حدثنا شيخنا شيخ الإسلام أبو النجيب عبدُ القاهر بن عبد الله بن محمد السهرورديُّ -إملاء من لفظه في شوال سنة ستين وخمسمئة- قال: أنبأنا الشريف نور الهدى أبو طالب الحسينُ بن محمد الزينبي، قال: أخبرتنا كريمة بنت أحمد بن محمد المروزية -المجاورة بمكة حرسها الله تعالى- قالت: أخبرنا أبو الهيثمِ محمد بن مكي الكشميهني قال: أنبأنا أبو عبد الله، محمد بن يوسف الفريري قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري قال: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا أبو أسامةَ عن بريد عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعريرضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ: يَا قَوْمِي، إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَيَّ، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ، فَالنَّجَاءَ النَّجَاء! فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا فَانْطَلَقُوا عَلَى مهلِهِم فنَجَوْا، وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي فَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ»، (معنى اجتاحهم أي: استأصلهم، ومن ذلك الجائحة التي تفسد الثمار).
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَت طائفةً مِنْهَا طيبة قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا طائفةٌ أخاذات أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ تعالى بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وكانت مِنْهَا طَائِفَة أُخْرَى قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقهَ فِي اللهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُمَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ».
قال الشيخ: أعدَّ الله تعالى لقبولِ ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم أصْفَى القلوب، وأزكى النفوس فظهر تفاوتُ الصفاء، واختلاف التزكيةِ في تفاوت الفائدة والنفع، فمن القلوب ما هو بمثابة الأرض الطيبة التي أنبتت الكلأ والعشب الكثير، وهذا مثل من انتفع بالعلم في نفسِه، واهتدى وَنَفَعَهُ علمه وهداه إلى الطريق القويم من متابعةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ومن القلوب ما هو بمثابة الأخاذات؛ أي الغدران جمع أخاذة وهو المصنع والغدير الذي يجتمع فيه الماء، فنفوس العلماء الزاهدين من الصوفية والشيوخ تزكَّت، وقلوبهم صفت فاختصت بمزيد الفائدة فصاروا أخاذات.
قال مسروق: صحبت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كأخاذات؛ لأنَّ قلوبهم كانت واعية، فصارت أوعية للعلوم، بما رُزقَت من صفاء الفهوم.
(أخبرنا): الشيخ الإمام رضيُّ الدين أبو الخير أحمد بن إسماعيل القزويني -إجازةً- قال: أنبأنا أبو سعيد محمدٌ الخليليُّ قال: أنبأنا القاضي أبو سعيدٍ محمد الفرخزاذي قال: أنبأنا أبو إسحاق أحمدُ بن محمد الثعالبيُّ قال: أنبأنا ابن فنجويه قال: حدثنا ابن حبان قال: حدثنا إسحاق بن محمد قال: حدثنا أبي قال: حدثنا إبراهيم بن عيسى قال: حدثنا علي بن علي قال: حدثنا أبو حمزةَ الثمالي قال: حدثني عبد الله بن الحسن. قال حينَ نزلت هذه الآية: ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ [الحاقَّة: 12] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعَلِيٍّ: «سألت الله سبحانه وتعالى أن يجعلها أذنك يا علي». قال علي: فما نسيتُ شيئًا بعد، وما كان لي أن أنسى.
قال أبو بكر الواسطي: آذان وعتْ عن الله تعالى أسراره، وقال أيضًا: واعيةٌ في معادنها ليس فيها غير ما شهدته شيءٌ، فهي الخالية عما سواه فما اضطراب الطبائع إلا ضرب من الجهل، فقلوب الصوفية واعية؛ لأنهم زهدوا في الدنيا بعد أن أحكموا أساس التقوى، فبالتقوى زكت نفوسهم، وبالزهد صفت قلوبهم، فلما عدموا شواغل الدنيا بتحقيق الزهد انفتحت مسامُّ بواطنهم، وسمعت آذان قلوبهم، وأعانهم على ذلك زهدهم في الدنيا، فعلماء التفسير وأئمة الحديث وفقهاء الإسلامِ أحاطوا علمًا بالكتاب والسنَّة، واستنبطوا منهما الأحكام، وردوا الحوادث المتجددة إلى أصول من النصوص، وحمى الله بهم الدين، وعرَّف علماء التفسير وجه التفسير، وعلم التأويل، ومذاهب العرب في اللغة، وغرائبَ النحو والتصريف، وأصول القَصَصِ، واختلاف وجوه القراءة، وصنَّفوا في ذلك الكتبَ فاتَّسع بطريقتهم علوم القرآن على الأمة.
وأئمة الحديث ميزوا بين الصحاح والحسان، وتفردوا بمعرفة الرواة وأسامي الرجال، وحكموا بالجرح والتعديل ليتبين الصحيح من السقيمِ، ويتميز المعوج من المستقيم، فيتحفظ بطريقِهم طريق الرواية والسند حفظًا للسنة، وانتدب الفقهاءُ لاستنباط الأحكام والتفريعِ في المسائل، ومعرفة التعليل ورد الفروع إلى الأصول بالعلل الجوامع، واستيعاب الحوادث بحكم النصوص، وتفرَّع من علم الفقه والأحكام علم أصول الفقه وعلم الخلاف، وتفرَّع من علم الخلاف علم الجدلِ، وأحوج علم أصول الفقه إلى شيء من علم أصول الدين، وكان من علمهم علم الفرائض، ولزم منه علم الحساب والجبر والمقابلة إلى غير ذلك، فتمهدت الشريعة وتأيدت واستقام الدين الحنيفي وتفرع وتأصل الهدي النبوي المصطفوي، فأنبتت أراضي قلوب العلماء الكلأَ والعشب، بما قبلت من مياه الحياة من الهدي والعلم، قال الله تعالى: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ [الرعد: 17]. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: الماء العلم، والأودية القلوب.
(قال أبو بكر الواسطي) رضى الله عنه: خلق الله تعالى درة صافية فلاحظها بعين الجلال فذابت حياء منه فسالت، فقال: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾. فصفاء القلوب من وصول ذلك الماء إليها.
وقال ابن عطاء: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾، هذا مثل ضربه الله تعالى للعبد، وذلك إذا سال السيل في الأودية لا يبقي في الأودية نجاسة إلا كنسها، وذهب بها، كذلك إذا سال النور الذي قسمه الله تعالى للعبدِ في نفسه لا تبقى فيه غفلة ولا ظلمة. ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾؛ يعني: قسمة النور، ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾؛ يعني: في القلوب الأنوار على ما قسم الله تعالى لها في الأزل، ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً﴾؛ فتصير القلوب منورة لا تبقى فيها جفوة. ﴿وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ [الرعد: 17]. تذهب البواطل وتبقى الحقائق.
وقال بعضهم: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾؛ أنواع الكرامات، فأخذ كل قلب بحظه ونصيبه. ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ﴾؛ قلوب علماء التفسير والحديث والفقه بقدرها، وسالت أودية قلوب الصوفية من العلماء الزاهدين في الدنيا، المتمسكين بحقائق التقوى بقدرها، فمن كان في باطنه لوث محبة الدنيا من فضول المال والجاه وطلب المناصب والرِّفعة سال وادي قلبه بقدره، فأخذ من العلم طرفًا صالحًا، وَلَمْ يحظَ بحقائق العلوم، ومن زهد في الدنيا اتسع وادي قلبه؛ فسالت فيه مياه العلوم واجتمعت وصارت أخاذات.
قيل للحسن البصري: هكذا قال الفقهاء؟ فقال: وهل رأيت فقيهًا قط؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا؛ فالصوفية أخذوا حظًّا من علم الدراسةِ، فأفادهم علم الدراسة العمل بالعلم، فلما عملوا بما علموا أفادهم العمل علم الوراثة، فهم مع سائر العلماء في علومهم، وتميزوا عنهم بعلوم زائدة هي علومُ الوراثة، وعلم الوراثة هو الفقه في الدين.
قال الله تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾ [التوبة: 122]. فصار الإنذارُ مستفادًا من الفقهِ، والإنذار إحياء المنذَرِ بماء العلم، والإحياءُ بالعلم رتبة الفقه في الدين، فصار الفقه في الدين من أكمل المراتب وأعلاها، وهو علم العالم الزاهد في الدنيا المتقي الذي يبلغُ رتبة الإنذار بعلمِه، فمورد العلم والهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوَّلًا: ورد عليه الهدى والعلم من الله تعالى، فارتوى بذلك ظاهرًا وباطنًا، فظهر من ارتواءِ ظاهرِه الدين، والدين: هو الانقيادُ والخضوعُ، مشتق من الدون، فكل شيء اتضع فهو دون، فالدين: أن يضع الإنسان نفسه لربه، قال الله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشُّورى: 13].
فبالتفرق في الدين يستولي الذبول على الجوارح، وتذهب عنها نضارة العلم، والنضارةُ في الظاهر بتزيين الجوارح بالانقياد في النفس والمال، مستفاد من ارتواء القلبِ والقلب في ارتوائه بالعلمِ بمثابة البحر، فصار قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعِلْم والهدى بحرًا موَّاجًا، ثم وصل من بحر قلبه إلى النفس، فظهر على نفسه الشريفة نضارة العلم وريُّه، فتبدلت نعوت النفس وأخلاقها، ثم وصل إلى الجوارح جدول، فصارت ريانة ناضرة، فلما استتمت نضارة وامتلأ رِيًّا بعثه الله تعالى إلى الخلق فأقبل على الأمة بقلبٍ مواج بمياه العلوم، واستقبل جداول الفهوم، وجرى من بحره في كل جدول قسط ونصيب، وذلك القسط الواصل إلى الفهوم هو الفقه في الدين.
روى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَا عُبِدَ اللهُ عز وجل بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي الدين، وَلَفَقِيهٌ واحد أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ عِمَادٌ، وَعِمَادُ هَذَا الدِّينِ الْفِقْهُ».
حدثنا شيخنا شيخ الإسلام أبو النجيب -إملاءً- قال: حدثنا سعيدُ بن حفص قال: حدثنا أبو طالب الزيني قال: أخبرتنا ريمة بنت أحمد بن محمد المروزية، قالت: أخبرنا أبو الهيثم قال: أخبرنا الفربري قال: أخبرنا البخاري قال: حدثنا ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن قال: سمعت معاويةَ خطيبًا يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ، وَاللهُ يُعْطِي».
قال الشيخ: إذا وصل العلم إلى القلب انفتح بصر القلب، فأبصر الحق والباطل، وتبين له الرشد من الغي. ولما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأعرابي: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزَّلزلة: 7، 8]. قال الأعرابي: حسبي حسبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقه الرَّجل».
وروى عبد الله بن عباس: أفضل العبادة الفقه في الدين. والحق سبحانه وتعالى جعل الفقه صفة القلب، فقال لهم: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ [الأعراف: 179]. فلما فقهوا علموا، ولما علموا عملوا، ولما عملوا عرفوا، ولما عرفوا اهتدَوْا، فكل من كان أفقهَ كانت نفسه أسرع إجابة وأكثر انقيادًا لمعالم الدين، وأوفر حظًا من نور اليقين؛ فالعلمُ جملةٌ موهوبة من الله للقلوب، والمعرفة تميز تلك الجملةِ، والهدى وجدان القلوب ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ» أخبر أنه وجد القلب النبوي العلم، وكان هاديًا مهديًّا وعلمه صلوات الله عليه منهمَا وراثة معجونة فيه من آدم أبي البشر صلى الله عليه وسلم، حيث علم الأسماء كلها والأسماء سمة الأشياء، فكرمه الله تعالى بالعلم، وقال تعالى: ﴿عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 5]. فآدم لِمَا ركب فيه من العلم والحكمة صار ذا الفهم والفطنة والمعرفة والرأفة واللطف والحب والبغض والفرح والغم والرضا والغضب والكياسة، ثم اقتضاه استعمال كل ذلك، وجعل لقلبه بصيرة واهتداء إلى الله تعالى بالنور الذي وهب له، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى الأمة بالنورِ الموروثِ والموهوب له خاصة، وقيل: لما خاطب الله السماوات والأرض بقوله: ﴿ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصِّلت: 11]. نطقَ من الأرض وأجاب موضع الكعبة، ومن السماء ما يحاذيها.
وَقَدْ قَالَ عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: أصل طينة رسول الله صلى الله عليه وسلم من سُرَّة الأرض بمكة، فقال بعض العلماء: هذا يُشعر بأن ما أجاب من الأرض ذَرَّة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، ومن موضع الكعبة دُحِيَتِ الأرض فصارَ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأصل في التكوين، والكائنات تبع له، وإلى هذا الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: «كنت نبيًّا وَآدَمُ بين الماء والطين». وفي رواية: «بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ».
وقيل: لذلك سمي أُمِّيًّا؛ لأن مكة أم القرى، وذَرَّتُه أُمُّ الخليقة، وتربة الشخص مدفنه، فكان يقتضي أن يكون مدفنه بمكة، حيث كانت تربته منها، ولكن قيل: الماء لما تموج رمى الزبد إلى النواحي فوقعت جوهرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يحاذي تربته بالمدينة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مكيًّا مدنيًّا حنينه إلى مكة وتربته بالمدينة. والإشارة فيما ذكرناه من ذَرَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف: 172]. ورد في الحديث أن الله تعالى مسح ظهر آدم، وأخرج ذريته منه كهيئة الذر، استخرج الذر من مسام شعر آدم فخرج الذر كخروج العَرَق. وقيل: كان المسح من بعض الملائكة، فأضاف الفعل إلى المسبب. وقيل: معنى القول بأنه مسح؛ أي أحصى كما تُحْصَى الأرض بالمساحة، وكان ذلك ببطن نعمان واد بجنب عرفة بين مكة والطائف، فلما خاطب الذر وأجابوا ببلى كتب العهد في ورق أبيض، وأشهد عليه الملائكة، وألقم الحجر الأسود، فكانت ذرة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي المجيبة من الأرض، والعلم والهدى فيه معجونان، فبُعِث بالعلم والهدى موروثًا له وموهوبًا. وقيل: لما بعث الله جبرائيل وميكائيل ليقبضا قبضة من الأرض فأبت حتى بعث الله تعالى عزرائيل فقبض قبضة من الأرض.
وكان إبليس قد وطئ الأرض بقدميه، فصار بعض الأرض بين قدميه، وبعض الأرض بين موضع أقدامه، فخُلِقَت النفس مما مس قدم إبليس، فصارت مأوى الشر، وبعضها لم يصل إليه قدم إبليس فمن تلك التربة أصل الأنبياء والأولياء. وكانت ذَرَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم موضع نظر الله تعالى من قبضة عزرائيل، لم يمسها قدم إبليس، فلم يصبه حظ الجهل، بل صار منزوع الجهل، موفَّرًا حظه من العلم، فبعثه الله تعالى بالهدى والعلم، وانتقل من قلبه إلى القلوب، ومن نفسه إلى النفوس، فوقعت المناسبة في أصل طهارة الطينة، ووقع التأليف بالتعارف الأول، فكل من كان أقرب مناسبة بنسبة طهارة الطينة كان أوفر حظًّا من قبول ما جاء به، فكانت قلوب الصوفية أقرب مناسبة فأخذت من العلم حظًّا وافرًا، وصارت بواطنهم أخاذات فعلموا، وعملوا كالأخاذ الذي يسقى منه ويزرع منه، وجمعوا بين فائدة علم الدراسة وعلم الوراثة بأحكام أساس التقوى.
ولما تزكت النفوس انجلت مرايا قلوبهم بما صقلها من التقوى، فانجلى فيها صور الأشياء على هيئتها وماهيتها، فبانت الدنيا بقبحها فرفضوها، وظهرت الآخرة بحسنها فطلبوها، فلما زهدوا في الدنيا انصبت إلى بواطنهم أقسام العلوم انصبابًا، وانضاف إلى علم الدراسة علم الوراثة.
واعلم، أن كل حال شريف نعزوه إلى الصوفية في هذا الكتاب هو حال المقرب، والصوفي هو المقرب، وليس في القرآن اسم الصوفي، واسم الصوفي تُرِك ووُضِع للمقرب على ما سنشرح ذلك في بابه، ولا يُعْرَف في طرفي بلاد الإسلام شرقًا وغربًا هذا الاسم لأهل القرب، وإنما يعرف للمتَرَسِّمين، وكم من الرجال المقربين في بلاد المغرب وبلاد تركستان وما وراء النهر ولا يسمون صوفية؛ لأنهم لا يتزيون بزي الصوفية، ولا مشاحة في الألفاظ، فيعلم أَنَّا نعني بالصوفية المقربين، فمشايخ الصوفية الذين أسماؤهم في الطبقات وغير ذلك من الكتب، كلهم كانوا في طريق المقربين وعلومهم علوم أحوال المقربين، ومن تطلع إلى مقام المقربين من جملة الأبرار فهو متصوف ما لم يتحقق بحالهم، فإذا تحقق بحالهم صار صوفيًّا ومن عداهما ممن تميز بزي ونسب إليهم فهو مُشْتَبِهٌ، وفوق كل ذي علم عليم.