قال الله تعالى: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة: 108]، هذا وصفُ أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل لهم: ماذا كنتم تصنعون حتى أثنى الله عليكم بهذا الثناء؟ قالوا: كنا نتبع الماء الحجر. وهذا وأشباه هذا من آداب وظيفة صوفية الربط، يلازمونه ويتأهدونه، والرباط بيتهم ومضربهم، ولكل قوم دار، والرباط دراهم، وقد شابهوا أهل الصفة في ذلك على ما أخبرنا أبو زرعة عن أبيه الحافظ المقدسي قال: أنا أحمد بن محمد البزازي قال: أنا عيسى بن علي الوزير قال: حدثنا عبد الله البغوي قال: حدثنا وهبان بن بقية قال: حدثنا خالد بن عبد الله عن داود بن أبي هند عن أبي الحرث حرب بن أبي الأسود عن طلحة رضى الله عنه قال: كان الرجل إذا قدم المدينة، وكان له بها عريف ينزل على عريفه، فإن لم يكن له بها عريف نزل الصفة، وكنت فيمن نزل الصفة. فالقوم في الرباط مرابطون، متفقون على قصد واحد وعزم واحد وأحوال متناسبة، ووضع الربط لهذا المعنى أن يكون سكانها بوصف ما قال الله تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ [الحجر: 47]. والمقابلة باستواء السر والعلانية، ومن أضمر لأخيه غِلًّا فليس بمقابله، وإن كان وجهه إليه، فأهل الصفة هكذا كانوا؛ لأن مثار الغل والحقد وجود الدنيا، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، فأهل الصفة رفضوا الدنيا، وكانوا لا يرجعون إلى زرع ولا إلى ضرع، فزالت الأحقاد والغل عن بواطنهم، وهكذا أهل الربط متقابلون بظواهرهم، ولهم بواطنهم، مجتمعون على الألفة والمودة، يجتمعون للكلام ويجتمعون للطعام، ويتعرفون بركة الاجتماع.
(روى) وحشي بن حرب عن أبيه عن جده، أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَأْكُلُ وَلَا نَشْبَعُ: «لَعَلَّكُمْ تفترقون على طعامكم، اجْتَمِعُوا، وَاذْكُرُوا اللهَ تعالى يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ».
(وروى) أنس بن مالك رضى الله عنه قال: ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خِوَان ولا في سكرجة ولا خبز له مرقق. فقيل: فعلى أي شيء كانوا يأكلون؟ قال: على السُّفَرِ. فالعباد والزهاد طلبوا الانفراد؛ لدخول الآفات عليهم بالاجتماع، وكون نفوسهم تفتلق للأهوية، والخوض فيما لا يعني، فرأوا السلامة في الوحدة.
والصوفية لقوة عملهم وصحة حالهم نُزِعَ عنهم ذلك، فَرَأَوا الاجتماع في بيوت الجماعة على السجادة، فسجادة كل واحد زاويته، وهَمُّ كل واحد مُهِمُّه، ولعل الواحد منهم لا يتخطى همُّه سجادتَه، ولهم في اتخاذ السجادة وجهٌ من السنة.
(روى) أبو سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيرًا من الليف يصلي عليه من الليل. وروت ميمونةُ -زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم- قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تُبْسَط له الخُمْرَة في المسجد حتى يصلي عليها. والرباط يحتوي على شبان وشيوخ وأصحاب خدمة وأرباب خلوة، فالمشايخ بالزوايا أليق نظرًا إلى ما تدعو إليه النفس من النوم والراحة، والاستبداد بالحركات والسكنات، فللنفس شوقٌ إلى التفرد والاسترسال في وجوه الرفق، والشاب يضيق عليه مجال النفس بالقعود في بيت الجماعة والانكشاف لنظر الأغيار؛ لتكثر العيون عليه، فيتقيد ويتأدب، ولا يكون هذا إلا إذا كان جمع الرباط في بيت الجماعة، مهتمين بحفظ الأوقات، وضبط الأنفاس، وحراسة الحواس، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل امرئ منهم يومئذٍ شأن يغنيه، كان عندهم من هَمِّ الآخرة ما يشغلهم عن اشتغال البعض بالبعض، وهكذا ينبغي لأهل الصدق والصوفية أن يكون اجتماعهم غير مضر بوقتهم، فإذا تخلل أوقاتَ الشبان اللغوُ واللغطُ فالأولى أن يلزم الشاب الطالب الوحدةَ والعزلةَ، ويؤثر الشيخُ الشابَّ بزاويته، وموضع خلوته؛ ليحبس الشاب نفسه عن دواعي الهوى والخوض فيما لا يعني، ويكون الشيخ في بيت الجماعة؛ لقوة حاله وصبره على مداراة الناس، وتخلصه من تبعات المخالطة، وحضور وقاره بين الجمع، فينضبط به الغير، ولا يتكدر هو.
وأما الخدمة فشأنُ من دخل الرباط مبتدئًا، ولم يذق طعم المعاملة، ولم يتنبه لنفائس الأحوال أن يؤمر بالخدمة؛ لتكون عبادته خدمته، ويجذب بحسن الخدمة قلوبَ أهل الله إليه، فتشمله بركة ذلك، ويعين الإخوان المشتغلين بالعبادة.
(قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون إخوة، يطلب بعضهم إلى بعض الحوائج، فيقضي بعضهم إلى بعض الحوائج، يقضي الله لهم حاجاتهم يوم القيامة». فيحتفظ بالخدمة عن البطالة التي تميت القلب، والخدمةُ عند القوم من جملة العمل الصالح، وهي طريقٌ من طرق المواجيد، تكسبهم الأوصاف الجميلة والأحوال الحسنة، ولا يرون استخدام من ليس من جنسهم، ولا متطلعًا إلى الاهتداء بهديهم.
(أخبرنا) الشيخ الثقة أبو الفتح قال: أنا أبو الفضل حميد بن أحمد قال: أنا الحافظ أبو نعيم قال: حدثنا سليمان بن أحمد قال: حدثنا علي بن عبد العزيز قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن شريك عن أبي هلال الطائي عن وثيق بن الرومي قال: كنت مملوكا لعمر بن الخطاب رضى الله عنه، فكان يقول لي: أسلم؛ فإنك إن أسلمت استعنتُ بك على أمانة المسلمين؛ فإنه لا ينبغي أن أستعين على أماناتهم بمن ليس منهم قال: فأبيتُ. فقال عمر: لا إكراه في الدين، فلما حضرته الوفاة أعتقني، فقال: اذهب حيث شئت، فالقوم يكرهون خدمة الأغيار، ويَأَبَوْنَ مخالطتهم أيضًا؛ فإن من لا يحب طريقهم ربما استضر بالنظر إليهم أكثر مما ينتفع، فإنهم بشر، وتبدو منهم أمور بمقتضى طبع البشر، وينكرها الغير؛ لقلة علمه بمقاصدهم، فيكون إباؤهم لموضع الشفقة على الخلق، لا من طريق التعزز والترفع على أحد من المسلمين، والشاب الطالب إذا خدم أهل الله المشغولين بطاعته يشاركهم في الثواب، وحيث لم يُؤَهَّل لأحوالهم السَّنية يخدم من أُهِّلَ لها، فخدمته لأهل القرب علامةُ حب الله تعالى.
(أخبرنا) الثقة أبو الفتح محمد بن سليمان قال: أنا أبو الفضل حُمَيْد بن أحمد قال: أنا الحافظ أبو نعيم قال: حدثنا أبو بكر بن خَلَّاد قال: حدثنا الحرث بن أبي أسامة قال: حدثنا معاوية بن عمرو قال: حدثنا أبو إسحاق عن حُمَيْد عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك قال حين دنا من المدينة: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ من مَسِير، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ». قَالُوا: وَهُمْ في الْمَدِينَةِ؟ قَالَ: «نعم، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ». فالقائم بخدمة القوم تَعَوَّق عن بلوغ درجتهم بعذر القصور، وعدم الأهلية، فحام حول الحمى باذلًا مجهودَه في الخدمة، يتعلل بالأثر حيث مُنِعَ النظر، فجزاه الله على ذلك أحسن الجزاء، وأناله من جزيل العطاء، وهكذا كان أهل الصفة يتعاونون على البر والتقوى، ويجتمعون على المصالح الدينية، ومواساة الإخوان بالمال والبدن.