من أحسن أخلاق الصوفية التواضع، ولا يلبس العبد لُبْسة أفضل من التواضع، ومن ظفر بكنز التواضع والحكمة يقيم نفسه عند كل أحد مقدارًا يعلم أنه يقيمه، ويقيم كل أحد على ما عنده من نفسه، ومن رزق هذا فقد استراح وأراح، وما يعقلها إلا العالمون.
(أخبرنا) أبو زرعة عن أبيه الحافظ المقدسي قال: أنا عثمان بن عبد الله قال: أنا عبد الرحمن بن إبراهيم قال: حدثنا عبد الرحمن بن حمدان قال: حدثنا أبو حاتم الرازي قال: حدثنا النضر بن عبد الجبار قال: أنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سنان بن سعد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللهَ تعالى أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا، وَلَا يَبْغِي بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ».
وقال — في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي﴾
[آل عمران: 31]، قال: «على البر والتقوى والرهبة وذلة النفس».
(وكان) من تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيب دعوة الحر والعبد، ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن أو فخذ أرنب، ويكافئ عليها ويأكلها، ولا يستكبر عن إجابة الأَمَةِ والمسكين.
(وأخبرنا) أبو زرعة -إجازة- عن ابن خلف -إجازة- عن السلمي قال: أنا أحمد بن علي المقري قال: أنا محمد بن المنهال قال: حدثني أبي عن محمد بن جابر اليماني عن سليمان بن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من رأس التواضع أن تبدأ بالسلام على من لقيت، وترد على من سلم عليك، وأن ترضى بالدون من المجلس وألَّا تحب المدحة والتزكية والبر».
(وورد) -أيضًا- عنه عليه السلام: «طُوبَى لِمَنْ تَوَاضَعَ مِنْ غَيْرِ مَنْقَصَةٍ، وَذَلَّ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مَسْكَنَةٍ».
(سُئِل الجُنَيد) عن التواضع. فقال: خفض الجناح ولِينُ الجانب.
(وسُئِل) الفُضَيْل عن التواضع. فقال: تخضع للحق، وتنقاد له، وتقبله ممن قاله، وتسمع منه.
(وقال أيضًا): من رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب.
(وقال) وهب بن مُنَبِّه: مكتوب في كُتِب الله: إني أخرجت الذر من صلب آدم فلم أجد قلبًا أشد تواضعًا إلي من قلب موسى عليه السلام فلذلك اصطفيته وكلمته.
(وقيل:) من عرف كوامن نفسه لم يطمع في العلو والشرف، ويسلك سبيل التواضع، فلا يخاصم من يذمه، ويشكر الله لمن يحمده.
وقال أبو حفص: من أحب أن يتواضع قلبه فيصحب الصالحين، وليلتزم بحرمتهم، فمن شدة تواضعهم في أنفسهم يقتدي بهم ولا يتكبر.
(وقال لقمان عليه السلام): لكل شيء مطية، ومطية العمل التواضع.
وقال النوري: خمسة أنفس أعز الخلق في الدنيا: عالم زاهد، وفقيه صوفي، وغني متواضع، وفقير شاكر، وشريف سني.
(وقال الجلاء): لولا شرف التواضع كنا إذا مشينا نخطر.
وقال يوسف بن أسباط وقد سئل: ما غاية التواضع؟ قال: أن تخرج من بيتك فلا تلقى أحدًا إلا رأيته خيرًا منك.
ورأيت شيخنا ضياء الدين أبا النجيب وكنت معه في سفرة إلى الشام، وقد بعث بعض أبناء الدين له طعامًا على رءوس الأسارى من الإفرنج، وهم في قيودهم، فلما مدت السفرة والأسارى ينتظرون الأواني حتى تفرغ قال للخادم: أحضر الأسارى حتى يقعدوا على السفرة مع الفقراء، فجاء بهم وأقعدهم على السفرة صفًّا واحدًا، وقام الشيخ من سجادته ومشى إليهم، وقعد بينهم كالواحد منهم فأكل وأكلوا، وظهر لنا على وجهه ما نازل باطنه من التواضع لله والانكسار في نفسه، وانسلاخه من التكبر عليهم بإيمانه وعلمه وعمله.
(أخبرنا) أبو زرعة -إجازة- عن أبي بكر بن خلف -إجازة- عن السلمي قال: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت الجريري يقول: صَحَّ عند أهل المعرفة أن للدين رأس مال؛ خمسة في الظاهر، وخمسة في الباطن. فأما اللواتي في الظاهر: فصدق في اللسان، وسخاوة في الملك، وتواضع في الأبدان، وكف الأذى واحتماله بلا إباء. وأما اللواتي في الباطن: فحب وجود سيده، وخوف الفراق من سيده، ورجاء الوصول إلى سيده، والندم على فعله، والحياء من ربه.
وقال يحيى بن معاذ: التواضع في الخَلْق حسن، ولكن في الأغنياء أحسن، والتكبر سَمِج في الخلق، ولكن في الفقراء أسمج.
(وقال ذو النون): ثلاثة من علامات التواضع: تصغير النفس معرفةً بالعيب، وتعظيم الناس حرمةً للتوحيد، وقبول الحق والنصيحة من كل واحد.
(وقيل) لأبي يزيد: متى يكون الرجل متواضعًا؟ قال: إذا لم ير لنفسه حقًّا ما، ولا حالًا من علمه بشرها وازدرائها، ولا يرى أن في الخلق شرًّا منه.
(قال) بعض الحكماء: وجدنا التواضع مع الجهل، والبخل أحمد من الكبر مع الأدب والسخاء. وقيل لبعض الحكماء: هل تعرف نعمة لا يحسد عليها، وبلاء لا يرحم صاحبه عليه؟ قال: نعم. أما النعمة فالتواضع، وأما البلاء فالكبر. والكشف عن حقيقة التواضع أن التواضع رعاية الاعتدال بين الكبر والضعة. فالكبر رَفْعُ الإنسان نفسه فوق قدره، والضعة وَضْع الإنسان نفسه مكانا يزري به ويفضي إلى تضييع حقه. وقد انفهم من كثير من إشارات المشايخ في شرح التواضع أشياء إلى حد أقاموا التواضع فيه مقام الضعة، ويلوح فيه الهوى من أوج الإفراط إلى حضيض التفريط، ويوهم انحرافًا عن حد الاعتدال، ويكون قصدهم في ذلك المبالغة في قمع نفوس المريدين خوفًا عليهم من العجب والكبر، فَقَلَّ أن ينفكَّ مريد في مبادي ظهور سلطان الحال من العجب، حتى لقد نُقِل عن جمع من الكبار كلمات مؤذية بالإعجاب. وكل ما نقل من ذلك القبيل من المشايخ لبقايا السكر عندهم، وانحصارهم في مضيق سكر الحال، وعدم الخروج إلى فضاء الصحو في ابتداء أمرهم، وذلك إذا حَدَّق صاحب البصيرة نظره يعلم أنه مِنِ استراقِ النفسِ السمعَ عند نزول الوارد على القلب، والنفسُ إذا استرقتِ السمعَ عند ظهور الوارد على القلب ظهرت بصفتها على وجهٍ لا يجفو على الوقت وصلاقة الحال فيكون من ذلك كلمات مؤذنة بالعجب، كقول بعضهم: مَن تحت خضراء السماء مثلي. وقول بعضهم: قدمي على رقبة جميع الأولياء.
وكقول بعضهم: أَسْرَجْتُ وأَلْجَمْتُ وطُفْتُ في أقطار الأرض، وقلتُ: هل مِن مبارزٍ؟ فلم يخرج إليَّ أحد. إشارةً منه في ذلك إلى تفرده في وقته.
ومن أشكل عليه ذلك ولم يعلم أنه من استراقِ النفسِ السمعَ فليزن ذلك بميزان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواضعهم، واجتنابهم أمثال هذه الكلمات، واستبعادهم أن يجوز للعبد التظاهر بشيء من ذلك، ولكن يجعل لكلام الصادقين وجه في الصحة، ويقال: إن ذلك طفح عليهم في سُكر الحال، وكلام السكارى يحمل. فالمشايخ أرباب التمكين، لمَّا علموا في النفوس هذا الداء الدفين بالغوا في شرح التواضع إلى حد ألحقوه بالضعة تداويًا للمريدين، والاعتدال في التواضع أن يَرْضَى الإنسان بمنزلة دوين ما يستحقه، ولو أمن الشخص جموحَ النفس لأوقفها على حد يستحقه من غير زيادة ولا نقصان، ولكن لما كان الجموح في جِبِلَّة النفس لكونها مخلوقة من صلصال كالفخار فيها نسبة النارية، وطلب الاستعلاء بطبعها إلى مركز النار؛ احتاجت للتداوي بالتواضع وإيقافها دوين ما تستحقه؛ لئلا يتطرق إليها الكبر، فالكبر ظن الإنسان أنه أكبر من غيره، والتكبر إظهاره ذلك، وهذه صفة لا يستحقها إلا الله تعالى، ومن ادعاها من المخلوقين يكون كاذبًا، والكبر يتولد من الإعجاب، والإعجاب من الجهل بحقيقة المحاسن، والجهل الانسلاخ من الإنسانية حقيقة، وقد عَظَّم الله تعالى شأن الكبر بقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ﴾ [النحل: 23].
وقال تعالى: ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ [الزُّمر: 60].
وقد ورد بقول الله تعالى: «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِد مِنْهُمَا قصمته». وفي رواية: «قذفته في نار جهنم».
وقال عز وجل ردًّا للإنسان في طغيانه إلى حده: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ [الإسراء: 37].
وقال تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾
[الطًّارق: 5، 6].
وأبلغ من قوله تعالى: ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾ [عبس: 17- 19].
وقد قال بعضهم لبعض المتكبرين: أولك نطفة مَذِرَة، وآخرك جيفة قَذِرَة، وأنت فيما بين ذلك حامل العَذِرَة.
وقد نظم الشاعر هذا المعنى:
كيف يزهو من رجيعه |
* | أبد الدهر ضجيعه |
وإذا ارتحل التواضع من القلب، وسكن الكبر انتشر أثره في بعض الجوارح، ويرشح الإناء بما فيه، فتارة يظهر أثره في العنق بالتمايل، وتارة في الخد بالتَّصْعِير. قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ [لقمان: 18].
وتارة يظهر في الرأس عند استعصاء النفس. قال الله تعالى: ﴿لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾ [المنافقون: 5].
وكما أن الكِبْر له انقسام على الجوارح والأعضاء، تتشعب منه شعب، فكذلك بعضها أكثف من البعض كالتيه والزهو والعزة وغير ذلك، إلا أن العزة تشتبه بالكِبْر من حيث الصورة، وتختلف من حيث الحقيقة، كاشتباه التواضع بالضعة، والتواضع محمود، والضعة مذمومة، والكِبْر مذموم، والعزة محمودة.
قال الله تعالى: ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: 8].
والعزة غير الكبر، ولا يحل لمؤمن أن يذل نفسه، فالعزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه وإكرامها ألَّا يضعها لأغراض عاجلة دنيوية، كما أن الكِبْر جهل الإنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلتها.
(قال بعضهم) للحسن: ما أعظمك في نفسك، قال: لست بعظيم ولكني عزيز. ولما كانت العزة غير مذمومة، وفيها مشاكلة بالكبر قال الله تعالى: ﴿تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [الأحقاف: 20]. فيه إشارة خفية لإثبات العزة بالحق، فالوقوف على حد التواضع من غير انحراف إلى الضعة وقوفٌ على صراط العزة المنصوب على متن نار الكِبْر، ولا يؤيد في ذلك ولا يثبت عليه إلا أقدام العلماء الراسخين والسادة المقربين ورؤساء الأبدال والصديقين.
(قال بعضهم): من تكبر فقد أخبر عن نذالة نفسه، ومن تواضع فقد أظهر كرم طبعه.
(وقال الترمذي): التواضع على ضربين: الأول: أن يتواضع العبد لأمر الله ونهيه؛ فإن النفس لطلب الراحة تتلهى عن أمره، والشهوة التي فيها تهوي في نهيه، فإذا وضع نفسه لأمره ونهيه فهو تواضع.
والثاني: أن يضع نفسه لعظمة الله، فإن اشتهت نفسه شيئًا مما أطلق له من كل نوع من الأنواع منعها ذلك، وجملة ذلك أن يترك مشيئته لمشيئة الله تعالى.
واعلم أن العبد لا يبلغ حقيقة التواضع إلا عند لَمَعَانِ نور المشاهدة في قلبه، فعند ذلك تذوب النفس، وفي ذوبانها صفاؤها من غش الكبر والعجب، فتلين وتطيع للحق والخلق لمحو آثارها وسكون وهجها وغبارها، وكان الحظ الأوفر من التواضع لنبينا عليه السلام في أوطان القرب، كما روي عن عائشة -رضي الله عنها- في الحديث الطويل قالت: فقدتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فأخذني ما يأخذ النساء من الغيرة، ظنًّا مني أنه عند بعض أزواجه، فطلبته في حُجَرِ نسائه فلم أجده، فوجدته في المسجد ساجدًا كالثوب الخَلِق، وهو يقول في سجوده: «سجد لك سوادي وخيالي، وآمن بك فؤادي، وقَرَّ بِكَ لساني، وها أنا ذا بين يديك، يا عظيم، يا غافر الذنب العظيم». وقوله عليه السلام: «سجد لك سوادي وخيالي». استقصاء في التواضع بمحو آثار الوجود؛ حيث لم تتخلف ذرة منه عن السجود ظاهرًا وباطنًا ومتى لم يكن للصوفي حظ من التواضع الخاص على بساط القرب لا يتوفر حظه من التواضع للخلق، وهذه سعادات إن أقبلت جاءت بكليتها، والتواضع من أشرف أخلاق الصوفية.
(ومن أخلاق الصوفية) المداراة، واحتمال الأذى من الخلق، وبلغ من مداراة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وجد قتيلًا من أصحابه بين اليهود فلم يَحِفْ عليهم، ولم يزد على مُرِّ الحق بل وداه بمئة ناقة من قِبَلِه، وإن بأصحابه لحاجة إلى بعير واحد يتقوون به.
وكان من حسن مداراته ألَّا يَذُمَّ طعامًا ولا ينهر خادمًا.
(أخبرنا) الشيخ العالم ضياء الدين عبد الوهاب بن علي قال: أنا أبو الفضل الكرخي قال: أنا أبو نصر الترياقي قال: أنا الجراحي قال: أنا أبو العباس المحبوبي قال: أنا أبو عيسى الترمذي قال: حدثنا قتيبة قال: حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أُفٍّ قط، وما قال لي لشيء صنعته لم صنعته، ولا لشيء تركته لم تركته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقًا، وما مسست خزًّا قط ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مسكًا قط ولا عطرًا كان أطيب من عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالمداراة مع كل أحد من الأهل والأولاد والجيران والأصحاب والخلق كافة من أخلاق الصوفية، وباحتمال الأذى يظهر جوهر النفس، وقد قيل: لكل شيء جوهر، وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر.
(أخبرنا) أبو زرعة طاهر عن أبيه الحافظ المقدسي قال: أنا أبو محمد الصرفيني قال: أنا أبو القاسم عبيد الله بن حبابة قال: أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز قال: حدثنا علي بن الجعد قال: أنا شعبة عن الأعمش عن يحيى بن وَثَّاب عن شيخٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -قلت: من هو؟ قال: ابن عمر- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«المؤمن الذي يعاشر الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم».
(وفي الخبر): «أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمٍ؟». قيل: ماذا كان يصنع أبو ضمضم؟ قَالَ: «كَانَ إذا أصبح قَالَ: اللهم إني تصدقت اليوم بعِرْضِي على من ظلمني، فمن ضربني لا أضربه، ومن شتمني لا أشتمه، ومن ظلمني لا أظلمه».
(وأخبرنا) ضياء الدين عبد الوهاب قال: أنا أبو الفتح الهروي قال: حدثنا الترياقي قال: أنا الجراحي قال: أنا المحبوبي قال: أنا أبو عيسى الترمذي قال: حدثنا ابن أبي عمر قال: حدثنا سفيان عن محمد بن المنكدر عن عروة عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتِ: اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم -وَأَنَا عِنْدَهُ- فَقَالَ: «بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ» -أَوْ: «أَخُو الْعَشِيرَةِ-». ثُمَّ أَذِنَ لَهُ، فَأَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ فَلَمَّا خَرَجَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْتَ لَهُ مَا قُلْتَ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْقَوْلَ؟ قَالَ «يَا عَائِشَةُ، إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْ يتركه النَّاسُ -أَوْ: يدعه النَّاسُ- اتِّقَاءَ فُحْشِهِ».
(وروى) أبو ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».
فما من شيء يستدل به على قوة عقل الشخص ووفور علمه وحلمه كحسن المداراة، والنفس لا تزال تشمئز ممن يعكس مرادها، ويستفزها الغيظ والغضب، وبالمداراة قطع حمة النفس، ورد طيشها ونفورها.
وقد ورد: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَي الْحُورِ شَاءَ».
وروى جابر رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ على مَنْ تَحْرم النَّار؟ عَلَى كُلِّ هَيِّنٍ، لَيِّنٍ، سَهْلٍ، قَرِيبٍ».
(وروى) أبو مسعود الأنصاري رضى الله عنه قال: أتي النبي عليه السلام بِرَجُلٍ فكلمه فأرعد، فقال: «هَوِّنْ عَلَيْكَ؛ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ من قريش كانت تَأْكُلُ الْقَدِيدَ».
(وعن بعضهم) في معنى لين جانب الصوفية:
هينون لينون أيسار بنو يسر |
* | سواس مكرمة أبناء إيسار |
لا ينطقون عن الفحشاء إن نطقوا |
* | ولا يمارون إن ماروا بإكثار |
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم |
* | مثل النجوم التي يسري بها الساري |
(وروى) أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ».
(حدثنا) شيخنا ضياء الدين أبو النجيب -إملاء- قال: حدثنا أبو عبد الرحمن محمد بن أبي عبد الله الماليني قال: أنا أبو الحسين عبد الرحمن بن أبي طلحة الداودي قال: أنا أبو محمد عبد الله الحموي السرخسي قال: أنا أبو عمران عيسى بن عمر السمرقندي قال: أنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال: أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قال: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ قَالَ: زَحَمْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَفِي رِجْلِي نَعْلٌ كَثِيفَةٌ، فَوَطِئْتُ بِهَا عَلَى رِجْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَفَحَنِي نَفْحَةً بِسَوْطٍ فِي يَدِهِ، وَقَالَ:«بِسْمِ اللهِ، أَوْجَعْتَنِي»، قال: فَبِتُّ لِنَفْسِي لَائِمًا، أَقُولُ: أَوْجَعْتُ رَسُولَ الله،ِ قَالَ: فَبِتُّ بِلَيْلَةٍ كَمَا يَعْلَمُ اللهُ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا رَجُلٌ يَقُولُ: أَيْنَ فُلَانٌ؟ قُلْتُ: هَذَا وَاللهِ الَّذِي كَانَ مِنِّي بِالأَمْسِ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مُتَخَوِّفٌ، فَقَالَ لِي: «إِنَّكَ وَطِئْتَ بِنَعْلِكَ عَلَى رِجْلِي بِالأَمْسِ فَأَوْجَعْتَنِي، فَنَفَحْتُكَ نَفْحَةً بِالسَّوْطِ، فَهَذِهِ ثَمَانُونَ نَعْجَةً فَخُذْهَا بِهَا».
ومن أخلاق الصوفية الإيثار والمواساة، ويحملهم على ذلك فرط الشفقة والرحمة طبعًا، وقوة اليقين شرعًا، يُؤْثِرون بالموجود، ويصبرون على المفقود.
قال أبو يزيد البسطامي: ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بَلْخ، قدم علينا حاجًّا، فقال لي: يا أبا يزيد، ما حد الزهد عندكم؟ قلت: إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا. فقال: هكذا عندنا كلاب بلخ. فقلت له: وما حد الزهد عندكم؟ قال: إذا فقدنا شكرنا، وإذا وجدنا آثرنا.
(وقال ذو النون): من علامة الزهد المشروح صدره ثلاث: تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار بالقوت.
(روى) عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النضير للأنصار: «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم، ولم نقسم لكم شيئًا من الغنيمة». فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة، ولا نشاركهم فيها. فأنزل الله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9].
وروى أبو هريرة رضى الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصابه جهد، فقال: يا رسول الله إني جائع فأطعمني، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أزواجه: «هل عندكن شيء؟» فكلهن قلن: والذي بعثك بالحق نبيًّا ما عندنا إلا الماء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عندنا ما نطعمك هذه الليلة». ثم قال: «مَنْ يُضِيفُ هَذَا هذه اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللهُ؟» فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله، فأتى به منزله، فقال لأهله: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكرميه، ولا تدخري عنه شيئًا. فقالت: ما عندنا إلا قوت الصِّبْيَة، فقال: فقومي عَلِّليهم عن قُوتِهِم حتى يناموا، ولا يُطْعَمُون شيئًا، ثم اسرجي، فإذا أخذ الضيف ليأكل قومي كأنك تصلحين السراج فأطفئيه، وتعالي نمضغ ألسنتنا لضيف رسول الله حتى يشبع ضيف رسول الله، فقامت إلى الصِّبْية فَعَلَّلَتْهُم حتى ناموا عن قُوتِهِم، ولم يُطْعَموا شيئًا، ثم قامت فأثردت وأسرجت، فلما أخذ الضيف ليأكل قامت كأنها تصلح السراج فأطفأته، فجعلا يمضغان ألسنتهما لضيف رسول الله، وظن الضيف أنهما يأكلان معه حتى شبع الضيف، وباتا طاويين، فلما أصبحوا غَدَوْا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر إليهما تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «لقد عَجِبَ اللهُ مِنْ فلان وفلانة هذه اللَّيْلَةَ». وأنزل الله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9].
(وقال) أنس رضى الله عنه: أهدي لبعض أصحابه رأس شاة مشوي، وكان مجهودًا، فوجه به إلى جار له، فتداوله سبعة أنفس، ثم عاد إلى الأول، فأنزلت الآية لذلك.
وروي أن أبا الحسن الأنطاكي اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلًا بقرية بقرى الري، وله أرغفة ممدودة لم تشبع خمسة منهم، فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج، وجلسوا للطعام، فلما رفعوا الطعام فإذا هو بحاله لم يأكل أحد مهم إيثارًا منه على نفسه.
وحُكِي عن حذيفة العدوي قال: انطلقتُ يوم اليرموك لطلب ابن عم لي، ومعي شيء من ماء، وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته ومسحت وجهه، فإذا أنا به، فقلت: أسقيك؟ فأشار إليَّ نعم، فإذا رجل يقول: آه، فقال ابن عمي: انطلق به إليه، فجئت إليه، فإذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فسمع هشام آخر يقول: آه، فقال: انطلق به إليه، فجئت إليه، فإذا هو قد مات، ثم رجعت إلى هشام، فإذا هو أيضًا قد مات، ثم رجعت إلى ابن عمي، فإذا هو أيضًا قد مات.
(وسُئِلَ) أبو الحسين البوشنجي عن الفُتوة فقال: الفتوة عندي ما وصف الله تعالى به الأنصار في قوله: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ﴾ [الحشر: 9].
قال ابن عطاء: يؤثرون على أنفسهم جودًا وكرمًا، ولو كان بهم خصاصة؛ يعني: جوعًا وفقرًا.
(قال) أبو حفص: الإيثار: هو أن يقدم حظوظ الإخوان على حظوظه في أمر الدنيا والآخرة.
(وقال) بعضهم: الإيثار لا يكون عن اختيار، إنما الإيثار أن تقدم حقوق الخلق أجمع على حقك، ولا تميز في ذلك بين أخ وصاحب وذي معرفة.
(وقال يوسف) ابن الحسين: من رأى لنفسه ملكًا، لا يصح منه الإيثار؛ لأنه يرى نفسه أحق بالشيء برؤية ملكه، إنما الإيثار ممن يرى الأشياء كلها للحق، فمن وصل إليه فهو أحق به، فإذا وصل شيء من ذلك إليه يرى نفسه ويده فيه يد أمانة يوصلها إلى صاحبها أو يؤديها إليه.
وقال بعضهم: حقيقة الإيثار أن تؤثر بحظ آخرتك على إخوانك؛ فإن الدنيا أقل خطرًا من أن يكون لإيثارها محل أو ذكر. ومن هذا المعنى ما نقل أن بعضهم رأى أخًا له، فلم يظهر البشر الكثير في وجهه، فأنكر أخوه ذلك منه فقال: يا أخي سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا التقى المسلمان ينزل عليهما مئة رحمة؛ تسعون لأكثرهما بشرًا، وعشرة لأقلهما بشرًا». فأردت أن أكون أقل بشرًا منك ليكون لك الأكثر.
(أخبرنا) الشيخ ضياء الدين أبو النجم -إجازة- قال: أنا أبو حفص عمر بن الصفار النيسابوري قال: أنا أبو بكر أحمد بن خلف الشيرازي قال: أنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي قال: سمعت أبا القاسم الرازي يقول: سمعت أبا بكر بن أبي سعدان يقول: من صحب الصوفية فليصحبهم بلا نفس ولا قلب ولا ملك، فمن نظر إلى شيء من أسبابه قطعه ذلك عن بلوغ مقصده.
(وقال سهل بن عبد الله): الصوفي من يرى دمه هدرًا وملكه مباحًا. وقال رويم: التصوف مبني على ثلاث خصال: التمسك بالفقر والافتقار، والتحقق بالبذل والإيثار، وترك التعرض والاختيار.
(قيل): لما سُعِيَ بالصوفية، وتميز الجنيد بالفقه، وقبض على الشجام والرقام والنوري، وبسط النطع لضرب رقابهم، تقدم النوري فقيل له: إلى ماذا تبادر؟ فقال: أوثر إخواني بفضل حياة ساعة. وقيل: دخل الروذباري دار بعض أصحابه فوجده غائبًا وباب بيته مغلق، فقال: صوفي وله باب مغلق؟ اكسروا الباب، فكسروه وأمر بجميع ما وجدوا في البيت أن يباع، فأنفذوه إلى السوق واتخذوا رفقًا من الثمن، وقعدوا في الدار، فدخل صاحب المنزل ولم يقل شيئًا، ودخلت امرأته وعليها كساء فدخلت بيتًا، فرمت بالكساء، وقالت: هذا أيضًا من بقية المتاع فبيعوه. فقال الزوج لها: لم تكلفت هذا باختيارك؟ قالت: اسكت مثل الشيخ يباسطنا ويحكم علينا، ويبقى لنا شيء ندخره عنه؟.
(وقيل): مرض قيس بن سعد فاستبطأ إخوانه في عيادته، فسأل عنهم فقالوا: إنهم يستحيون بما لك عليهم من الدَّين. فقال: أخزى الله مالًا يمنع الإخوان عن الزيارة، ثم أمر مناديًا ينادي: من كان لقيس عليه مالٍ، فهو منه في حلٍّ، فكُسِرَت عتبة داره بالعشي؛ لكثرة عواده.
(وقيل): أتى رجل صديقًا له، ودق عليه الباب، فلما خرج قال: لماذا جئتني؟ قال: لأربعمئة درهم دين عليَّ. فدخل الدار ووزن أربعمئة درهم وأخرجها إليه، ودخل الدار باكيًا، فقالت امرأته: هلَّا تعللت حين شق عليك الإجابة؟ فقال: إنما أبكي لأني لم أتفقد حاله حتى احتاج أن يفاتحني به.
(وأخبرنا) الشيخ أبو زرعة عن أبيه الحافظ المقدسي قال: أنا محمد بن محمد -إمام جامع أصفهان- قال: حدثنا أبو عبد الله الجرجاني قال: أنا أبو طاهر محمد بن الحسن المحمدآباذي قال: حدثنا أبو البحتري قال: حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا بريدة بن أبي بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ وَقَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوا فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي، وَأَنَا مِنْهُمْ».
(وحدث) جَابِر عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ إذا أَرَادَ أَنْ يَغْزُوَ قال: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، إِنَّ مِنْ إِخْوَانِكُمْ قَوْمًا لَيْسَ لَهُمْ مَالٌ وَلَا عدة، فَلْيَضُمَّ أَحَدُكُمْ إِلَيْهِ الرجل والرَّجُلَيْنِ والثَّلَاثَةَ، فَمَا لأحدكم مِنْ ظَهْرِ جَمَلِهِ إِلَّا عُقْبَةً كَعُقْبَةِ أَحَدِهِمْ»، قال: فَضَمَمْتُ إِلَيَّ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً مَا لِي إِلَّا عُقْبَةٌ كَعُقْبَةِ أَحَدِهِمْ من جمله.
(وروى) أنس قال: لما قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة آخى النبي عليه السلام بينه وبين سعد بن الربيع، فقال له: أقاسمك مالي نصفين، ولي امرأتان فأطلق إحداهما فإذا انقضت عدتها تتزوجها، فقال له عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك.
فما حمل الصوفي على الإيثار إلا طهارةُ نفسه وشرف غريزته، وما جعله الله تعالى صوفيًّا إلا بعد أن سوى غريزته لذلك، وكل من كانت غريزته السخاء، والسخي يوشك أن يصير صوفيًّا؛ لأن السخاء صفة الغريزة، وفي مقابلته الشح، والشح من لوازم صفة النفس، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [التغابن: 16]. حكم بالفلاح لمن يُوَقَّى الشح وحكم بالفلاح لمن أنفق وبذل. فقال: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: 3]. ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: 5].
والفلاح أجمع اسم لسعادة الدارين، والنبي عليه السلام نَبَّه بقوله: «ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات». فجعل إحدى المهلكات شحًّا مطاعًا، ولم يقل مجرد الشح يكون مهلكًا، بل يكون مهلكا إذا كان مطاعًا، فأما كونه موجودًا في النفس غير مطاع فإنه لا يُنكَر ذلك؛ لأنه من لوازم النفس مستمدًّا من أصل جبلتها الترابي، وفي التراب قبض وإمساك، وليس ذلك بالعجب من الآدمي، وهو جِبِلِّيّ فيه، وإنما العجب وجود السخاء في الغريزة، وهو لنفوس الصوفية الداعي لهم إلى البذل والإيثار والسخاء أتم وأكمل من الجود، ففي مقابلة الجود البخل، وفي مقابلة السخاء الشح، والجود والبخل يتطرق إليهما الاكتساب بطريق العادة، بخلاف الشح والسخاء إذا كان من ضرورة الغريزة، وكل سخي جواد، وليس كل جواد سخيًّا، والحق سبحانه وتعالى لا يوصف بالسخاء؛ لأن السخاء من نتيجة الغرائز، والله تعالى منزه عن الغريزة، والجود يتطرق إليه الرياء، ويأتي به الإنسان متطلعًا إلى عِوَض من الخلق أو الحق بمقابلٍ ما من الثناء وغيره من الخلق والثواب من الله تعالى، والسخاء لا يتطرق إليه الرياء؛ لأنه يَنْبُع من النفس الزكية المرتفعة عن الأعواض دنيا وآخرة؛ لأن طلب العوض مشعر بالبخل لكونه معلولًا بطلب العوض، فما تمحض سخاءً، فالسخاء لأهل الصفاء والإيثار لأهل الأنوار.
ويجوز أن يكون قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [الإنسان: 9]. أنه نفى في الآية الإطعام لطلب الأعواض، حيث قال: +لَا نُرِيدُ﴾ بعد قوله: ﴿لِوَجْهِ اللهِ﴾، فما كان لله لا يُشْعر بطلب العوض، بل الغريزة لطهارتها تنجذب إلى مراد الحق لا لعوض، وذلك أكمل السخاء من أطهر الغرائز.
روت أسماء بنت أبي بكر قالت: قلت: يا رسول الله، ليس لي من شيء إلا ما أدخل عَلَيَّ الزبير، فأعطي؟ قال: «نعم، لَا تُوكِي فَيُوكَى عَلَيْكِ».
ومن أخلاق الصوفية: التجاوز والعفو، ومقابلة السيئة بالحسنة.
(قال) سفيان: الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك؛ فإن الإحسان إلى المحسن متاجرة، كنقد السوق خذ شيئًا وهات شيئًا.
وقال الحسن: الإحسان أن تَعم ولا تخص، كالشمس والريح والغيث.
(وروى) أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت قصورًا مشرفة على الجنة، فقلت: يا جبرائيل، لمن هذه؟ قال: للكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس».
(روى) أبو هريرة رضى الله عنه أن أبا بكر رضى الله عنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس، فجاء رجل فوقع في أبي بكر وهو ساكت، والنبي — يتبسم، ثم رد أبو بكر عليه بعض الذي قال: فغضب النبي، وقام فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله، شتمني وأنت تتبسم، ثم رددت عليه بعض ما قال فغضبت وقمت. فقال: «إنك حيث كنت ساكنًا كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عليه، فلما تكلمتَ وَقَعَ الشيطان، فلم أكن لأقعد في مقعد فيه الشيطان، يَا أَبَا بَكْرٍ، ثَلَاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ؛ ليس عبد يُظلم بِمَظْلَمَةٍ فيعفو عَنْهَا إِلَّا أَعَزَّ اللهُ نَصْرَهُ، وليس عبد يفتح باب مسألة يريد بها كثرةً إِلَّا زَادَهُ اللهُ قلة، وليس عبد يفتح باب عطية أو صلة يبتغي بها وجه الله إلا زاده الله بها كثرة».
(أخبرنا) ضياء الدين عبد الوهاب بن علي قال: أنا الكروخي قال: أنا الترياقي قال: أنا الجراحي قال: أنا المحبوبي قال: أنا أبو عيسى الترمذي قال: حدثنا أبو هشام الرفاعي قال: حدثنا محمد بن فضيل عن الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً؛ تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا».
(وقال) بعض الصحابة: يا رسول الله، الرجل أَمُرُّ به فلا يُقْرِيني ولا يضيفني فيمر بي أفأجزيه، قال: «لا، أَقْرِهِ».
وقال الفُضَيْل: الفتوة الصفح عن عَثَرات الإخوان، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الْوَاصِلُ الْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا».
(وروي) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مكارم الأخلاق أن تعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، وتعطي من حرمك».
ومن أخلاق الصوفية البشر، وطلاقة الوجه الصوفي بكاؤه في خلوته، وبشره وطلاقة وجهه مع الناس، فالبشر على وجهه من آثار أنوار قلبه، وقد تُنَازِل باطن الصوفي منازلات إلهية ومواهب قدسية يرتوي منها القلب، ويمتلئ فرحًا وسرورًا، ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [يونس: 58].
والسرور إذا تمكن من القلب فاض على الوجه آثاره. قال الله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾ [عبس: 38]؛ أي مضيئة مشرقة، مستبشرة؛ أي: فرحة قيل: أشرقت من طول ما اغبرت في سبيل الله، ومثال فيض النور على الوجه من القلب كفيضان نور السراج على الزجاج والمشكاة، فالوجه مشكاة، والقلب زجاج، والروح مصباح، فإذا تنعم القلب بلذيذ المسامرة ظهر البِشْر على الوجه. قال الله تعالى: ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ [المطَّففين: 24]؛ أي: نضارته وبريقه، يقال: أنضر النبات؛ إذا أزهر ونَوَّر، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22، 23]، فلما نظرت نضرت، فأرباب المشاهدة من الصوفية تنورت بصائرهم بنور المشاهدة، وانصقلت مرآة قلوبهم، وانعكس فيها نور الجمال الأزلي، وإذا أشرقت الشمس على المرآة المصقولة استنارت الجدران، قال الله تعالى: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ [الفتح: 29]. وإذا تأثر الوجه بسجود الظلال وهي القوالب في قول الله تعالى:﴿وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ [الرعد: 15]. كيف لا يتأثر بشهود الجمال؟.
(أخبرنا) ضياء الدين عبد الوهاب بن علي قال: أنا الكروخي قال: أنا الترياقي قال: أنا الجراحي قال: أنا المحبوبي قال: أنا أبو عيسى الترمذي قال: حدثنا قتيبة قال: حدثنا المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَإِنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ، وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ أَخِيكَ».
(وقال) سعد بن عبد الرحمن الزبيدي: يعجبني من القراء كل سهل طلق مضحاك، فأما من تلقاه بالبشر ويلقاك بالعبوس -كأنه يمن عليك- فلا أكثر الله في القراء مثله.
(ومن أخلاق الصوفية): السهولة، ولين الجانب، والنزول مع الناس إلى أخلاقهم وطباعهم، وترك التعسف والتكلف. وقد روي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبار، وأخلاق الصوفية تحاكي أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقول عليه الصلاة والسلام: «أما إِنِّي أمزح ولَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا».
وروي أن رجلًا يقال له زاهر بن حرام -وكان بدويًّا- وكان لا يأتي إلى رسول الله إلا جاء بطرفة يهديها إلى رسول الله، فجاء يومًا من الأيام فوجده رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق المدينة يبيع سلعة له، ولم يكن أتاه ذلك اليوم، فاحتضنه النبي عليه السلام من ورائه بكفيه، فالتفت، فأبصر النبي عليه السلام، فقبل كفيه، فقال النبي عليه السلام: «من يشتري العبد؟». فقال: إذن تجدني كاسدًا يا رسول الله. فقال: «ولكن عند الله ربيح». ثم قال عليه السلام: «لكل أهل حضر بادية، وبادية آل محمد زاهر بن حرام».
(وأخبرنا) أبو زرعة طاهر بن الحافظ المقدسي عن أبيه قال: أنا المطهر بن محمد الفقيه قال: أنا أبو الحسن قال: أنا أبو عمرو بن حكيم قال: أنا أبو أمية قال: حدثنا عبيد بن إسحاق العطار قال: حدثنا سنان بن هارون عن حميد عن أنس قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله احملني على جمل. فقال: «أحملك على ابن الناقة»، قال: أقول لك: احملني على جمل وتقول: أحملك على ابن الناقة؟ فقال عليه السلام: «فالجمل ابن الناقة».
(وروى صهيب) فقال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يديه تمر يأكل، فقال: «أصب من هذا الطعام». فجعلت آكل من التمر. فقال: «أتأكل وأنت رمد؟». فقلت: إذن أمضغ من الجانب الآخر، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(وروى) أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ذات يوم: «يا ذا الأذنين».
(وسئلت) عائشة -رضي الله عنها-: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا في البيت؟ قالت: كان ألين الناس بسامًا ضحاكًا.
(وروت) أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقها فسبقته، ثم سابقها بعد ذلك فسبقها، فقال: «هَذِهِ بِتِلْكَ».
(وأخبرنا) الشيخ العالم ضياء الدين عبد الوهاب بن علي قال: أنا أبو الفتح الهروي قال: أنا أبو نصر الترياقي قال: أنا أبو محمد الجراحي قال: أنا أبو العباس المحبوبي قال: أنا أبو عيسى الحافظ الترمذي قال: حدثنا عبد الله بن الوضاح الكوفي قال: حدثنا عبد الله بن إدريس عن شعبة عن أبي التياح عن أنس رضى الله عنه قال: إِنْ كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيُخَالِطُنَا حَتَّى أنه كان يَقُولَ لأَخٍ لِي صَغِيرٍ: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟». والنغير: عصفور صغير.
(وروي) أن عمر سابق زبيرًا -رضي الله عنهما- فسبقه الزبير فقال: سبقتك ورب الكعبة، ثم سابقه مرة أخرى، فسبقه عمر فقال عمر: سبقتك ورب الكعبة.
وروى عبد الله بن عباس قال: قال لي عمر: تعال أنافسك في الماء، أينا أطول نَفَسًا، ونحن محرمون. (وروى) بكر بن عبد الله قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمازحون حتى يتبادحون بالبطيخ. فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال، يقال: بدح يبدح إذا رمى؛ أي: يَتَرَامَوْن بالبطيخ.
(وأخبرنا) أبو زرعة عن أبيه قال: أنا الحسن بن أحمد الكرخي قال: حدثنا أبو طالب محمد بن إبراهيم قال: حدثنا أبو بكر محمد بن محمد بن عبد الله قال: حدثني إسحاق الحربي قال: حدثنا أبو سلمة قال: حدثنا حماد بن خالد قال: أنبأنا محمد بن عمرو بن علقمة قال: حدثنا أبو الحسن بن محصن الليثي عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة قال: إن عائشة -رضي الله عنها- قالت: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم بحريرة، طبختُها له، وقلتُ لسودة والنبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينها: كلي فأبت. فقلت لها: كلي فأبت. فقلت: لتأكلن أو لألطخن بها وجهك، فأبت فوضعت يدي في الحريرة فلطخت بها وجهها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع فخذه وقال لسودة: «ألطخي وجهها». فلطخت بها وجهي فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فمر عمر رضى الله عنه على الباب فنادى: يا عبد الله يا عبد الله، فظن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيدخل فقال: «قوما فاغسلا وجهكما». فقالت عائشة -رضي الله عنها-: فما زلت أهاب عمر؛ لهيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه.
ووصف بعضهم ابن طاوس فقال: كان مع الصبي صبيًّا، ومع الكهل كهلًا، وكان فيه مزاحة إذا خلا.
(وروى) معاوية بن عبد الكريم قال: كنا نتذاكر الشعر عند محمد بن سيرين، وكان يقول، ونمزح عنده ويمازحنا، وكنا نخرج من عنده ونحن نضحك.
وكنا إذا دخلنا على الحسن نخرج من عنده ونحن نكاد نبكي.
فهذه الأخبار والآثار دالة على حسن لين الجانب، وصحة حال الصوفية، وحسن أخلاقهم فيما يعتمدونه من المداعبة في الربط، وينزلون مع الناس على حسب طباعهم؛ لنظرهم إلى سعة رحمة الله، فإذا خَلَوْا وقفوا موقف الرجال، واكتسبوا ملابس الأعمال والأحوال، ولا يقف في هذا المعنى على حد الاعتدال إلا صوفي قاهر للنفس، عالم بأخلاقها وطباعها، سائس لها بوفور العلم حتى يقف في ذلك على صراط الاعتدال بين الإفراط والتفريط.
ولا يصلح الإكثار من ذلك للمريدين المبتدئين؛ لقلة علمهم ومعرفتهم بالنفس، وتعديهم حد الاعتدال، فللنفس في هذه المواطن نهضات ووثبات، تجر إلى الفساد، وتجنح إلى العناد، فالنزول إلى طباع الناس يَحْسُن بمن صعد عنهم، وترقى لعلو حاله ومقامه، فينزل إليهم وإلى طباعهم حتى ينزل بالعلم، فأما من لم يصعد بصفاء حاله عنهم وفيه بقية مزح من طباعهم ونفوسهم الجامحة الأمارة بالسوء إذا دخلت في هذه المداخل أخذت النفس حظها، واغتنمت مآربها، واستروحت إلى الرخصة، والنزول إلى الرخصة يحسن لمن يركب العزيمة غالب أوقاته، وليس ذلك شأن المبتدي، فللصوفية العلماء -فيما ذكرناه- ترويح، يعلمون حاجة القلب إلى ذلك، والشيء إذا وضع للحاجة يتقدر بقدر الحاجة، ومعيار مقدار الحاجة في ذلك علم غامض لا يسلم لكل أحد.
(قال) سعيد بن العاص لابنه: اقتصد في مزاحك، فالإفراط فيه يذهب بالبهاء ويجرئ عليك السفهاء، وتركه يغيظ المؤانسين، ويوحش المخالطين.
قال بعضهم: المزاح مسلبة للبهاء، مقطعة للإخاء، وكما يصعب معرفة الاعتدال في ذلك يصعب معرفة الاعتدال في الضحك، والضحك من خصائص الإنسان، ويميزه عن جنس الحيوان، ولا يكون الضحك إلا عن سابقة تعجب، والتعجب يستدعي الفكر، والفكر شرف الإنسان وخاصيته، ومعرفة الاعتدال فيه أيضًا شأن مَن ترسخ قدمه في العلم؛ ولهذا قيل: إياك وكثرة الضحك؛ فإنه يميت القلب. وقيل: وكثرة الضحك من الرعونة.
(وروي) عن عيسى عليه السلام أنه قال: إن الله تعالى يبغض الضحاك من غير عجب، والمشاء في غير إِرَب، وذكر فرق بين المداعبة والمزاح فقيل: المداعبة ما لا يغضب جده، والمزاح ما يغضب جده، وقد جعل أبو حنيفة -رحمه الله- القهقهة في الصلاة من الذنب، وحكم ببطلان الوضوء بها، وقال: يقوم الإثم مقام خروج الخارج، فالاعتدال في المزاح والضحك لا يتأتى إلا إذا خلص وخرج من مضيق الخوف والقبض والهيبة، فإنه يتقوم بكل مضيق من هذه المضايق بعض التقويم، فيعتدل الحال فيه ويستقيم، فالبسط والرجاء يُنْشِآن المزاح، والضحك والخوف والقبض يحكمان فيه بالعدل.
ومن أخلاق الصوفية: ترك التكلف، وذلك أن التكلف تصنع وتعمل وتمايل على النفس لأجل الناس، وذلك يباين حال الصوفية، وفي بعضه خفي منازعة للأقدار، وعدم الرضا بما قسم الجبار. ويقال: التصوف ترك التكلف. ويقال: التكلف تخلف، وهو تخلف عن شأو الصادقين.
(روى) أنس بن مالك قال: شهدت وليمة لرسول الله ما فيها خبز ولا لحم.
(وروي) عن جابر أنه أتاه ناس من أصحابه، فأتاهم بخبز وخل، وقال: كلوا؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نِعْمَ الإِدَامُ الْخَلُّ».
وعن سفيان بن سلمة قال: دخلت على سلمان الفارسي، فأخرج إلى خبزًا ومِلْحًا، وقال: كل، لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن يتكلف أحد لأحد لتكلفت لكم. والتكلف مذمومٌ في جميع الأشياء، كالتكلف بالملبوس للناس من غير نية فيه، والتكلف في الكلام، وزيادة التملق الذي صار دأب أهل الزمان، فما يكاد يسلم من ذلك إلا آحاد وأفراد. وكم من متملق لا يعرف أنه تملق ولا يفطن له، فقد يتملق الشخص إلى حد يخرجه إلى صريح النفاق، وهو مباين لحال الصوفي.
(أخبرنا) الشيخ العالم ضياء الدين عبد الوهاب بن علي قال: أنبأنا أبو الفتح الهروي قال: أنا أبو نصر الترياقي قال: أنا أبو محمد الجراحي قال: أنا أبو العباس المحبوبي قال: أنا أبو عيسي الترمذي حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ قال: حدثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفٍ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْحَيَاءُ وَالْعِيُّ شُعْبَتَانِ مِنَ الإِيمَانِ، وَالْبَذَاءُ وَالْبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنَ النِّفَاقِ». البذاء: الفحش. وأراد بالبيان ها هنا كثرة الكلام والتكلف للناس بزيادة تملق وثناء عليهم وإظهار التصفح، وذلك ليس من شأن أهل الصدق.
(وحكي) عن أبي وائلٍ قال: مضيت مع صاحب لي نزور سلمان، فقدَّمَ إلينا خبز وشعير، وملحًا جريشًا، فقال صاحبي: لو كان في هذا الملح سعتر كان أطيب. فخرج سلمان، ورهن مطهرته وأخذ سعترًا، فلما أكلنا قال صاحبي: الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا. فقال سلمان: لو قنعت بما رزقك لم تكن مطهرتي مرهونة. وفي هذا من سلمان ترك التكلف قولًا وفعلًا.
وفي حديث يونس النبي عليه السلام: أنه زاره إخوانه فقدم إليهم كِسرًا من خبز شعير، وجَزَّ لهم بقلا كان يزرعه، ثم قال: لولا أن الله لعن المتكلفين لتكلفت لكم. قال بعضهم: إذا قصدت للزيارة فقدم ما حضر، وإذا استزرت فلا تبق ولا تذر.
(وروى) الزبير بن العوام قال: نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا: «اللهم اغفر للذين يدعون لأموات أمتي ولا يتكلفون، ألا إني بريء من التكلف، وصالحو أمتي». وروي أن عمر رضى الله عنه قرأ قوله تعالى: ﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (٢٧) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (٢٨) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (٢٩) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (٣٠) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾ [عبس: 27- 31]. ثم قال: هذا كله قد عرفناه، فما الأبُّ؟ قال: وبيد عمر عصاة فضرب بها الأرض، ثم قال: هذا لعَمْرُ الله هو التكلف، فخذوا أيها الناس ما بُيِّن لكم منه فما عرفتم اعملوا به، ومن لم تعرفوا فَكِلُوا علمه إلى الله.
ومن أخلاق الصوفية: الإنفاق من غير إقتار، وترك الادخار، وذلك أن الصوفي يرى خزائن فضل الحق فهو بمثابة من هو مقيم على شاطئ بحر، والمقيم على شاطئ البحر لا يدخر الماء في قربته وراويته.
(روى) أبو هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«مَا مِنْ يَوْمٍ إِلَّا لَهُ مَلَكَانِ يناديان، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا. وَيَقُولُ الآخَرُ: اللهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا».
وروى أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئًا لغد.
وروي أنه أهدي لرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث طوائر، فأطعم خادمه طيرًا، فلما كان الغد أتاه به، فقال رسول الله: «ألم أنهك أن تخبئ شيئًا لغد؛ فإن الله تعالى يأتي برزق كل غد».
وروى أبو هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على بلال وعنده صُبْرَة من تمرة، فقال: «ما هذا يا بلال؟». فقال: أدخر يا رسول الله، قال: «أما تخشى؟ أنفق بلالًا، ولا تخش من ذي العرش إقلالًا».
وروي أن عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم كان يأكل الشجر، ويلبس الشعر، ويبيت حيث أمسى، ولم يكن له ولد يموت، ولا بيت يخرب، ولا يخبئ شيئًا لغد، فالصوفي كل خباياه في خزائن الله؛ لصدق توكله وثقته بربه، فالدنيا للصوفي كدار الغربة، ليس له فيها ادخار، ولا له منها استكثار.
قال عليه السلام: «لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا».
(أخبرنا) شيخنا ضياء الدين أبو النجيب قال: أنا أبو عبد الرحمن محمد بن أبي عبد الله الماليني قال: أنا أبو الحسن عبد الرحمن الداودي قال: أنا أبو محمد عبد الله السرخسي قال: أنبأنا أبو عمران السمرقندي، قال: أنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، قال: أنا محمد بن يوسف عن سفيان عن أبي المنكدر عن جابر قال: ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا قط، فقال: لا، قال: ابن عيينة: إذا لم يكن عنده وَعَد. وبالإسناد عن الدارمي قال: أنا يعقوب بن حُمَيْد قال: أنا عبد العزيز بن محمد عن ابن أخي الزهري قال: إن جبريل عليه السلام قال: ما في الأرض أهل عشيرة من أبيات إلا قلبتهم، فما وجدت أحدًا أشد إنفاقًا لهذا المال من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن أخلاق الصوفية: القناعة باليسير من الدنيا.
(قال ذو النون المصري): من قنع استراح من أهل زمانه، واستطال على أقرانه. وقال بشر بن الحرث: لو لم يكن في القناعة إلا التمتع بالعز لكفى صاحبه. وقال بنان الحمَّال: الحر عبد ما طمع، والعبد حر ما قنع.
وقال بعضهم: انتقم من حرصك بالقناعة كما تنتقم من عدوك بالقصاص.
وقال أبو بكر المراغي: العاقل من دبر أمر الدنيا بالقناعة والتسويف، ودبر أمر الآخرة بالحرص والتعجيل.
وقال يحيى بن معاذ: من قنع بالرزق فقد ذهب بالآخرة وطاب عيشه.
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه-: القناعة سيف لا ينبو.
(أخبرنا) أبو زرعة عن أبيه أبي الفضل قال: أنا أبو القاسم عبد الله بن الحسن الخلَّال ببغداد قال: أنا أبو حفص عمر بن إبراهيم قال: حدثنا أبو القاسم البغوي قال: حدثنا محمد بن عباد قال: حدثنا أبو سعيد عن صدقة بن الربيع عن عمارة بن غَزِيَّةَ عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الأعواد يقول: «مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى».
(وروي) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قد أفلح من أسلم، وكان رزقه كفافًا، ثم صبر عليه».
(وروى) أبو هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا وقال: «اللهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا».
وروى جابر رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «القناعة مال لا ينفد»
(وروي) عن عمر رضى الله عنه أنه قال: كونوا أوعية الكتاب، وينابيع الحكمة، وعدوا أنفسكم في الموتى، واسألوا الله تعالى الرزق يومًا بيوم، ولا يضركم ألَّا يكثر لكم.
(وأخبرنا) أبو زرعة طاهر عن أبي الفضل والده أنا أبو القاسم إسماعيل بن عبد الله الشاوي قال: أنا أحمد بن علي الحافظ قال: أنا أبو عمرو بن حمدان قال: حدثنا الحسن بن سفيان قال: حدثنا عمرو بن مالك البصري قال: حدثنا مروان بن معاوية قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي سلمة الأنصاري قال: أخبرني سلمة بن عبد الله بن محصن عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَصْبَحَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي بدنه، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا».
(وقيل) في تفسير قوله تعالى: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: 97]. هي: القناعة. فالصوفي قوَّام على نفسه بالقسط، عالم بطبائع النفس، وجدوى القناعة والتوصل إلى استخراج ذلك من النفس لعلمه بدائها ودوائها.
(وقال) أبو سليمان الداراني: القناعة من الرضا، كما أن الورع من الزهد.
ومن أخلاق الصوفية: ترك المِرَاء والمجادلة والغضب إلا بحق، واعتماد الرفق والحلم، وذلك أن النفوس تَثِب وتظهر في الممارين، والصوفي كلما رأى نفس صاحبه ظاهرة قابلها بالقلب، وإذا قوبلت النفس بالقلب ذهبت الوحشة وانطفأت الفتنة، قال الله تعالى تعليمًا لعباده: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصِّلت: 34]. ولا يُنْزَع المراء إلا من نفوس زكية انتزع منها الغل، ووجود الغل في النفوس مراء الباطن ،وإذا انتزع المراء من الباطن ذهب من الظاهر أيضًا، وقد يكون الغل في النفس مع من يشاكله ويماثله لوجود المنافسة، ومن استقصى في تذويب النفس بنار الزَّهادة في الدنيا ينمحي الغل من باطنه، ولا يبقى عنده منافسة دنيوية في حظوظ عاجلة من جاهٍ ومالٍ.
قال الله تعالى في وصف أهل الجنة المتقين: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ﴾ [الحجر: 47]. قال أبو حفص: كيف يبقى الغل في قلوب ائتلفت بالله، واتفقت على محبته، واجتمعت على مودته، وأنست بذكره؟ فإن تلك قلوبٌ صافية من هواجس النفوس وظلمات الطبائع، بل كحلت بنور التوفيق، فصارت إخوانًا، فهكذا قلوب أهل التصوف والمجتمعين على الكلمة الواحدة، ومن التزم بشروط الطريق والانكباب على الظفر بالتحقيق.
والناس رجلان؛ رجل طالب ما عند الله تعالى، ويدعو إلى ما عند الله نفسَه وغيرَه، فما للمحقق الصوفي مع هذا منافسة ومراء وغل؛ فإن هذا معه في طريق واحد ووجهة واحدة، وأخوه ومعينه والمؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضًا.
ورجل مفتتن بشيء من محبة الجاه والمال والرياسة ونظر الخلق، فما للصوفي مع هذا منافسة؛ لأنه زهد فيما فيه رغب، فمن شأن الصوفي أن ينظر إلى مثل هذا نظر رحمة وشفقة حيث يراه محجوبًا مفتتنًا فلا ينطوي له على غل، ولا يماريه في الظاهر على شيء؛ لعلمه بظهور نفسه الأمارة بالسوء في المراء والمجادلة.
(أخبرنا) الشيخ العالم ضياء الدين عبد الوهاب بن علي قال: أنا أبو الفتح الهروي قال: أنا أبو نصر الترياقي قال: أنا أبو محمد الجراحي قال: أنا أبو العباس المحبوبي قال: أنا أبو عيسى الترمذي قال: حدثنا زياد بن أيوب قال: حدثنا المحاربي عن ليث عن عبد الملك عن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تُمَارِ أَخَاكَ وَلَا تَعِدْهُ مَوْعِدًا فَتُخْلِفَهُ». وفي الخبر: «مَنْ تَرَكَ المراء وَهُوَ مبطل بُنِيَ لَهُ بيت فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَهُوَ مُحِقٌّ بُنِيَ لَهُ فِي وَسَطِهَا، وَمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ بُنِيَ لَهُ فِي أَعْلَاهَا».
(وأخبرنا) شيخنا شيخ الإسلام أبو النجيب قال: أنا أبو عبد الرحمن السهروردي محمد بن أبي عبد الله الماليني قال: أنا أبو الحسن عبد الرحمن الداودي قال: أنا أبو محمد عبد الله بن أحمد الحموي قال: أنا أبو عمران عيسى السمرقندي قال: أنا أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال: حدثنا يحيى بن بسطام عن يحيى بن حمزة قال: حدثني النعمان بن مكحول عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ ليباهي بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ يُمَارِي بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ يريد أن يقبل بِوُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ أَدْخَلَهُ اللهُ تعالى جهنم».
انظر كيف جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم المماراة مع السفهاء سببًا لدخول النار، وذلك بظهور نفوسهم في طلب القهر والغلبة، والقهر والغلبة من صفات الشيطنة في الآدمي.
(وقال بعضهم): المجادل المماري يضع في نفسه عند الخوض في الجدال ألَّا يقنع بشيء، ومن لا يقنع إلا ألَّا يقنع فما إلى قناعته سبيل، فنفس الصوفي تبدلت صفاتها، وذهب عنه صفة الشيطنة والسبعية، وتبدل باللين والرفق والسهولة والطمأنينة.
(روي) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُسْلِمُ عَبْدٌ حَتَّى يُسْلِمَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ، وَلَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ». انظر كيف جعل النبي صلى الله عليه وسلم من شرط الإسلام سلامة القلب واللسان.
وروي عنه عليه السلام أنه مر بقوم وهم يجدون حجرًا قال: «ما هذا؟». قالوا: هذا حجر الأشداء، قال: «ألا أخبركم بأشد من هذا؟ رجل كان بينه وبين أخيه غضب فأتاه فغلب شيطانه وشيطان أخيه فكلمه».
وروي أنه جاء غلام لأبي ذر -وقد كسر رجل شاة- فقال أبو ذر: من كسر رجل هذه الشاة؟ فقال: أنا، قال: ولمَ فعلت ذلك؟ قال: عمدًا فعلت، قال: ولمَ؟ قال: أغيظك فتضربني فتأثم، فقال أبو ذر: لأغيظن من حضك على غيظي، فأعتقه.
(وروى) الأصمعي عن أعرابي قال: إذا أشكل عليك أمران، لا تدري أيهما أرشد، فخالف أقربهما إلى هواك، فإن أكثر ما يكون في الخطأ من متابعة الهوى.
(أخبرنا) أبو زرعة عن أبيه أبي الفضل قال: أنا أبو بكر محمد بن أحمد بن علي قال: أنا خورشيد قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سليم قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثنا سعيد بن سعد عن أخيه عن جده عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثٌ منجيات، وثلاث مهلكات، فأما المنجيات فخشية الله في السر والعلانية، والحكم بالحق عند الغضب والرضا، والاقتصاد عند الفقر والغنى، وأما المهلكات فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه».
فالحكم بالحق عند الغضب والرضا لا يصح إلا من عالم رباني أمير على نفسه يصرفها بعقل حاضر وقلب يقظان ونظر إلى الله بحسن الاحتساب.
(نقل) أنهم كانوا يتوضئون عن إيذاء المسلم. يقول بعضهم: لأن أتوضأ من كلمة خبيثة أحب إلي من أن أتوضأ من طعام طيب.
(وقال) عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- الحدث حدثان: حدث من فرجك، وحدث من فيك، فلا يحل حبوة الوقار والحلم إلا الغضب، ويخرج عن حد العدل إلى العدوان، يتجاوز الحد، فبالغضب يثور دم القلب فإن كان الغضب على من فوقه مما يعجز عن إنفاذ الغضب فيه، ذهب الدم من ظاهر الجلد، واجتمع في القلب، ويصير منه الهم والحزن والانكماد، ولا ينطوي الصوفي على مثل هذا؛ لأنه يرى الحوادثَ والأعراض من الله تعالى فلا ينكمد ولا يغتم، والصوفي صاحب الرضا، صاحب الروح والراحة.
والنبي عليه السلام أخبر أن الهم والحزن في الشك والسخط.
(سئل) عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- عن الغم والغضب قال: مخرجهما واحدٌ، واللفظ يختلف فمن نازع من يقوى عليه أظهره غضبًا، ومن نازع من لا يقوى عليه كتمه حزنًا، والحرد غضب أيضًا، ولكن يستعمل إذا قصد المغضوب عليه، وإن كان الغضب على من يشاكله ويماثله ممن يتردد في الانتقام منه يتردد دم القلب بين الانقباض والانبساط، فيتولد منه الغل والحقد، ولا يأوي مثل هذا إلى قلب الصوفي، قال الله تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ﴾ [الحجر: 47].
وسلامة قلب الصوفي وحاله يقذف زبد الغل والحقد كما يقذف البحر الزبد؛ لما فيه من تلاطم أمواج الأنس والهبة، وإن كان الغضب على من دونه ممن يقدر على الانتقام منه ثار دم القلب والقلب إذا ثار دمه يحمر ويقسو ويتصلب وتذهب عنه الرقة والبياض، ومنه تحمر الوجنتان؛ لأن الدم في القلب ثار، وطلب الاستعلاء، وانتفخت منه العروق، فظهر عكسه وأثره على الخد، فيتعدى الحدود حينئذٍ بالضرب والشتم، ولا يكون هذا في الصوفي إلا عند هتك الحرمات والغضب لله تعالى، فأما في غير ذلك فينظر الصوفي عند الغضب إلى الله تعالى، ثم تقواه تحمله على أن يزن حركته وقولَه بميزان الشرع والعدل، ويتهم النفس بعدم الرضا بالقضاءِ.
(قيل) بعضهم: من أقهر الناس لنفسِه؟ قال: أرضاهم بالمقدور.
وقال بعضهم: أصبحت وما لي سرور إلا مواقع القضاء، وإذا اتهم الصوفي النفس عند الغضب تداركه العلم، وإذا لاح علم العلم قوى القلب، وسكنت النفس، وعاد دم القلب إلى موضعه ومقره واعتدل الحال، وغاضت حمرة الخد، وبانت فضيلة العلم.
قال عليه السلام: «السَّمْتُ الْحَسَنُ وَالتُّؤَدَةُ وَالِاقْتِصَادُ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ».
وروى حارثة بن قدامة قال: قلت: يا رسول الله أوصني وأقلل؛ لعلي أعيه، قال: «لا تغضب». فأعاد عليه، كل ذلك يقول: «لا تغضب». قال عليه السلام: «إِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ من النار، أَلم تنظروا حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ، مَنْ وَجَدَ ذَلِكَ منكم فإن كان قائمًا فليجلس، وإن كان جالسًا فليضطجع».
(أخبرنا) ضياء الدين عبد الوهاب بن علي قال: أنبأنا أبو الفتح الهرويُّ قال: أنا أبو النصر الترياقي قال: أنا الجراحي قال: أنا المحبوبي قال: أنا أبو عيسي الترمذي قال: حدثنا محمد بن عبد الله قال: حدثنا بشر بن المفضل عن قرة بن خالد عن أبي حمزة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد القيس: «إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ تعالى؛ الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ».
ومن أخلاق الصوفية: التودد والتألف والموافقة مع الإخوان وترك المخالفة. قال الله تعالى في وصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29]. وقال الله تعالى: ﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ [الأنفال: 63].
والتودد والتآلف من ائتلاف الأرواح على ما ورد في «الخبر» الذي أوردناه: «فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ».
قال الله تعالى: ﴿فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران: 103].
وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103]. وقال عليه السلام: «الْمُؤْمِنُ آلف مألوف، لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ»، وقال عليه السلام: «مثل المؤمنين إذا التقيا مثل اليدين، تغسل إحداهما الأخرى، وما التقى مؤمنان إلا استفاد أحدهما من صاحبه خيرًا».
(وقال) أبو إدريس الخولاني لمعاذ: إني أحبك في الله، فقال: أبشر ثم أبشر، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ينصب لطائفة من الناس كراسيَّ حول العرش يوم القيامة، وجوههم كالقمر ليلة البدر، يفزع الناس وهم لا يفزعون، ويخاف الناس وهم لا يخافون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون». قيل: من هؤلاء يا رسول الله؟ قال: «المتحابون في الله».
(وقيل:) لو تحابَّ الناس، وتعاطوا أسباب المحبة لاستغنوا بها عن العدالة، وقيل: العدالة خليفة المحبة تستعمل حيث لا توجد المحبة، وقيل: طاعة المحبة أفضل من طاعة الرهبة؛ فإن طاعة المحبة من داخل، وطاعة الرهبة من خارج؛ ولهذا المعنى كانت صحبة الصوفية مؤثرة من البعض في البعض؛ لأنهم لما تحابوا في الله تواصوا بمحاسن الأخلاق، ووقع القبول بينهم لوجود المحبة فانتفعَ لذلك المريد بالشيخ، والأخ بالأخ.
ولهذا المعنى أمر الله تعالى باجتماع الناس في كل يوم خمس مرات في المساجد أهل كل درب وكل محلة، وفي الجامع في الأسبوع مرة أهل كل بلد، وانضمام أهل السواد إلى البلدان في الأعياد في جميع السنة مرتين، وأهل الأقطار من البلدان المتفرقة في العمر مرة للحج، كل ذلك لحكم بالغة، منها: تأكيد الألفة والمودة بين المؤمنين.
وقال عليه السلام: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا».
(أخبرنا) أبو زرعة قال: أنا والدي أبو الفضل قال: أنا أبو نصر محمد بن سلمان العدل قال: أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي قال: أنا أبو العباس عبد الله بن يعقوب الكرماني قال: حدثنا يحيى الكرماني قال: حدثنا حماد بن زيد عن مجالد بن سعد عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن مَثَل الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وتحابهم وَتَرَاحُمِهِمْ كمَثَل الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ تَدَاعَى سَائِرُه بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»، والتألُّف والتودد يؤكد أسباب الصحبة، والصحبة مع الأخيار مؤثرة جدًّا.
(وقد قيل): لقاء الإخوان لقاح، ولا شك أن البواطن تتلقح ويتقوى البعض بالبعض، بل بمجرد النظر إلى أهل الصلاح يؤثر صلاحًا، والنظر في الصور يؤثر أخلاقًا مناسبة لخلق المنظور إليهن كدوام النظر إلى المحزون يحزن، ودوام النظر إلى المسرور يسر.
(وقد قيل:) من لا ينفك لحظه لا ينفك لفظه، والجَمَلُ الشرود يصير ذلولًا بمقارنة الجمل الذلول، فالمقارنة لها تأثير في الحيوان والنبات والجماد، والماء والهواء يفسدان بمقارنة الجيف، والزروع تنفى عن أنواع العروق في الأرض والنبات لموضع الإفساد بالمقارنة، وإذا كانت المقارنة مؤثرة في هذه الأشياء ففي النفوس الشريفة البشرية أكثر تأثيرًا، وسمي الإنسان إنسانًا لأنه يأنس بما يراه من خير وشر، والتألف والتودد مستجلب للمزيد، وإنما العزلةُ والوحدة تحمد بالنسبة إلى أراذل الناس وأهل الشر، فأما أهل العلم والصفاء والوفاء والأخلاق الحميدة فيغتنم مقارنتهم، والاستئناس بهم، استئناس بالله تعالى كما أن محبتهم محبة الله، والجامع معهم رابطة الحق ومع غيرهم رابطة الطبع، فالصوفي مع غير الجنس كائن بائن، ومع الجنس كائن معاين، والمؤمن مرآة المؤمن، إذا نظر إلى أخيه يستشف من وراء أقواله وأعماله وأحواله تجلياتٍ إلهيةً وتعريفات وتلويحات من الله الكريم خفية غابت عن الأغيار، وأدركها أهل الأنوار.
ومن أخلاق الصوفية: شكر المحسن على الإحسان والدعاء له، وذلك منهم مع كمال توكلهم على ربهم، وصفاء توحيدهم، وقطعهم النظر إلى الأغيار، ورؤيتهم النعم من المنعم الجبار، ولكن يفعلون ذلك اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: «مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ علينا فِي صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدِهِ مِنِ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أبا بكر خَلِيلًا». وقال: «ما نفعني مال كمال أبي بكر». فالخلق حجبوا عن الله بالخلق في المنع والعطاء، فالصوفي في الابتداء يفنى عن الخلق، ويرى الأشياء من الله حيث طالع ناصيته التوحيد، وخرق الحجاب الذي منع الخلق عن صرف التوحيد، فلا يثبت للخلق منعًا ولا عطاء، ويحجبه الحق عن الخلق، فإذا ارتقى إلى ذروة التوحيد يشكر الخلق بعد شكر الحق، ويثبت لهم وجودًا في المنع والعطاء بعد أن يرى المسبب أولًا، وذلك لسعة علمه وقوة معرفته يثبت الوسائط، فلا يحجبه الخلق عن الحق كعامة المسلمين، ولا يحجبه الحق عن الخلق كأرباب الإرادة والمبتدئين، فيكونُ شكره للحق؛ لأنه المنعم والمعطي والمسبب، ويشكر الخلق؛ لأنهم واسطة وسبب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول ما يُدعى إلى الجنة الحمادون، الذين يحمدون الله تعالى في السراء والضراء».
وقال عليه السلام: «من عطش أو تجشى، فقال الحمد لله على كل حال دفع الله تعالى بها سبعين داء أهونها الجذام».
(وروى) جابر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد ينعم عليه بنعمة فحمد الله إلا كان الحمد أفضل منها»، فقوله عليه السلام: «كان الحمد أفضل منها» يحتمل أن يرضى الحق بها شكرًا، ويحتمل أن الحمد أفضل منها نعمة، فتكون نعمة الحمد أفضل من النعمة التي حمد عليها، فإذا شكروا المنعم الأول يشكرون الواسطة المنعم من الناس، ويدعون له.
(روى) أنس رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر عند قوم قال: «أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الأَبْرَارُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْكُمُ السكينة».
(أخبرنا) أبو زرعة عن أبيه قال: أنا أحمد بن محمد بن أحمد البزَّار قال: أنا أبو حفص عمر بن إبراهيم قال: حدثنا عبد الله بن محمد البغوي قال: أنا عمرو بن زُرارة قال: حدثنا عيينة بن يونس عن موسى بن عبيدة عن محمد بن ثابت عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ لأَخِيهِ: جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ».
ومن أخلاق الصوفية: بذل الجاه للإخوان والمسلمين كافة، فإذا كان الرجل وافر العلم بصيرًا بعيوب النفس وآفاتها وشهواتها فليتوصل إلى قضاء حوائج المسلمين ببذل الجاه والمعاونة في إصلاح ذات البين، وفي هذا المعنى يحتاجُ إلى مزيد علم؛ لأنها أمور تتعلق بالخلق ومخالطتهم ومعاشرتهم، ولا يصلح ذلك إلا لصوفيٍّ تام الحال عالم رباني.
(روي) عن زيد بن أسلم أنه قال: كان نبيٌّ من الأنبياء يأخذ بركاب الملك يتألفه بذلك لقضاء حوائج الناس.
(وقال عطاء) لأن يراني الرجل سنين فيكتسب جاهًا يعيش فيه مؤمن أتم له من أن يخلص العمل لنجاة نفسه، وهذا بابٌ غامض لا يؤمَن أن يفتتن به خلق من الجهال المدعين، ولا يصح هذا إلا لعبدٍ اطَّلع الله على باطنه فعلم منه أن لا رغبةَ له في شيء من الجاه والمال، ولو أن ملوك الأرض وقفوا في خدمته ما طغى ولا استطال، ولو دخل إلى أتون يوقد ما ظهرت نفسه بصريح الإنكار لهذا الحال، وهذا لا يصلح إلا لآحاد من الخلق، وأفراد من الصادقين ينسلخون عن إرادتهم واختيارهم، ويكاشفهم الله تعالى بمرادِه منهم، فيدخلون في الأشياء بمراد الله تعالى فإذا علموا أن الحق يريد منهم المخالطة وبذل الجاه يدخلون في ذلك بغيبة صفات النفس، وهذا لأقوامٍ ماتوا، ثم حشروا وأحكموا مقام الفناء، ثم رقوا إلى مقام البقاء، فيكون لهم في كل مدخل ومخرج برهان وبيان وإذن من الله تعالى، فهم على بصيرة من ربهم، وهذا ليس فيهم ارتياب لصاحب قلب مكاشف بصريح المراد في خفي الخطاب، فيأخذ وقته أبدًا من الأشياء، ولم تأخذ الأشياء من وقته، ولا يكون في قطر من الأقطار إلا واحدٌ متحقق بهذا الحال.
(قال) أبو عثمان الحيري: لا يكمل الرجل حتى يستوي قلبه في أربعة أشياء: المنع، والعطاء، والعز، والذل، ولمثل هذا الرجل يصلح بذل الجاه، والدخول فيما ذكرناه.
(قال) سهل بن عبد الله: لا يستحقُّ الإنسان الرياسة حتى تجتمع فيه ثلاث خصال: يصرف جهله عن الناس، ويحتمل جهل الناس، ويترك ما في أيديهم، ويبذل ما في يده لهم. وهذه الرياسة ليست عين الرياسة التي زهد فيها، وتعين الزهد فيها لضرورة صدقه وسلوكه، وإنما هذه رياسة أقامها الحق لصلاح خلقه، فهو فيها بالله يقوم بواجب حقها، وشكر نعمتها لله تعالى.