وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون(*)
انعطاف: قد مضى قولنا في سر إحواج الحيوان -وهذا الآدمي خصوصًا- إلى وجود تغذية ممدة له؛ فالآن نتحدث([1]) في تكفل الحق تعالى بهذه التغذية وقيامه بإيصالها.
فاعلم أنَّ الحق تعالى كما أحوج الحيوان إلى مَدَدٍ مُمِدٍّ له، وتغذية يكون بها حفظ وجوده، وكان هذان الجنسان -اللذان هما الإنس والجان- خلقا ليأمرهما بعبادته ويطالبهما بطاعته وموافقته، فقال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ﴾([2])؛ فَبَيَّنَ الله تعالى أنَّه إنَّما خلق هذين الجنسين لعبادته؛ أي: ليأمرهم بها كما تقول لعبدك: ما اشتريتك أيها العبد إلا لتخدمني؛ أي: لآمرك بالخدمة فتقوم بها، وقد يكون العبد مخالفًا متأبيًا، ولم يكن شراؤك إياه لذلك، وإنما كان ليقوم بمهماتك ولقضاء حاجاتك، وأهل الاعتزال يحملون الآية على ظاهرها؛ فيقولون: الحق خلقهم للطاعة والكفر والمعصية من قبل أنفسهم، وقد أبطلنا هذا المذهب قبل، وفي تبيين سر الخلق والإيجاد إعلام للعباد.
وتنبيه: لماذا خلقوا؟ كي لا يجهلوا مراد الله تعالى فيهم؛ فيضلوا عن سبيل الهداية، ويهملوا وجود الرعاية، وقد جاء أنَّ أربعة من الملائكة، يتجاوبون كل يوم، فيقول أحدهم: «يا ليت هذا الخلق لم يخلقوا!»، ويقول الآخر: «ويا ليتهم إذا خلقوا علموا لماذا خلقوا!»، ويقول الآخر: «ويا ليتهم إذا علموا لماذا خلقوا عملوا بما علموا!»، ويقول الرابع: «ويا ليتهم إذا لم يعملوا بما علموا تابوا مما علموا!». اهـ.
فبين الحق تعالى: أنَّه ما خلق العباد لأنفسهم، إنما خلقهم ليعبدوه ويوحدوه؛ فإنك لا تشتري عبدًا ليخدُم نفسه، إنما تشتريه ليكون لك خادمًا؛ فهذه الآية حجة على كل عبد اشتغل بحظ نفسه عن حق ربه، وبهواه عن طاعة مولاه؛ ولذلك سمع إبراهيم بن أدهم رحمه الله عليه -وهو كان سبب توبته- لما خرج مُتَصَيِّدًا هاتفًا يهتف به من قربوس سرجه: يا إبراهيم، ألهذا خلقت! أم بهذا أمرت! ثم سمع الثانية: يا إبراهيم، ما لهذا خلقت، ولا بهذا أمرت.
فالفقيه من فهم سر الإيجاد فعمل له، وهذا هو الفقه الحقيقي الذي من أعطيه فقد أعطي المنة العظمى، وفيه قال مالك([3]) رحمه الله: «ليس الفقه بكثرة الرواية، وإنما الفقه نور يضعه الله في القلب». اهـ.
وسمعت شيخنا أبا العباس رحمه الله يقول: «الفقيه من انفقأ الحجاب عن عيني قلبه». اهـ.
فمن فقه عن سر الإيجاد بأنه ما أوجده إلا لطاعته، وما خلقه إلا لخدمته، كان هذا الفقه منه سببًا لزهده في الدنيا، وإقباله على الأخرى، وإهماله لحظوظ نفسه، واشتغاله بحقوق سيده، مفكرًا في المعاد، قائمًا بالاستعداد، حتى قال بعضهم: «لو قيل لي: غدًا تموت؛ لم أجد مستزاد»، وقال بعضهم، وقد قالت له أمه: «يا بني مالك لا تأكل الخبز!»: فقال: «بين مضغ الخبز وأكل الفتيت قراءة خمسين آية»؛ فهؤلاء قوم أذهل عقولهم عن هذه الدار تَرَقُّبُ هول المطلع وأهوال القيامة، وملاقاة جبار السماوات والأرض، فغيبهم ذلك عن الاستيقاظ لملاذ هذه الدار، والميل إلى مسراتها، حتى قال بعض العارفين: دخلت على بعض المشايخ بالمغرب في داره، فقمت لأملأ ماء للوضوء، فقام الشيخ ليملأ عني فأبيت؛ فأبى إلا أن يملأ، وأمسك طرف الحبل بيده، وفي الدار عنده بجانب البئر شجرة زيتون قد خيمت على الدار، فقلت([4]): يا سيدي، لم لا تربط طرف هذا الحبل بهذه الشجرة؟ فقال: أو ها هنا شجرة([5])؟ إن لي في هذه الدار ستين عامًا، ما أعرف أن في هذه الدار شجرة». اهـ.
فافتح -رحمك الله- سمعك لهذه الحكاية وأمثالها؛ تعلم أن الله عبادًا أشغلهم به عن كل شيء ولم يشغلهم عنه شيء، أذهل عقولهم عظمته، وأدهش نفوسهم هيبته؛ فاستقر في أسرارهم وده ومحبته.
جعلنا الله منهم ولا أخرجنا عنهم، ومثل هذه الحكاية كان رجل بالصعيد من الأولياء بمسجد، طلب منه أحد من يخدمه أن يأخذ جريدة من إحدى نخلتين كانتا في المسجد فأذن له، فقال: يا سيدي، من أيهما آخذ: من الصفراء، أو من الحمراء؟ فقال: يا بني، إن لي بهذا المسجد أربعين عامًا، لا أعرف الصفراء([6]) من الحمراء». اهـ.
ويحكى عن بعضهم أنَّه كان يعبر عليه أولاده في داره فيقول: أولاد(2) مَنْ هؤلاء؟ أولاد من هؤلاء؟ فيقال له: أولادك. فكان لا يعرفهم، حتى يعرف بهم لاشتغاله بالله تعالى، وكان بعض المشايخ يقول في أولاده إذ رآهم: هؤلاء الأيتام، وإن كان أبوهم حيًّا.
والاسترسال عن هذه اللامعة يخرجنا عن غرض الكتاب.
([3]) هو الإمام مالك بن أنس رضى الله عنه، يقول عنه إمامنا الشعراني في «طبقاته الكبرى» رضى الله عنه:«كان رضى الله عنه رجلًا طويلًا عظيم الهامة، أصلع أبيض الرأس واللحية، شديد البياض، وكان لباسه الثياب الجياد، وكان إذا أراد أن يجلس لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل وتَبَخَّرَ وتَطَيَّبَ، ومنع الناس أن يرفعوا أصواتهم، وكان إذا دخل بيته يكون شغله المصحف وتلاوة القرآن، وكانت السلاطين تهابه، وكان يكره حلق الشارب ويعيبه، ويراه أنه من المثلة» اهـ. ومن كلامه رضى الله عنه: «إذا مدح الرجل نفسه ذهب بهاؤه»، ومن كلامه: «حق على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية»، ومن كلامه أيضًا: «لا ينبغي للعالم ألا يتكلم بالعلم عند من لا يطيقه؛ فإنه ذل وإهانة للعلم»، وكان يمشي في أَزِقَّةِ المدينة حافيًا ماشيًا، ويقول: «أنا أستحي من الله تعالى أن أطأ تربة فيها قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحافر دابة» ولد رضى الله عنه سنة ثلاث وتسعين من الهجرة، وأخذ العلم عن تسعمئة شيخ منهم ثلاثمئة من التابعين، وتوفي سنة تسع وسبعين ومئة، ودفن بالبقيع رضي الله تعالى عنه. [انظر «الطبقات الكبرى» الشعراني].