روي أن داود عليه السلام لما ابتُلي بالخطيئة خَرَّ لله ساجدًا أربعين يومًا وليلة حتى أتاه الغفران من ربه، وقد تقرر أن الوحدة والعزلة مِلَاك الأمر ومُتَمَسَّك أرباب الصدق، فمن استمرت أوقاته على ذلك فجميع عمره خلوة، وهو الأسلم لدينه، فإن لم يتيسر له ذلك وكان مبتلى بنفسه أولًا ثم بالأهل والأولاد ثانيًا فليجعل لنفسه من ذلك نصيبًا.
(نُقِل) عن سفيان الثوري فيما روى أحمد بن حرب عن خالد بن زيد عنه أنه كان يقال: ما أخلص عبد لله أربعين صباحًا إلا أنبت الله سبحانه الحكمة في قلبه، وزهَّده الله في الدنيا، ورغَّبه في الآخرة، وبصَّره داء الدنيا ودواءها، فيتعاهد العبد نفسه في كل سنة مرة، وأما المريد الطالب إذا أراد أن يدخل الخلوة فأكمل الأمر في ذلك أن يتجرد من الدنيا، ويخرج كل ما يملكه، ويغتسل غسلًا كاملًا بعد الاحتياط للثوب والمصلى بالنظافة والطهارة، ويصلي ركعتين ويتوب إلى الله تعالى من ذنوبه ببكاء وتضرع، واستكانة وتخشع، ويسوي بين السريرة والعلانية، ولا ينطوي على غل وغش وحقد وحسد وخيانة، ثم يقعد في موضع خلوته، ولا يخرج إلا لصلاة الجمعة وصلاة الجماعة، فَتَرْكُ المحافظة على صلاة الجماعة غلط وخطأ، فإن وجد تفرقة في خروجه يكون له شخص يصلي معه جماعة في خلوته، ولا ينبغي أن يرضى بالصلاة منفردا ألبتة، فبترك الجماعة يُخشى عليه آفات، وقد رأينا من يتشوش عقله في خلوته، ولعل ذلك بشؤم إصراره على ترك صلاة الجماعة، غير أنه ينبغي أن يخرج من خلوته لصلاة الجماعة، وهو ذاكر لا يفتر عن الذكر، ولا يكثر إرسال الطرف إلى ما يرى، ولا يصغي إلى ما يسمع؛ لأن القوة الحافظة والمتخيلة كلوح ينتقش بكل مرئي ومسموع، فيكثر ذلك الوسواس وحديث النفس والخيال.
ويجتهد أن يحضر الجماعة بُحيث يدرك مع الإمام تكبيرة الإحرام، فإذا سلَّم الإمام وانصرف ينصرف إلى خلوته، ويتقي في خروجه استجلاء نظر الخلق إليه، وعلمهم بجلوسه في خلوته، فقد قيل: لا تطمع في المنزلة عند الله وأنت تريد المنزلة عند الناس، وهذا أصل ينفسد به كثير من الأعمال إذا أهمل، وينصلح به كثير من الأحوال إذا اعتبر، ويكون في خلوته جاعلًا وقته شيئًا واحدًا موهوبًا لله بإدامة فعل الرضا؛ إما تلاوة أو ذكرًا أو صلاة أو مراقبة، وأي وقت فتر عن هذه الأقسام ينام؛ فإن أراد تُعَيَّن أعداد من الركعات ومن التلاوة والذكر أتى بذلك شيئًا فشيئًا.
وإن أراد أن يكون بحكم الوقت يعتمد أخف ما على قلبه من هذه الأقسام، فإذا فتر عن ذلك ينام، وإن أراد أن يبقي سجودًا واحدًا أو ركوعًا واحدًا أو ركعة واحدة أو ركعتين ساعة أو ساعتين فعل، ويلازم في خلوته إدامة الوضوء، ولا ينام إلا عن غلبة بعد أن يدفع النوم عن نفسه مرات، فيكون هذا شغله ليله ونهاره، وإذا كان ذاكرًا لكلمة لا إله إلا الله وسئمت النفس الذكر باللسان يقولها بقلبه من غير حركة اللسان، وقد قال سهل بن عبد الله: إذا قلتَ: لا إله إلا الله مد الكلمة، وانظر إلى قدم الحق فأثبته، وأبطل ما سواه، وليعلم أن الأمر كالسلسلة يتداعى حلقة حلقة، فليكن دائم التلزم بفعل الرضا.
وأما قوت من في الأربعينية والخلوة فالأولى أن يقتنع بالخبز والملح، ويتناول كل ليلة رطلًا واحدًا بالبغدادي يتناوله بعد العشاء الآخرة، وإن قسمه نصفين يأكل أول الليل نصف رطل، وآخر الليل نصف رطل، فيكون ذلك أخف للمعدة، وأعون على قيام الليل وإحيائه بالذكر والصلاة، وإن أراد تأخير فطوره إلى السحر فليفعل، وإن لم يصبر على ترك الإدام يتناول الإدام، وإن كان الإدام شيئًا يقوم مقام الخبز يُنْقِص من الخبز بقدر ذلك، وإن أراد التقلل من هذا القدر -أيضًا- ينقص كل ليلة دون اللقمة بحيث ينتهي تقلله في العشر الأخير من الأربعين إلى نصف رطل، وإن قوي قنع النفس بنصف رطل من أول الأربعين ونقص يسيرًا كل ليلة بالتدريج حتى يعود فطوره إلى الربع رطل في العشر الأخير.
(وقد اتفق) مشايخ الصوفية على أن بناء أمرهم على أربعة أشياء: قلة الطعام، وقلة المنام، وقلة الكلام، والاعتزال عن الناس. وقد جعل للجوع وقتان أحدهما آخر الأربع والعشرين ساعة، فيكون من الرطل لكل ساعتين أوقية بأكلة واحدة، يجعلها بعد العشاء الآخرة أو يقسمها أكلتين -كما ذكرنا- والوقت الآخر على رأس اثنتين وسبعين ساعة، فيكون الطي ليلتين، والإفطار في الليلة الثالثة، ويكون لكل يوم وليلة ثلث رطل وبين هذين الوقتين وقت، وهو أن يفطر من كل ليلتين ليلة، ويكون لكل يوم وليلة نصف رطل، وهذا ينبغي أن يفعله إذا لم ينتج ذلك عليه سآمة وضجرًا وقلة انشراح في الذكر والمعاملة، فإذا وجد شيئًا من ذلك فليفطر كل ليلة، ويأكل الرطل في الوقتين أو الوقت الواحد، فالنفس إذا أُخِذَت بالإفطار من كل ليلتين ليلة، ثم رُدَّت إلى الإفطار كل ليلة تقنع، وإن سومحت بالإفطار كل ليلة لا تقنع بالرطل وتطلب الإدام والشهوات، وقس على هذا، فهي إن أُطْمِعَت طَمِعَت، وإن أُقْنِعَت قَنَعت.
(وقد كان) بعضهم يُنقص كل ليلة حتى يرد النفس إلى أقل قوتها، ومن الصالحين من كان يُعَيِّر القوت بنوى التمر، وينقص كل ليلة نواة، ومنهم من كان يعير بعود رطب وينقص كل ليلة بقدر نشاف العود، ومنهم من كان ينقص كل ليلة ربع سبع الرغيف حتى يفني الرغيف في شهر، ومنهم من كان يؤخر الأكل ولا يعمل في تقليل القوت، ولكن يعمل في تأخيره بالتدريج حتى تندرج ليلة في ليلة، وقد فعل ذلك طائفة حتى انتهى طيهم إلى سبعة أيام وعشرة أيام وخمسة عشر يومًا إلى الأربعين، وقد قيل لسهل بن عبد الله: هذا الذي يأكل في كل أربعين وأكثر أكلة، أين يذهب لهب الجوع عنه؟ قال: يطفئه النور. وقد سألتُ بعض الصالحين عن ذلك فذكر لي كلامًا بعبارة دلت على أنه يجد فرحًا بربه يتطفأ معه لهب الجوع. وهذا في الخلق واقع أن الشخص يطرقه فرح وقد كان جائعًا فيذهب عنه الجوع، وهكذا في طرق الخوف يقع ذلك، ومن فعل ذلك ودرج نفسه في شيء من هذه الأقسام التي ذكرناها لا يُؤَثِّر ذلك في نقصان عقله واضطراب جسمه إذا كان في حماية الصدق والإخلاص، وإنما يخشى في ذلك وفي دوام الذكر على من لا يُخلص لله تعالى.
وقد قيل: حد الجوع ألَّا يميز بين الخبز وغيره مما يؤكل، ومتى عَيَّبت النفس الخبز فليس بجائع، وهذا المعنى قد يوجد في آخر الحدين بعد ثلاثة أيام، وهذا جوع الصديقين، وطلب الغذاء عند ذلك يكون ضرورة لقوام الجسد والقيام بفرائض العبودية، ويكون هذا حد الضرورة لمن لا يجتهد في التقليل بالتدريج، فأمَّا من درج نفسه في ذلك فقد يصبر على أكثر من ذلك إلى الأربعين، كما ذكرنا.
وقد قال بعضهم: حد الجوع أن يبزق، فإذا لم يقع الذباب على بزاقه يدل هذا على خلو المعدة من الدسومة، وصفاء البزاق كالماء الذي لا يقصده الذباب.
روي أن سفيان الثوري وإبراهيم بن أدهم -رضي الله عنهما- كانا يطويان ثلاثًا ثلاثًا، وكان أبو بكر الصديق رضى الله عنه يطوي ستًّا، وكان عبد الله بن الزبير رضى الله عنه يطوي سبعة أيام.
(واشتهر) حال جدنا محمد بن عبد الله -المعروف بعموية رحمه الله، وكان صاحب أحمد الأسود الدينوري- أنه كان يطوي أربعين يومًا، وأقصى ما بلغ في هذا المعنى الطي رجل أدركنا زمانه وما رأيته كان في أبهر، يقال له: الزاهد خليفة، كان يأكل في كل شهر لوزة، ولم نسمع أنه بلغ في هذه الأمة أحد بالطي والتدريج إلى هذا الحد، وكان في أول أمره على ما حكي ينقص القوت بنشاف العود، ثم طوى حتى انتهى إلى اللوزة في الأربعين، ثم أنه قد يسلك هذا الطريق جمع من الصادقين، وقد يسلك غير الصادق هذا لوجود هوًى مستكن في باطنه، يهون عليه ترك الأكل إذا كان له استجلاء لنظر الخلق، وهذا عين النفاق، نعوذ بالله من ذلك، والصادق ربما يقدر على الطي إذا لم يعلم بحاله أحد، وربما تضعف عزيمته في ذلك إذا علم بأنه يطوي؛ فإن صدقه في الطي ونظره إلى من يطوي لأجله يهون عليه الطي، فإذا علم به أحد تضعف عزيمته في ذلك، وهذا علامة الصادق، فمهما أحس في نفسه أنه يحب أن يُرَى بعين التقلل فليتهم نفسه؛ فإن فيه شائبة النفاق، ومن يطوي لله يعوضه الله تعالى فرحًا في باطنه ينسيه الطعام.
وقد لا ينسى الطعام، ولكن امتلاء قلبه بالأنوار يقوي جاذب الروح الروحاني، فيجذبه إلى مركزه ومستقره من العالم الروحاني، وينفر بذلك عن أرض الشهوة النفسانية، وأما أثر جاذب الروح إذا تَخَلَّف عنه جاذبُ النفس عند كمال طمأنينتها وانعكاس أنوار الروح عليها بواسطة القلب المستنير، فَأجلُّ من جذب المغناطيس للحديد؛ إذ المغناطيس يجذب الحديد؛ لروح في الحديد مشاكل للمغناطيس، فيجذبه بنسبة الجنسية الخاصة، فإذا تجنست النفس بعكس نور الروح الواصل إليها بواسطة القلب يصير في النفس روح استمدها القلب من الروح، وأداها إلى النفس، فتجذب الروح النفس بجنسية الروح الحادثة فيها، فيزدري الأطعمة الدنيوية والشهوات الحيوانية، ويتحقق عنده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَبِيتُ عند رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي».
ولا يقدر على ما وصفناه إلا عبد تصير أعماله وأقواله وسائر أحواله ضرروة، فيتناول من الطعام أيضًا ضرورة، ولو تكلم مثلًا بكلمة من غير ضرورة التهب فيه نار الجوع التهاب الحَلْفَاء بالنار؛ لأن النفس الراقدة تستيقظ بكل ما يوقظها، وإذا استيقظت نزعت إلى هواها، فالعبد المراد بهذا إذا فطن لسياسة النفس ورزق العلم سهل عليه الطي، وتداركته المعونة من الله تعالى؛ لا سيما إن كوشف بشيء من المنح الإلهية.
وقد حكى لي فقير أنه اشتد به الجوع، وكان لا يطلب ولا يتسبب، قال: فلما انتهى جوعي إلى الغاية بعد أيام فتح الله عَلَيَّ بتفاحة قال: فتناولت التفاحة وقصدت أكلها، فلما كسرتها كوشفت بحوراء نظرت إليها عقيب كسرها، فحدث عندي من الفرح بذلك ما استغنيت عن الطعام أيامًا. وذكر لي أن الحوراء خرجت من وسط التفاحة، والإيمان بالقدرة ركن من أركان الإيمان، فَسَلِّم ولا تُنْكِر.
(وقال) سهل بن عبد الله -رحمه الله-: من طوى أربعين يومًا ظهرت له القدرة من الملكوت، وكان يقال: لا يزهد العبد حقيقةَ الزهد الذي لا مشوبة فيه إلا بمشاهدة قدرة من الملكوت، وقال الشيخ أبو طالب المكي -رحمه الله-: عرفنا من طوى أربعين يومًا برياضة النفس في تأخير القوت، وكان يؤخر فطره كل ليلة إلى نصف سبع الليل حتى يطوي ليلة في نصف شهر، فيطوي الأربعين في سنة وأربعة أشهر، فتتدرج الأيام والليالي حتى يكون الأربعين بمنزلة يوم واحد.
وذُكِر لي: أن الذي فعل ذلك ظهرت له آيات من الملكوت وكوشف بمعاني قدرة من الجبروت تجلَّى الله بها له كيف شاء.
واعلم أن هذا المعنى من الطي والتقلل لو أنه عين الفضيلة ما فات أحدًا من الأنبياء، ولكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغ من ذلك إلى أقصى غاياته؛ ولا شك أن لذلك فضيلة لا تنكر، ولكن لا ينحصر مواهب الحق تعالى في ذلك، فقد يكون من يأكل كل يوم أفضل ممن يطوي أربعين يومًا، وقد يكون من لا يُكاشف بشيء من معاني القدرة أفضل ممن يكاشف بها إذا كاشفه الله بصرف المعرفة، فالقدرة أثر من القادر، ومن أُهِّلَ لقرب القادر لا يستغرب ولا يستنكر شيئًا من القدرة، ويرى القدرة تتجلى له من سجف أجزاء علم الحكمة، فإذا أخلص العبد لله تعالى أربعين يومًا واجتهد في ضبط أحواله بشيء من الأنواع التي ذكرنا من العمل والذكر والقوت وغير ذلك تعود بركة تلك الأربعين على جميع أوقاته وساعاته، وهو طريق حسن اعتمده طائفة من الصالحين، وكان جماعة من الصالحين يختارون للأربعين ذا القعدة وعشر ذي الحجة، وهي أربعون موسى عليه السلام.
(أخبرنا) شيخنا ضياء الدين أبو النجيب -إجازة- قال: أنا أبو منصور محمد بن عبد الملك ابن خيرون -إجازة- قال: أنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري -إجازة- قال: أنا أبو عمر محمد بن العباس قال: حدثنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد قال: حدثنا الحسين بن الحسن المروزي قال: حدثنا عبد الله بن المبارك قال: حدثنا أبو معاوية الضرير قال: حدثنا الحجاج عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أخلص لله تعالى العبادة أربعين يومًا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه».