قال الله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ [يونس: 62-64].
اعلم أن مذهب أهل الحق إثبات كرامات الأولياء، وأنها واقعة موجودة مستمرة في الأعصار، ويدل عليه دلائل العقول، وصرائح النقول.
أما دلائل العقل فهي أمر يمكن حدوثه، ولا يؤدي وقوعه إلى رفع أصل من أصول الدين، فيجب وصف الله تعالى بالقدرة عليه، وما كان مقدورًا كان جائز الوقوع. وأما النقول: فآيات في القرآن العظيم، وأحاديث مستفيضة.
أما الآيات، فقوله تعالى في قصة مريم: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ [مريم:25].
قال الإمام أبو المعالي رحمه الله تعالى إمام الحرمين: ولم تكن مريم بنبية بإجماع العلماء، وكذا قاله غيره، بل كانت ولية صديقة، كما أخبر الله تعالى عنها.
وقوله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ [آل عمران:37].
ومن ذلك قصة صاحب سليمان عليه السلام حيث قال: ﴿أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ [النمل:40].
قال العلماء: ولم يكن نبيًّا. ومن ذلك ما استدل به إمام الحرمين وغيره من قصة أم موسى. ومن ذلك ما استدل به الأستاذ أبو القاسم القُشَيْرِي من قصة ذي القرنين. واستدل القُشَيْرِي وغيره بقصة الخضر مع موسى عليه السلام، قالوا: ولم يكن نبيًّا بل كان وليًّا وهذا خلاف المختار. والذي عليه الأكثرون أنه كان نبيًّا. وقيل: كان نبيًّا رسولًا. وقيل: كان وليًّا. وقيل: ملكًا. وقد أوضحت الخلاف فيه وشرحته في «تهذيب الأسماء واللغات». وفي «شرح المهذب»([1]). وفي ذلك قصة أهل الكهف وما اشتملت عليه من خوارق العادات. قال إمام الحرمين وغيره: ولم يكونوا أنبياء بالإجماع.
وأما الأحاديث فكثيرة منها: حديث أَنَسٍ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَا مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، وَمَعَهُمَا مِثْلُ الْمِصْبَاحَيْنِ يُضِيئانِ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا، فَلَمَّا افْتَرَقَا صَارَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاحِدٌ حَتَّى أَتَى أَهْلَهُ. أخرجه البخاري في «صحيحه» في (كتاب الصلاة) وفي (علامات النبوة). هذان الرجلان: عُبَاد بن بشر وأسيد بن حضير بضم أولهما وفتح ثانيهما. وحُضَيْر بضم الحاء المهملة وبالضاد المعجمة. ومنها: حديث أصحاب الغار الثلاثة الذين أووا إلى الغار فأطبقت صخرة عليهم بابه، فدعا كل واحد منهم بدعوة فانفرجت عنهم الصخرة، وهو مخرج في صحيحي البخاري ومسلم. ومنها حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في قصة جريج، أنه قال للصبي الرضيع: من أبوك؟ قال: فلان الراعي. وهو مخرج في الصحيح. ومنها حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُن فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ». وفي رواية: «قَدْ كَانَ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُكَلَّمُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ». رواه البخاري في صحيحه. ومنها الحديث المشهور في صحيح البخاري وغيره في قصة خبيب الأنصاري بضم الخاء المعجمة -رضي الله تعالى عنه- صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقول ابنة الحارث فيه: والله ما رأيت أسيرًا قط خيرًا من خبيب، والله لقد وجدته يومًا يأكل من قطف عنب في يده، وأنه لموثق في الحديد، وما بمكة من ثمر. وكانت تقول: أنه لرزق الله رزقه خبيبًا. والأحاديث، والآثار، وأقوال السلف والخلف، في هذا الباب أكثر من أن تحصر، فيكتفى بما أشرنا إليه. وسترى في هذا الباب جملًا من ذلك، وباقي الكتاب إن شاء الله تعالى.
قال الإمام أبو المعالي إمام الحرمين: الذي صار إليه أهل الحق، جواز انخراق العادة في حق الأولياء. وأطبقت المعتزلة على إنكار ذلك. ثم من أهل الحق من صار إلى أن الكرامة الخارقة للعادة، شرطها أن تجري من غير إيثار واختيار من الولي، وصار هؤلاء إلى أن الكرامة تفارق المعجزة من هذا الوجه. قال الإمام: وهذا القول غير صحيح. وصار آخرون منهم إلى تجويز وقوع الكرامة على حكم الاختيار، ولكنهم منعوا وقوعها على مقتضى الدعوى فقالوا: إذا ادعى الولي الولاية، واعتضد في إثبات دعواه بما يخرق العادة، فكان ذلك ممتنعًا. وهؤلاء فرقوا بين الكرامة والمعجزة بهذا. قال: وهذه الطريقة غير مرضية أيضًا. قال: ولا يمتنع عندنا ظهور خوارق العوائد مع الدعوى المفروضة. قال:وصار بعض أصحابنا إلى أن ما وقع معجزة لنبي لا يجوز تقدير وقوعه كرامة لولي. فيمتنع عند هؤلاء أن ينفلق البحر، وينقلب العصا ثعبانًا، ويحيي الموتى إلى غير ذلك من آيات الأنبياء كرامة لولي. قال الإمام: وهذه الطريقة غير سديدة أيضًا. قال: والمرضي عندنا جواز خوارق العادات في معارض الكرامات. وقال: غرضنا من إبطال هذه المذاهب والطرق، إثبات الصحيح عندنا. قال: وأما الفرق بين المعجزة والكرامة، فلا يفترقان في جواز العقل إلا بوقوع المعجزة على حَسَبِ دعوى النبوة، ووقوع دون ادعاء النبوة. قال الإمام: وقد جرى من الآيات في مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا ينكره منتمٍ إلى الإسلام، وذلك قبل النبوة والانبعاث. والمعجزة لا تسبق دعوى النبوة، فكان كرامة. قال: فإن زعم متعسف أن الآيات التي استدللنا بها كانت معجزات لنبي كل عصر، فذلك اقتحام منه للجهالات. فإنا إذا بحثنا عن الأعصار الخالية، لم نجد الآيات التي تمسكنا بها مقترنة بدعوة نبوة، ولا وقعت عن تحدي متحدٍ. فإن قالوا: وقعت للأنبياء دون عوامهم، قلنا: شرط المعجزة الدعوى، فإذا فقدت كانت خارقة للعادة، كرامة للأنبياء، ونجعل ذلك غرضنا إلى إثبات الكرامات. ولم يكن وقت مولد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي تستند إليه آياته. قال الإمام: فقد وضحت الكرامات جوازًا ووقوعًا، سمعًا وعقلًا. قال الإمام وغيره في الفرق بين السحر والكرامة: أن السحر لا يظهر إلا على فاسق. قال: وليس ذلك من مقتضيات العقل. ولكنه ملقى من إجماع الأمة. قال الإمام: ثم الكرامة وإن كانت لا تظهر على فاسق معلن بفسقه، فلا تشهد بالولاية على القطع إذ لو شهدت بها لأمن صواحبها العواقب وذلك لم يجز لولي في كرامة باتفاق. هذا آخر كلام إمام الحرمين.
قال الإمام الأستاذ أبو القاسم القُشَيْرِي -رحمه الله- فيما رويناه في «رسالته»: ظهور الكرامات علامة صدق من ظهرت عليه في أحواله. فمن لم يكن صادقًا فظهور مثله عليه لا يجوز. قال: ولا بد أن تكون الكرامة فعلًا ناقضًا للعادة في أيام التكليف ظاهرًا على موصوف بالولاية في معنى تصديقه في حاله. قال: وتكلم أهل الحق في الفرق بين الكرامة والمعجزة. فكان الإمام أبو إسحاق الإسفرايني -رحمه الله- يقول: المعجزات دلالات صدق الأنبياء، ودليل النبوة لايوجد مع غير النبي. وكان يقول: الأولياء لهم كرامات، منها إجابة سنة الدعاء، فأما جنس ما هو معجزة للأنبياء فلا. وقال الإمام أبو بكر بن فورك -رحمه الله تعالى-: المعجزات دلالات الصدق، فإن ادعى صاحبها النبوة دلت على صدقه، وإن أشار صاحبها إلى الولاية دلت على صدقه في حالته. فتسمى كرامة ولا تسمى معجزة، وإن كانت من جنس المعجزات للفرق. وكان -رحمه الله- يقول: من الفرق بين المعجزات والكرامات أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مأمورون بإظهارها، والولي يجب عليه سترها وإخفاؤها. والنبي يدعي ويقطع القول به، والولي لا يدعيها ولا يقطع بكرامته لجواز أن يكون ذلك فكرًا. وقال أوحد وقته في فنه القاضي أبو بكر الباقلاني -رضي الله تعالى عنه-: المعجزات تختص بالأنبياء، والكرامات تظهر للأولياء، ولا يكون للأولياء معجزة؛ لأن من شرط المعجزة اقتران دعوى النبوة بها. والمعجزة لم تكن معجزة لعينها؛ وإنما كانت معجزة لحصولها على أوصاف كثيرة، فمتى اختل شرط من تلك الشرائط لا تكون معجزة. وأحد تلك الشرائط دعوى النبوة والولي لا يدعي النبوة فالذي يظهر لا يكون معجزة.
قال القُشَيْرِيُّ: وهذا الذي قاله هو الذي نعتمده وندين به. فشرائط المعجزة كلها أو أكثرها توجد في الكرامة إلا هذا الشرط الواحد فالكرامة فعل لا محالة وهو ناقض للعادة وتحصل في زمن التكليف على عبد تخصيصًا له وتفضيلًا، وقد تحصل اختيارية ودعائية، وقد لا تحصل، وقد تكون بغير اختياره في غالب الأوقات، ولم يؤمر الولي بدعاء الخلق إلى نفسه، ولو أظهر شيئًا من ذلك عمن يكون أهلًا له لجاز.
واختلف أهل الحق في الولي، هل يجوز أن يُعلم أنه ولي أم لا؟ فكان الإمام أبو بكر بن فورك -رحمه الله- يقول: لا يجوز؛ لأنه يسلبه الخوف، ويوجب له الأمن. وكان الأستاذ أبو علي الدقاق -رحمه الله- يقول بجوازه وهو الذي نؤثره ونقول به، وليس ذلك بواجب في جميع الأولياء، حتى يكون لكل ولي يعلم أنه ولي واجبًا، ولكن يجوز أن يعلم بعضهم ذلك كما لا يجوز أن يعلم بعضهم. فإذا علم بعضهم أنه ولي، كانت معرفته تلك كرامة له وانفرد بها. وليس كل كرامةلولي يجب أن تكون تلك بعينها لجميع الأولياء، بل إذا لم يكن للولي كرامة ظاهرة في الدنيا، لم يقدح عدمها في كونه وليًّا، بخلاف الأنبياء([2]) فإنه يجب أن تكون لهم معجزات؛ لأن النبي مبعوث إلى الخلق، فبالناس حاجة إلى معرفة صدقه، ولا يعلم إلا بالمعجزة. وحال الولي بعكس ذلك، لأنه ليس بواجب على الخلق، ولا على الولي أيضًا العلم بأنه ولي. والعشرة من الصحابة رضى الله عنهم صدقوا رسول صلى الله عليه وسلم في أنهم من أهل الجنة. وأما قول من قال: لا يجوز ذلك، لأنهم تخرجهم من الخوف فلا بأس ألَّا يخافوا تغيير العاقبة. والذي يجدونه في قلوبهم من الهيبة والتعظيم والإجلال للحق سبحانه وتعالى، يزيد على كثير من الخوف.
قال الأستاذ القُشَيْرِيُّ: واعلم أنه ليس للولي مساكنة إلى الكرامة التي تظهر عليه، ولا ملاحظة، وربما يكون لهم في ظهور جنسها قوة يقين، وزيادة بصيرة، لتحققهم أن ذلك فعل الله تعالى، فيستدلون بها من صحة ما هم عليه من العقائد، والله أعلم.
([1]) ونص عبارة التهذيب واختلفوا في حياة الخضر ونبوته فقال الأكثرون من العلماء هو حي موجود بين أظهرنا وذلك متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجوابه ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه: هو حي عند جماهير العلماء والصالحين والعامة معهم في ذلك. قال: وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين قال: وهو نبي واختلفوا في كونه مرسلًا. وكذا قاله بهذه الحروف غير الشيخ من المتقدمين. وقال أبو القاسم القُشَيْرِي في «رسالته» في (باب الأولياء): لم يكن الخضر نبيًّا وإنما كان وليًّا. وقال أٌقضى القضاة الماوردي في «تفسيره»: قيل هو ولي، وقيل: هو نبي، وقيل: إنه من الملائكة. وهذا الثالث غريب ضعيف أو باطل. وفي آخر «صحيح مسلم» في (أحاديث الدجال) أنه يقتل رجلًا ثم يحيا. قال إبراهيم بن سفيان صاحب مسلم: يقال إن ذلك الرجل هو الخضر. وكذا قال معمر في «مسنده» أنه يقال إنه الخضر. وذكر أبو إسحاق الثعالبي المفسر اختلافًا في أن الخضر كان في زمن إبراهيم الخليل — أم بعده بقليل أم بعده بكثير. قال: والخضر على جميع الأقوال نبي معمر محجوب عن الأبصار. قال: وقيل إنه لا يموت إلا في آخر الزمان عند رفع القرآن. اهـــــــ.
وقد ألف الحافظ ابن حجر في هذا رسالة وسماها «الزهر النضر في نبإ الخضر» وطبعناها في الجزء الثاني من «مجموعة الرسائل المنيرية». وراجع أيضًا تفسير «روح المعاني» للألوسي طبع المنيرية.
([2]) الذي يظهر أنه أراد الأنبياء الرسل أصحاب الشرائع لأن هؤلاء هم الذين يحتاج الناس لتصديقهم إلى معجزة كي يعملوا بشريعتهم وإلا فإن النبي إنسان أوحي إليه بشرع وإن لم يؤمر بتبليغه فما دام غير مأمور بالتبليغ يقتضي ألا تكون المعجزة واجبة في حقه اللهم إلا أن يقصد من النبي الرسول أو ماشيًا على القول بترادفهما.