أورده عليك من قهر المراد.
فتبين من هذا أنَّه لا يحصل لك حقيقة الإيمان إلا بأمرين: بالامتثال لأمره، والاستسلام لقهره.
ثم إنَّه -سبحانه وتعالى- لم يكتفِ بنفي الإيمان عَمَّنْ لم يُحَكِّمْ، أو حَكَّمَ ووجد الحرج في نفسه (على ما قضى)([9]) حتى أقسم على ذلك بالربوبية الخاصة برسوله صلى الله عليه وسلم ؛ رأفة وعناية، وتخصيصًا ورعاية؛ لأنَّه لم يقل: «فلا والرب»، وإنَّما قال: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾([10]).
ففي ذلك تأكيد بالقسم، وتأكيد في المقسم عليه؛ علمًا منه سبحانه بما النفوس منطوية عليه من حب الغلبة، ووجود النصرة، سواء كان الحق عليها أو لها، وفي ذلك إظهار لعنايته برسوله صلى الله عليه وسلم؛ إذ جعل حكمه حكمه، وقضاءه قضاءه، فأوجب على العباد الاستسلام لحكمه والانقياد لأمره، ولم يقبل منهم الإيمان بإلهيته حتى يذعنوا لأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّه كما وصفه ربه
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾([11])؛ فحكمه حكم الله وقضاؤه قضاء الله، كما قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ﴾، وأكد ذلك بقوله: ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾([12]).
وفي الآية إشارة أخرى لعظيم ([13]) قدره، وتفخيم أمره صلى الله عليه وسلم ، وهي قوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ﴾، فأضاف نفسه تعالى إليه كما قال في الآية الأخرى: ﴿كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾([14])، فأضاف الحق سبحانه اسمه([15]) إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وأضاف زكريَّا إليه؛ ليعلم العباد فرق ما بين المنزلتين، وتفاوت ما بين الرتبتين.
ثم إنه تعالى لم يكتفِ بالتحكيم الظاهر فيكونوا به مؤمنين، بل اشترط فِقْدَانَ الحرج، وهو الضيق من نفوسهم في أحكامه([16]) صلى الله عليه وسلم ، سواء كان الحكم بما يوافق أهواءهم أو يخالفها.
وإنَّما تضيق النفوس لفقدان الأنوار ووجود الأغيار؛ فعنه([17]) يكون الحرج وهو الضيق، والمؤمنون ليسوا كذلك؛ إذ نور الإيمان ملأ قلوبهم، فاتسعت وانشرحت، فكانت واسعة بنور الواسع العليم، ممدودة بوجود فضله العظيم، مهيأة([18]) لواردات أحكامه، مفوضة إليه في نقضه وإبرامه.