بيان علمي بالغ الأهمية
أولًا: موضوع الشرك والكفر:
انتفعت كما انتفع غيري من المسلمين بما نشرته مجلة )اللواء الإسلامي( بالعدد (39) مما دار في ندوة مسجد الشيخ البدوي رضى الله عنه، وأرجو أن يتسع صدر المجلة وصدر أساتذتنا الأجلاء لتعقيب أزعم أنه مكمل لموضوع الندوة، وأنه هام في ميزان العلم والدين والتاريخ، ولا شك أنه تعزيز لتقديرنا الكبير للمجلة ولرجالها أجمعين.
فقد جاء على لسان بعض رجالها من علمائنا كلام عام قد يحتاج إلى تحديد أو إلى بيان الوجه الآخر، ونحن حين نتحدث في مثل موضوعات الندوة إنما نتحدث في أمر فرعي، حسبنا منه الدليل الظني، إذ إن كل ما انسحب عليه أمر الجواز والمنع محله الفروع، والفروع محلها الخطأ والصواب، وحكمها الحلال والحرام، فنقلها إلى الكفر، والإيمان، والشرك، والتوحيد خروج بالموضوع عن محل النزاع العلمي، وإشاعة للاضراب الفكري، على الأقل بين الجماهير.
وقد جاء فيما جاء من الأحكام بهذه الندوة أن الصلاة إلى الضريح (شرك)، وأيضًا الصلاة إلى عمود المسجد (شرك)، وكانت العلة أنه لو رأى ذلك من لا علم له بالإسلام لظن أن المصلي يعبد الضريح أو العمود.
والتجاوز في إطلاق حكم الشرك والكفر على المسلمين هو خطأ كالخطيئة في ذاته، ثم هو الذي زين طريق التطرف والانحراف للجماعات التي نشكو غلواءها، والتي سببت لهذا البلد ما لا يزال يعانيه من قلق واضطراب وفساد كبير، فاتهام المسلم بالشرك أو الكفر لا يطيقه ولا يملكه أحد بغير دليل على مثل ضوء الشمس.
وتعليل الشرك بتوهم من لا علم له بالإسلام تعليل فيه نظر، فمنذ متى كانت أحكام الدين متعلقة بتوهم الناس، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين؟ ومتى كانت الأحكام تؤخذ من غير المسملين، فتصبح إسلامًا واجب الاتباع.
فسم ذلك إن شئت خطأ أو جهلًا، أو مخالفة أو ترخصًا أو تأولًا، ولا تسمه شِرْكًا، وإلا فقد أخرجنا بذلك ملايين الملايين من دين الإسلام بما فعلوا من ذلك، فضلًا عمن سوف يفعلون، وهذا حكم هائل خطير، لا يتحمل مسئوليته مسلم مهما يكن شأنه، صحفيًا أو عالمًا أو غير ذلك.
ولا أدري كيف تكون الصلاة إلى الْعُمُد والسواري عبادة للعمد والسواري، وقد صح الحديث عن الصحابة أنهم كانوا إذا انتهى الأذان يَبْتَدِرُونَ السَّوارِيَ([1])، أي يسارعون للصلاة إليها، ثم اتخاذ (السترة) في الصلاة أمر لا خلاف عليه، فهل يكون المصلي إلى السترة مشركًا عابدًا لما هو أمامه من شيء، كيفهما كان هذا الشيء المتخذ سترة؟ هذا حكم خطير ورثناه عن الوهابية المسرفة بلا تمحيص.
هذا أولًا.
أما ثانيًا:
فقد قيل في الندوة -أيضًا- أن الصلاة في الضريح أو المقابر (مكروهة، وحرام، وباطلة هكذا) لأحاديث ذُكِرَتْ، وهذه الأحاديث كان قد تأولها السلف بأن الذين جاء ذكرهم هم الذين اتخذوا أنبياءهم وغيرهم أربابًا وكانوا يعبدون مقابرهم، وليس كذلك أحد من المسلمين بحمد لله، سواء كان أميًّا أو مثقفًا، وهذا رأي ابن حجر، والبيضاوي، والشوكاني، وغيرهم.
وقدر روى فيمن روى هذه الأحاديث إمام دار الهجرة مالك -رضى الله عنه-، ومع ذلك جاء في المدونة: سئل ابن قاسم هل كان مالك يرى بأسًا أن يصلي الرجل وبين يديه قبر؟ قال: إن مالكًا لا يرى بأسًا بالصلاة في المقابر وهو، أي مالك، إذا صلى في المقبرة كانت القبور بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، -إلى أن قال- مالك: بلغني أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا يصلون في المقبرة([2]). تأمل.
ومعنى هذا أن الإمام مالكًا، وهو ممن روى أحاديث المنع، تأول هذه الأحاديث، ولم ير أن أسبابها منطبقة على الواقع الإسلامي، وهذا هو الصواب.
وقد رأينا عائشة -رضي الله عنها- تقيم في حجرتها بعد دفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها، وبعد دفن صاحبيه، ومعلوم أنها كانت تصلي بحجرتها، فلم يكن في بيت رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- إلا حجرة واحدة وفناء، ولم يعترض عليها أحد ممن هم أعلم بدين الله منا.
وقد روى البخاري تعلقيًا على وجه الجزم: أن فاطمة الكبرى بنت الحسين ضربت قبة على قبر زوجها الحسن بن الحسن، أقامت بها عامًا كاملًا([3])، وبالطبع كانت تصلي بها على قبر زوجها، ولم يعترض عليها أحد.
وقد روى مالك أن عليًّا رضى الله عنه كان يتوسد القبور وينام عليها. وفسر مالك حديث منع الجلوس على القبر على معنى قضاء الحاجة فوقه، أو تحقيره.
وإذن فالقول بأن الصلاة إلى القبر باطلة قول فيه نظر علمي وتحقيق دقيق، أما القول بالكراهة والحرمة بعد هذا ففيه نظر -أيضًا-، إذا اتقينا الله في إطلاق الأحكام وعدم الانحياز لجانب معين، مسايرة للعاطفة أو محدودية العلم.
أما ثالثًا:
فقد ذكرت قضية الطواف بالضريح وأنها حرام، وهذا صحيح إذا تحقق في الطواف شروطه الشرعية، وأركانه المعروفة، فالطواف شرعًا بالكعبة المكرمة، وهو يبدأ من مكان معين، أمام حجر معين يُقَبَّلُ أو يشار إليه مع التكبير، ثم الطواف إلى مكان معين، يكون في إسراع الخطا، ثم إلى ركن معين، يلمسه الطائف، ثم يكرر هذا سبع مرات مع الذكر والدعاء.
فهل هذا يتم حول أضرحة الأولياء؟ إن الطواف إذا فقد هذه الصورة أو بعض هذه الصورة لا يكون طوافًا شرعيًا يترتب عليه حكم شرعي، فهل هذا متحقق فيما نرى من زوار الأضرحة الذين يدخلون من باب ليخرجوا من الآخر مثلًا؟
إنما هي المبالغة التي تلقيناها من بعض الغالين من السابقين وكررها أتباعهم فكررناها معهم، والأمر أهون من ذلك كله، ولا شك أن سد الذارئع أولى، وأن الاعتصام بالأفضل والأمثل أحق، ولكن بغير إطلاق الأحكام من بلا تحديد ولا احتياط. وإني لأعتذر إلى أساتذتنا، ويعلم الله أننا نعزهم، ولكن الحق أعز علينا منهم، وليس أمر الدين لشخص معين وإن بلغ ما بلغ، فالبشر بشر، يخطئ ويصيب، والاختلاف في الفروع طبيعة وشريعة، ولكل وجهة هو موليها، وأستغفر الله وأتوب إليه.