فإن ادخر السابقون فلا لأنفسهم، ولكن ادخار أمانة؛ لأنهم خزان أمناء، وعبيد كبراء، إن أمسكوا الدنيا أمسكوها بحق، وإن بذلوها بذلوها بحق، وليس الممسك لها بحق بدون الباذل لها بحق، ولا يشهدون أنهم مع الله مالكون، بل ما في أيديهم يشهدونه من ودائع الله، ويتصرفون فيها بالنيابة عن الله، سمعوا قوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾([1])؛ فعلموا أنه لا ملك لهم مع الله، وإنما هي نسبة أضيفت إليك، وإضافة منة منَّ بها عليك؛ ليرى كيف تعمل وهو العليم الخبير: أتقف مع ظاهرها أم تتفقد([2]) إلى أسرارها؟ ولذلك كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا تجب عليهم الزكاة؛ لأنَّهم لا ملك لهم مع الله حتى تجب عليهم الزكاة فيه، وإنما تجب عليك زكاة ما أنت له مالك، إنما يشهدون ما في أيديهم من ودائع الله تعالى لهم، يبذلونه في أوان بذله، ويمنعونه من غير محله، ولأنَّ الزكاة إنما هي طهرة لما عساه أن يكون مِمَّنْ وجبت عليه؛ لقوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾([3])، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام مبرءون من الدنس؛ لوجود العصمة، ولأجل ذلك لم يوجب أبو حنيفة(3) -رحمه الله- على الصبيان([4])زكاة، لعدم دنس المخالفة، والمخالفة لا تكون إلا بعد جريان التكليف، وذلك بعد البلوغ.
وافهم ها هنا قوله صلى الله عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة»([5]) -يتبين ما ذكرناه ويتضح ما قررناه، وإذا كان أهل المعرفة بالله تعالى المشاهدون لأحديته، لا يشهدون لهم مع الله ملكًا؛ فما ظنك بالأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين!.
وأهل التوحيد والمعرفة: إنما غرفوا من بحارهم، واقتبسوا من أنوارهم، يحكى أن الشافعي([6])، وأحمد([7]) -رحمهما الله- كانا جالسين إذ أقبل شيبان([8]) الراعي -رحمه الله- فقال أحمد للشافعي:
أريد أن أسألك هذا المشار إليه في هذا الزمن. فقال الشافعي: لا تفعل. فقال: لا بد من ذلك. فقال: يا شيبان، ما تقول فيمن نسي أربع سجدات من أربع ركعات؟ فقال: يا أحمد، هذا قلب غافل عن الله عز وجل، يجب أن يؤدب حتى لا يعود إلى مثل ذلك. فخر أحمد مغشيًّا عليه، ثم سأله فقال: ما تقول فيمن له أربعون شاة، وما زكاتها؟ فقال: على مذهبنا أو على مذهبكم؟ فقال: وهما مذهبان! قال: نعم، قال: أما على مذهبكم ففي الأربعين شاةً شاةٌ، وأما على مذهبنا، فالعبد لا يملك مع سيده شيئًا.
وقد جاء في الحديث: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم «ادَّخَرَ قوت سنة»، فإما أن يكون ذلك لما قلناه أولًا من أن ادخار الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- إنما هو إمساك بالأمانة، مختارين له وقتًا يصلح إنفاقه، وإنما ادخر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل عائلته، أو ليبين جواز الادخار لأمته؛ فإنه إذا لم تقع الحوالة عليه لنا في التوكل.
ومما يدلك على أن المراد إنما كان ليبين جوازه: أنه كان عليه الصلاة والسلام أغلب أحواله عدم الادخار، وإنما ادخر توسعة على أمته ورحمة بهم، وإشفاقًا على الضعفاء منهم؛ إذ لو لم يدخر لم يكن لمؤمن أن يدخر بعده؛ ففعل ذلك ليبين حكمه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إني لا أنسى، أو أنسى لأسن»([9])، فبين لك صلى الله عليه وسلم أن النسيان ليس من شأنه ولا من وصفه، وإنما يدخل فيه ليبين حكمه، وما يتعلق به لأمته، فافهم الحديث!.
([4]) هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله تعالى عنه، ولد سنة ثمانين من الهجرة، وكان في زمنه أربعة من الصحابة: أنس بن مالك، وعبد الله بن أبي أوفى، وسهل بن سعد، وأبو الطفيل وهو آخرهم موتًا، ولم يأخذ عن واحد منهم، كان رضى الله عنه حسن الثياب، طيب الريح، كثير الكرم، حسن المواساة لإخوانه، كان يعرف بريح الطيب إذا أقبل وإذا خرج من داره، أُكْرِهَ رضى الله عنه على توليته القضاء، وضُرِبَ على رأسه ضربًا شديدًا أيام مرْوان، فلم يقبل التولية، وكان أحمد بن حنبل رضى الله عنه إذا ذكر ذلك بكى، وتَرَحَّمَ عليه، ثم أكرهه أبو جعفر بعد ذلك، وأشخصه من الكوفة إلى بغداد فأبى، وقال: لا أكون قاضيًا. فحبسه، وأخرجه المنصور مرات من الحبس يتوعده، وهو يقول: يا منصور، اتق الله ولا تُوَلِّ إلا من يخاف الله تعالى، والله ما أنا مأمون في الرضا، فكيف أكون ما مأمونًا في الغضب! ويقول عنه الشافعي رضى الله عنه: «الناس عيال على أبي حنيفة رضى الله عنه في الفقه»، وذكر عنه الإمام الشعراني في «طبقاته» قائلًا: «كان لا ينام الليل، وسَمَّوْهُ الوتد لكثرة صلاته، وصلى الصبح بوضوء العشاء أربعين سنة، وكان رضى الله عنه لا يجلس في ظل جدار غريمه، ويقول كل قرض جَرَّ نفعًا فهو ربًا»، وسئل رضى الله عنه: أيما أفضل: علقمة، أو الأسود؟ فقال: والله ما نحن بأهل أن نذكرهم فكيف نفاضل بينهم! ومن كلامه رضى الله عنه: «لو أن عبدًا عبد الله تعالى حتى صار مثل هذه السارية، ثم إنه لا يدري ما يدخل بطنه حلال أو حرام ما تقبل منه». اهـ.
ومكانته معروفة، ومناقبه كثيرة مشهورة رضي الله تعالى عنه، توفي رضى الله عنه ببغداد سنة خمسين ومئة، وهو ابن سبعين سنة.
([5]) هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في «مسنده» عن أبي هريرة، والنسائي في «سننه» عن عمر، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد، وعثمان، وطلحة، والزبير رضى الله عنهم.
([6]) هو أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضى الله عنه، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك الشعراني في «طبقاته» يلتقي معه في عبد مناف، ولد رضى الله عنه بغزة، ثم حمل إلى مكة وهو ابن سنتين، وعاش أربعًا وخمسين سنة، وأقام بمصر أربع سنين ونَيِّفًا، ثم توفي بمصر ليلة الجمعة بعد المغرب سنة أربع ومئتين، نشأ رضى الله عنه في حجر أمه في قلة عيش وضيق حال، وكان في صباه يجالس العلماء، ويكتب ما يستفيده في العظام ونحوها لعجزه عن الورق، حتى ملأ منها خبايا، وتَفَقَّهَ في مكة على مسلم بن خالد الزنجي، ونزل في شعب الخيف منها، ثم قدم المدينة فلزم الإمام مالكًا رضى الله عنه وقرأ عليه «الموطأ» حفظًا؛ فأعجبه قراءتُه، وقال له: «اتقِ الله فإنه سيكون لك شأن»، وكان سنه حين أتى مالكًا ثلاث عشرة سنة، ثم رحل إلى اليمن حين تولى عمه القضاء بها، واشتهر بها حين رحل إلى العراق، وجَدَّ في الاشتغال بالعلم، وناظر محمد بن الحسن وغيره، ونشر علم الحديث، وأقام مذهب أهله، ونصر السنة، واستخرج الأحكام منها، ورجع كثير من العلماء عن مذاهبَ كانوا عليها إلى مذهبه، ثم خرج إلى مصر آخر سنة تسع وتسعين ومئة، وصنف كتبه الجديدة بها، ورحل الناس إليه من سائر الأقطار.
أما الربيع بن سليمان، فيقول عنه: «رأيت على باب الإمام الشافعي رضى الله عنه سبعمئة راحلة تطلب سماع كتبه رضى الله عنه، وكان يقول مع ذلك: «إذا صح الحديث فهو مذهبي»، ويقول: «وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم على ألا ينسب إليَّ منه حرف»، ومن كلامه رضى الله عنه: «من أراد الآخرة فعليه بالإخلاص في العلم»، ومن كلامه أيضًا: «أظلم الظالمين لنفسه من تواضع لمن لا يكرمه، ورغب في مودة من لا ينفعه»، وحكمه النفيسة كثيرة ومناقبه مشهورة رضى الله عنه.
([7]) هو الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه كان يضرب به المثل في اتباع السنة، واجتناب البدعة، وكان لا يدع قيام الليل قط، وله في كل يوم وليلة ختمة، وكان يُسِرُّ ذلك عن الناس، وكان يقول: «طوبى لمن أخمل الله تعالى ذكره!»، وكان يلبس الثياب النقية البياض، ويتعهد شاربه وشعر رأسه وبدنه، وكان مجلسه خاصًّا بالآخرة، لا يذكر فيه من أمر الدنيا، وكان يأتي العرس والإملاك والختان يأكل، وتعرت أمه من الثياب فجاءته زكاة فردها، وقال: «العري لهم خير من أوساخ الناس، وإنها أيام قلائل ثم نرحل من هذه الدار»، ولما مرض عرضوا بوله على الطبيب فنظر إليه، وقال: «هذا بول رجل قد فتت الغم والحزن كبده»، وكان يحيي الليل كله منذ كان غلامًا، وكان من أصبر الناس على الوحدة، لا يراه أحد إلا في المسجد أو جنازة أو عيادة، وكان يكره المشي في الأسواق، وكان ورده كل يوم وليلة ثلاثمئة ركعة، وحج رضى الله عنه خمس حجات ثلاثًا منها ماشيًا، وكان ينفق في كل حجة نحو عشرين درهمًا، ولما دخل أحمد على المتوكل قال المتوكل لأمه: «يا أماه، نارت الدار بهذا الرجل» ثم أتوا بثياب نفيسة فالبسوها له، فبكى وقال: «سَلِمْتُ منهم عمري كله، حتى إذا دنا أجلى بُلِيتُ بهم وبدنياهم»، ثم نزعها لما خرج، توفي رضى الله عنه سنة إحدى وأربعين ومئتين، وقد استكمل سبعًا وسبعين سنة، ولما مرض رضى الله عنه اجتمع الناس والدواب على بابه لعيادته، حتى امتلأت الشوارع والدروب، ولما قُبِضَ صاح الناس وعلت الأصوات بالبكاء، وارتجت الدنيا لموته، وخرج أهل بغداد إلى الصحراء يصلون عليه، فحرزوا من حضر جنازته من الرجال ثمانمئة ألف، ومن النساء ستون ألف امرأة، سوى من كان في الأطراف والسفن والأسطحة، رضي الله عنه ورحمه رحمة واسعة. انظر «الطبقات الكبرى» للشعراني.
([8]) يقول عنه صاحب «الكواكب الدرية» عن شيبان الراعي: «كان من رءوس الزهاد، وأكابر العارفين الأمجاد، نعم، وكان في المجاهدة فائقًا، وفي التوكل على ربه مبالغًا واثقًا»، ويقول الغزالي عنه في «الإحياء»: «كان الشافعي رضى الله عنه يجلس بين يديه كما يجلس الصبي في المكتب، ويسأله كيف يفعل في كذا وكذا؟ فيقال له: مثلك يسأل هذا البدوي! فيقول: إنه وفق لما علمناه. وله أحوال ساميات، وكرامات ظاهرات، منها أنه كان إذا أجنب ولا ماء عنده جاءت سحابة فأظلته، فاغتسل منها، ومنها أنه كان إذا ذهب للجمعة خط على غنمه خطًّا فلا تتحرك ولا يعترضها وحش ولا إنس حتى يرجع، ومن كلامه رضى الله عنه: «حقيقة المحبة أرق بلا رقاد، وجسم بلا فؤاد، وتهتك في العباد وتشرد في البلاد»، توفى رضى الله عنه بمصر، ودفن بالقرافة بقرب الشافعي رضى الله عنه، بالتربة التي فيها المزني وبينه وبين المزني قبر الخياط، كان رضي الله تعالى عنه من أكابر الصالحين» اهـ. [انظر «الكواكب الدرية» جـ1، ص(123، 124)].