فِقدان الحرج ووجود التسليم([1])
انعطاف: لنرجع الآن إلى الآية وهي قوله -سبحانه وتعالى-: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾([2]).
اعلم أن الأحوال ثلاثة: قبل التحكيم، وفيه، وبعده.
فأما قبل التحكيم: فعبوديتهم التحكيم.
وأما في الحكم وبعده فعبوديتهم: عدم وجدان الحرج في أمورهم.
فإن قلت: إنَّ ذلك لازم من قوله تعالى: ﴿حَتَّى يُحَكِّمُوكَ﴾، قيل: ليس كل من حكم فقد الحرج عنه؛ إذ قد يحكم ظاهرًا والكراهة عنده موجودة؛ فلا بد أن ينضم إلى التحكيم فقدان الحرج ووجود التسليم.
فإن قال القائل: إذا لم يجدوا الحرج فقد سلموا تسليمًا؛ فما فائدة الإتيان بقوله: ﴿وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ بعد نفي الحرج المسلتزم لقبول التسليم، الذي من([3]) صفته وجود التأكيد.
فالجواب عنه: أنَّ قوله تعالى:﴿وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾؛ أي: في جميع أمورهم.
فإن قلت: إنَّ ذلك لازم من قوله: ﴿حَتَّى يُحَكِّمُوكَ﴾.
فالجواب: أن التحكيم ما أطلقه بل قيده بقوله تعالى: ﴿فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾؛ فصارت الآية تتضمن ثلاثة أمور:
أحدها: التحكيم فيما اختلفوا فيه.
الثاني: عدم وجدان الحرج في التحكيم.
والثالث: وجود التسليم المطلق فيما شجر بينهم، وفيما نزل في أنفسهم؛ فهو عامٌّ بعد خاصٍّ؛ فافهم!.
الآية الثانية: وهي قوله تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾([4])، تتضمن فوائد:
الفائدة الأولى: قوله تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾، يتضمن ذلك الإلزام للعبد بترك التدبير مع الله؛ لأنه إذا كان يخلق ما يشاء؛ فهو يدبر ما يشاء فمن لا خلق له لا تدبير له: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾([5])، ويتضمن قوله: ﴿وَيَخْتَارُ﴾ انفراده بالاختيار، وأن أفعاله ليست على الإلجاء([6]) والاضطرار، بل هو على نعت الإرداة والاختيار، وفي ذلك إلزام للعبد بإسقاط التدبير والاختيار مع الله تعالى؛ إذ ما هو له لا ينبغي أن يكون لك.
وقوله: ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ﴾ يحتمل الوجهين:
أحدهما: لا ينبغي أن تكون الخيرة لهم، وأن يكونوا أولى بها منه سبحانه وتعالى.
وثانيهما: ما كان لهم الخيرة؛ أي: ما أعطيناهم ذلك، ولا جعلنا هم أولى بما هنالك.
وقوله: ﴿سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾([7])؛ أي: تنزيهًا لله أن يكون لهم الخيرة معه، وبينت الآية أَنَّ من ادعى الاختيار مع الله فهو مشرك مُدَّعٍ للربوبية بلسان حاله، وإن تَبَرَّأَ من ذلك بمقاله.
الآية الثالثة: وهي قوله تعالى: ﴿أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى(٢٤) فَللهِ الآَخِرَةُ وَالأُولَى﴾([8])، فيها دلالة على إسقاط التدبير مع الله بقوله: ﴿أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى﴾؛ (أي: لا يكون ولا ينبغي له لأنا ما جعلناه له) ([9])، وأَكَّدَ ذلك بقوله: ﴿فَللهِ الآَخِرَةُ وَالأُولَى﴾.
ففي ذلك أيضًا إلزام العبد ترك التدبير مع الله تعالى؛ أي: إذا كان لله الآخرة والأولى فليس فيهما للإنسان شيء؛ فلا ينبغي له التدبير في ملك غيره، وإنَّما ينبغي أن يدبر في الدارين من هو مالكهما وهو الله سبحانه وتعالى.
وقوله صلى الله عليه وسلم : «ذاق([10]) طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا...»، فيه دليل على أنَّ من لم يكن كذلك لا يجد حلاوة الإيمان، ولا يدرك مذاقه، وإنَّما يكون إيمانه صورة لا روح فيها وظاهرًا لا باطن له، ومرتسمًا لا حقيقة تحته.
وفيه إشارة إلى أنَّ القلوب السليمة من أمراض الغفلة والهوى، تتنعم بملذات المعاني كما تنعم النفوس بملذوذات الأطمعة، وإنما ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا؛ لأنَّه لما رضي بالله ربًّا استسلم له وانقاد لحكمه، وألقى قياده إليه خارجًا عن تدبيره واختياره إلى حسن تدبير الله واختياره؛ فوجد لذاذة العيش وراحة التفويض.
ولما رضي بالله ربًّا كان له الرضا من الله، كما قال الله تعالى: ﴿رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾([11])، وإذا كان له الرضا من الله: أوجده الله حلاوة ذلك؛ ليعلم ما منَّ به عليه، وليعلم([12]) إحسان الله إليه.
ولا يكون الرضا بالله: إلا مع الفهم.
ولا يكون الفهم: إلا مع النور.
ولا يكون النور: إلا مع الدُّنُوِّ.
ولا يكون الدُّنُوِّ: إلا مع العناية.
فلما سبقت لهذا العبد العناية خرجت له العطايا من خزائن المنن، فلما واصلته أمداد الله وأنواره عوفي قلبه من الأمراض والأسقام؛ فكان سليم الإدراك، فأدرك لذاذة الإيمان وحلاوته، لصحة إدراكه ولسلامة ذوقه.
ولو سقم قلبه بالغفلة عن الله لم يدرك ذلك؛ لأن المحموم ربما وجد طعم السكر مُرًّا، وليس هو في نفس الأمر كذلك.
فإذا زالت أسقام القلوب أدركت الأشياء على ما هي عليه؛ فتدرك حلاوة الإيمان ولذاذة الطاعة، ومرارة القطيعة والمخالفة، فيوجب إدراكها لحلاوة الإيمان اغتباطها به، وشهود المنة من الله عليها فيه، وتطلب الأسباب الحافظة للإيمان، والجالبة له.
ويوجب إدراك لذاذة الطاعة: المداومة عليها، وشهود المنة من الله فيها.
ويوجب إدراكها لمرارة الكفران والمخالفة: الترك لهما والنفور عنهما، وعدم الميل إليهما؛ فيحمل على الترك للذنب وعدم التطلع إليه، وليس كل متطلع([13]) تاركًا، ولا كل تارك غير متطلع، وإنما كان كذلك لأنَّ نور البصيرة دالٌّ([14])، على أنَّ المخالفة لله والغفلة عنه سمٌّ للقلوب مهلك، فنفرة قلوب المؤمنين عن مخالفة الله تعالى كنفرتك عن الطعام المسموم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «وبالإسلام دينًا»؛ لأنه من رضي بالإسلام دينًا فقد رضي بما رضي به المولى، واختاره لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلَامُ﴾([15])، ولقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾([16]).
ولقوله: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾([17])، وإذا رضي بالإسلام دينًا، فمِنْ لازم ذلك امتثال الأوامر والانكفاف عن وجود الزواجر، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والغيرة إذا رأى ملحدًا يجادل أن يدخل فيه ما ليس منه؛ فيدمغه ببرهانه، ويقمعه بتبيانه.
وقوله صلى الله عليه وسلم «وبمحمد نبيًّا»: فلازم من رضي بمحمد نبيًّا أن يكون له وليًّا، وأن يتأدب بآدابه، وأن يَتَخَلَّقَ بأخلاقه؛ زهدًا في الدنيا وخروجًا عنها، وصفحًا عن الجناية، وعفوًا عَمَّنْ أساء إليه إلى غير ذلك من تحقق المتابعة، قولًا وفعلًا، وأخذًا وتركًا، وحبًّا وبغضًا، وظاهرًا وباطنًا.
فمن رضي بالله استسلم له، ومن رضي بالإسلام عمل له، ومن رضي بمحمد صلى الله عليه وسلم تابعه، ولا تكون واحدة([18]) منها إلا بكلها؛ إذ محال أن يرضى بالله ربًّا ولا يرضى بالإسلام دينًا([19])، أو يرضى بالإسلام دينًا ولا يرضى بمحمد نبيًّا، وتلازم ذلك بَيِّنٌ لا خفاء فيه.