اعلم أنَّ الحق -سبحانه وتعالى- بسط إبراهيم عليه السلام بنور الرضا وأعطاه روح الاستسلام، وصان قلبه عن النظر إلى الأنام، فما كانت([1]) النار عليه بردًا وسلامًا إلا لما كان قلبه مفوضًا إلى الله استسلامًا، فمن الاستسلام كان عليه السلام، وعن تصحيح باطن المقام([2]) كان ما ظهر عليه من الإجلال والإعظام، فافهم من ذلك أيها المؤمن أن من استسلم إلى الله في واردات الامتحان أعاد الله عليه شوكها ريحانًا وخوفها أمانًا.
فإذا قذفك الشيطان في منجنيق الامتحان، فعرضت لك الأكوان قائلة: «ألك حاجة؟»، فقل: «أما إليك فلا، وأما إلى الله فبلى»، فإن قالت لك: «سله»؛ فقل: «حسبي من سؤالي علمه بحالي»، فإن الله يعيد عليك نار الدنيا بردًا وسلامًا، ويعطيك منة وإكرامًا؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- فتح بالأنبياء والرسل سبيل الهدى، فسلك وراءهم المقتدون، والتزم اتباعهم المؤمنون، كما قال -سبحانه وتعالى-: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾([3])، وقال في شأن يونس([4]) عليه السلام: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي المُؤْمِنِينَ﴾([5]).
أي كذلك ننجى المؤمنين المتبعين لأنواره، الطالبين من الله بالذلة والافتقار، واللابسين شعار المسكنة والانكسار.
([4]) هو نبي الله يونس ابن متى عليه السلام الذي بعثه الله إلى أهل قرية (نِيْنَوى) وهي قرية من أرض الموصل بالعراق.
([5]) الآية: 88 من سورة الأنبياء، ولهذه الآية مع نبي الله يونس مناسبة يقصها لنا هذا الحديث التالي عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة: سمعت أبا هريرة } يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت، أوحى الله إلى الحوت: ولا تخدش له لحمًا، ولا تكسر له عظمًا. فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسًّا فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحي الله إليه وهو في بطن الحوت أن هذا تسبيح دواب البحر، قال: وسبح وهو في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه؛ فقالوا: يا ربنا، إنا نسمع صوتًا ضعيفًا بأرض غريبة! قال: ذلك عبدي يونس، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر، قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح؟! قال: نعم. قال: فشفعوا له عند ذلك؛ فأمر الحوت فقذفه في الساحل كما قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ سَقِيمٌ﴾ [الصَّافات:145]» [رواه ابن جرير ورواه البزار في مسنده].