ونذكر في هذا الفصل كيفية الصلاة بهيئاتها، وشروطها، وآدابها الظاهرة والباطنة على الكمال بأقصى ما ينتهي إليه فهمنا وعلمنا على الوجه، مع الإعراض عن نقل الأقوال في كل شيء من ذلك؛ إذ في ذلك كثرة، ويُخْرج عن حد الاختصار، ولإيجاز المقصود فنقول -وبالله التوفيق-: ينبغي للعبد أن يستعد للصلاة قبل دخول وقتها بالوضوء، ولا يُوقع الوضوء في وقت الصلاة، فذلك من المحافظة عليها، ويحتاج في معرفة الوقت إلى معرفة الزوال، وتفاوت الأقدام؛ لطول النهار وقصره، ويعتبر الزوال بأن الظل ما دام في الانتقاص، فهو النصف الأول من النهار، فإذا أخذ الظل في الازدياد فهو النصف الآخر، وقد زالت الشمس، وإذا عَرَفَ الزوال وأن الشمس على كم قدم تزول، يعرف أول الوقت وآخره، ووقت العصر، ويحتاج إلى معرفة المنازل؛ ليعلم طلوع الفجر، ويعلم أوقات الليل، وشرح ذلك يطول، ويحتاج أن يفرد له باب.
فإذا دخل وقت الصلاة يقدم السنة الراتبة، ففي ذلك سر وحكمة، ذلك -والله أعلم- أن العبد تشعث باطنه وتفرق همه، لِمَا بُلِي به من المخالطة من الناس، وقيامه بمهام المعاش، أو سهوٍ جرى بوضع الجِبِلَّة، أو صرف هم إلى أكل أو نوم بمقتضى العادة، فإذا قدَّم السنة ينجذب باطنه إلى الصلاة، ويتهيأ للمناجاة، ويذهب بالسنة الراتبة أثر الغفلة، والكدورة من الباطن، فينصلح الباطن، ويصير مستعدًّا للفريضة، فالسنة مقدمة صالحة يستنزل بها البركات، وتطرق النفحات، ثم يجدد التوبة مع الله تعالى عند الفريضة عن كل ذنب عمله، ومن الذنوب عامة وخاصة، فالعامة: الكبائر والصغائر مما أومأ إليه الشرع، ونطق به الكتاب والسنة. والخاصة: ذنوب حال الشخص، فكل عبد على قدر صفاء حاله له ذنوب تلائم حاله، ويعرفها صاحبها. وقيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
ثم لا يصلي إلا جماعةً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَفْضُلُ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ صَلَاةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً». ثم يستقبل القبلة بظاهره، والحضرة الإلهية بباطنه، ويقرأ: (قل أعوذ برب الناس)، ويقرأ في نفسه آية التوجه، وهذا التوجه قبل الصلاة، والاستفتاح قبل الصلاة لوجهه الظاهر بانصرافه إلى القبلة، وتخصيص جهته بالتوجه دون جهة الصلاة، ثم يرفع يديه حذو منكبيه بحيث تكون كفاه حذو منكبيه، وإبهاماه عند شحمة أذنيه، ورءوس الأصابع مع الأذنين، ويضم الأصابع، وإن نشرها جاز، والضم أولى، فإنه قيل: النشر نشر الكف لا نشر الأصابع، ويكبر، ولا يدخل بين باء أكبر ورائه ألفًا، ويجزم أكبر، ويجعل المد في الله، ولا يبالغ في ضم الهاء من الله، ولا يبتدئ بالتكبير إلا إذا استقرت اليدان حذو المنكبين، ويرسلهما مع التكبير من غير نفض، فالوقار إذا سكن القلب تشكلت به الجوارح، وتأيدت بالأولى والأصوب، ويجمع بين نية الصلاة والتكبير بحيث لا يغيب عن قلبه حالة التكبير أنه يصلي الصلاة بعينها.
(وحكي) عن الجنيد أنه قال: لكل شيء صفوة، وصفوة الصلاة التكبيرة الأولى، وإنما كانت التكبيرة صفوة؛ لأنها موضع النية وأول الصلاة.
قال أبو نصر السراج: سمعت ابن سالم يقول: النية بالله لله ومن الله، والآفات التي تدخل في صلاة العبد بعد النية من العدو، ونصيب العدو -وإن كثر- لا يوازن بالنية التي هي لله بالله، وإن قل.
(وسُئِل) أبو سعيد الخراز: كيف الدخول في الصلاة؟ فقال: هو أن تُقْبِل على الله تعالى إقبالك عليه يوم القيامة، ووقوفك بين يدي الله ليس بينك وبينه ترجمان، وهو مقبل عليك وأنت تناجيه، وتعلم بين يدي من أنت واقف؛ فإنه الملك العظيم.
(وقيل) لبعض العارفين: كيف تُكَبِّرُ التكبيرة الأولى؟ فقال: ينبغي إذا قلت: الله أكبر أن يكون مصحوبك في الله التعظيم مع الألف، والهيبة مع اللام، والمراقبة والقرب مع الهاء، واعلم أن من الناس من إذا قال: الله أكبر غاب في مطالعة العظمة والكبرياء، وامتلأ باطنه نورًا، وصار الكون بأسره في فضاء شرح صدره كخردلة بأرض فلاة، ثم تلقى الخردلة فيما يخشى من الوسوسة وحديث النفس، وما يتخايل في الباطن من الكون الذي صار بمثابة الخردلة فألقيت، فكيف تزاحم الوسوسة، وحديث النفس مثل هذا العبد، وقد تزاحم مطالعة العظمة والغيبوبة في ذلك كون النية غير أنه لغاية لطف الحال يختص الروح بمطالعة العظمة والقلب يتميز بالنية، فتكون النية موجودة بألطف صفاتها، مندرجة في نور العظمة اندراج الكواكب في ضوء الشمس، ثم يقبض بيده اليمنى يده اليسرى، ويجعلها بين السرة والصدر، واليمنى لكرامتها تجعل فوق اليسرى، ويمد المسبحة والوسطى على الساعد، ويقبض بالثلاثة البواقي اليسرى من الطرفين.
وقد فسر أمير المؤمنين عليرضى الله عنه قوله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر: 2]، قال: إنه وضع اليمنى على الشمال تحت الصدر، وذلك أن تحت الصدر عرقًا يقال له: الناحر؛ أي: ضع يدك على الناحر.
وقال بعضهم: (وانحر)؛ أي: استقبل القبلة بنحرك، وفي ذلك سر خفي يكاشف به من وراء أستار الغيب، وذلك أن الله تعالى بلطيف حكمته خلق الآدمي وشرفه وكرمه، وجعله محل نظره ومورد وحيه، ونخبة ما في أرضه وسمائه روحانيًّا وجسمانيًّا أرضيًّا سماويًّا، منتصب القامة مرتفع الهيئة، فنصفه الأعلى من حد الفؤاد مستودع أسرار السماوات، ونصفه الأسفل مستودع أسرار الأرض، فمحل نفسه ومركزها النصف الأسفل، ومحل روحه الروحاني والقلب النصف الأعلى، فجواذب الروح مع جواذب النفس يتطاردان ويتحادبان، وباعتبار تطاردهما وتغالبهما تكون لمة الملك ولمة الشيطان، ووقت الصلاة يكثر التطارد؛ لوجود التجاذب بين الإيمان والطبع، فيكاشَف المصلي الذي صار قلبه سماويًّا مترددًا بين الفناء والبقاء لجواذب النفس متصاعدة من مركزها، وللجوارح وتصرفها وحركتها مع معاني الباطن ارتباط وموازنة، فبوضع اليمنى على الشمال حصر النفس، ومنع من صعود جواذبها، وأثر ذلك يظهر بدفع الوسوسة وزوال حديث النفس في الصلاة، ثم إذا استوت جواذب الروح وتملكت من الفرق إلى القدم عند كمال الأنس وتحقق قرة العين واستيلاء سلطان المشاهدة تصير النفس مقهورة ذليلة، ويستنير مركزها بنور الروح، وتنقطع حينئذٍ جواذب النفس، وعلى قدر استنارة مركز النفس يزول كل العبادة، ويستغني حينئذٍ عن مقاومة النفس، ومنع جواذبها بوضع اليمين على الشمال، فيسبل حينئذٍ، ولعل لذلك -والله أعلم- ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان مسبلًا، وهو مذهب مالك -رحمه الله-، ثم يقرأ: ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ﴾ [الأنعام: 79]. الآية.
وهذا التوجه إنقاء لوجه قلبه، والذي قبل الصلاة لوجه قالبه، ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت، سبحانك! وبحمدك، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا؛ إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق؛ فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها؛ فإنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، فالخير كله بيديك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك، ويطرق رأسه في قيامه، ويكون نظره إلى موضع السجود، ويكمل القيام بانتصاب القامة، ونزع يسير الانطواء عن الركبتين والخواصر ومعاطف البدن، ويقف كأنه ناظر بجميع جسده إلى الأرض؛ فهذا من خشع سائر الأجزاء، ويتكون الجيد بتكون القلب من الخشوع.
ويراوح بين القدمين بمقدار أربع أصابع، فإن ضم الكعبين هو الصفد المنهي عنه، ولا يرفع إحدى الرجلين؛ فإنه الصفن المنهي عنه، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصفن والصفد، وإذا كان الصفن منهيًّا عنه ففي زيادة الاعتماد على إحدى الرجلين دون الأخرى معنًى من الصفن، فالأولى رعاية الاعتدال في الاعتماد على الرجلين جميعًا، ويكره اشتمال الصَّمَّاء، وهو أن يخرج يده من قبل صدره، ويجتنب السدل، وهو أن يرخي أطراف الثوب إلى الأرض، ففيه معنى الخيلاء. وقيل: هو الذي يلتف بالثوب، ويجعل يديه من داخل، فيركع ويسجد كذلك، وفي معناه ما إذا جعل يديه داخل القميص.
ويجتنب الكف، وهو أن يرفع ثيابه بيده عند السجود.
ويكره الاختصار، وهو أن يجعل يده على الخاصرة.
ويكره الصلب وهو وضع اليدين جميعًا على الخصرين وتجافي العضدين، فإذا وقف في الصلاة على الهيئة التي ذكرناها مجتنبًا للمكاره فقد تمم القيام وكمله، فيقرأ آية التوجه والدعاء كما ذكرناه، ثم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ويقولها في كل ركعة أمام القراءة، ويقرأ الفاتحة وما بعدها بحضور قلب وجمع هم، ومواطأة بين القلب واللسان بحظ وافر من الوصلة والدنو والهيبة والخشوع والخشية والتعظيم والوقار والمشاهدة والمناجاة، وإن قرأ بين الفاتحة وما يقرأ بعدها إذا كان إمامًا في السكتة الثانية: «اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، ونقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد»، فحسن، وإن قالها في السكتة الأولى؛ فحسن. روي عن النبي عليه السلام أنه قال ذلك، وإن كان منفردًا يقولها قبل القراءة، ويعلم العبد أن تلاوته نطق اللسان، ومعناها نطق القلب، وكل مخاطب لشخص يتكلم بلسانه، ولسانه يعبر عما في قلبه، ولو أمكن المتكلم إفهام من يكلمه من غير لسان فعل، ولكن حيث تعذر الإفهام إلا بالكلام جعل اللسان ترجمانًا، فإذا قال باللسان من غير مواطأ القلب، فما اللسان ترجمانًا، ولا القارئ متكلمًا قاصدًا إسماع الله حاجته، ولا مستمعًا إلى الله فاهمًا عنه سبحانه ما يخاطبه، وما عنده غير حركة اللسان بقلب غائب عن قصد ما يقول، فينبغي أن يكون متكلمًا مناجيًا أو مستمعًا واعيًا، فأقل مراتب أهل الخصوص في الصلاة الجمع بين القلب واللسان في التلاوة، ووراء ذلك أحوال للخواص يطول شرحها.
(قال بعضهم:) ما دخلت في صلاة قط فأهمني فيها غير ما أقول.
وقيل لعامر بن عبد الله: هل تجد في الصلاة شيئًا من أمور الدنيا؟ فقال: لأن تختلف عَلَيَّ الأَسِنَّةُ أحب إلي من أن أجد في الصلاة ما تجدون.
وقيل لبعضهم: هل تحدث نفسك في الصلاة بشيء من أمور الدنيا؟ فقال: لا في الصلاة، ولا في غيرها. ومن الناس من إذا أقبل على الله في صلاته يتحقق بمعنى الإنابة؛ لأن الله تعالى قدم الإنابة وقال: ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [الرُّوم: 31]. فينيب إلى الله تعالى، ويتقي الله تعالى، ويتبرى عما سواه، ويقيم الصلاة بصدر منشرح بالإسلام، وقلب منفتح بنور الإنعام، فتخرج الكلمة من القرآن من لسانه، ويسمعها بقلبه فتقع الكلمة في فضاء قلب ليس فيه غيرها فيتملكها القلب بحسن الفهم ولذيذ نعمة الإصغاء ويتشربها بحلاوة الاستماع وكمال الوعي، ويدرك لطيف معناها وشريف فحواها معاني تَلْطُف عن تفصيل الذكر، وتتشكل بخفي الفكر، ويصير الظاهر من معاني القرآن قوت النفس؛ فالنفس المطمئنة متعرضة بمعاني القرآن عن حديثها لكونها معاني ظاهرة متوجهة إلى عالم الحكمة، والشهادة تقرب مناسبتها من النفس المكونة لإقامة رسم الحكمة، ومعاني القرآن الباطنة التي يكاشف بها من الملكوت قوت القلب، وتخلص إلى الروح المقدس إلى أوائل سرادقات الجبروت بمطالعة عظمة المتكلم، وبمثل هذه المطالعة يكون كمال الاستغراق في لحج الأشواق، كما نقل عن مسلم بن يسار أنه صلى ذات يوم في مسجد البصرة، فوقعت أسطوانة تسامع بسقوطها أهل السوق، وهو واقف في الصلاة لم يعلم بذلك.
ثم إذا أراد الركوع يفصل بين القراءة والركوع، ثم يركع منطوي القامة، والنصف الأسفل بحاله في القيام من غير انطواء الركبتين، ويجافي مرفقيه عن جنبيه، ويمد عنقه مع ظهره، ويضع راحتيه على ركبتيه منشورة الأصابع.
(روى) مصعب بن سعد قال: صليت إلى جنب سعد ابن مالك، فجعلت يدي بين ركبتي وبين فخذي، وطبقتهما، فضرب بيدي وقال: اضرب بكفيك على ركبتيك، وقال: يا بني، إنا كنا نفعل ذلك، فأمرنا أن نضرب بالأكف على الركب.
ويقول: سبحان ربي العظيم، ثلاثًا، وهو أدنى ،الكمال والكمال أن يقول إحدى عشرة، وما يأتي به من العدد يكون بعد التمكن من الركوع، ومن غير أن يمزج آخر ذلك بالرفع، ويرفع يديه للركوع والرفع من الركوع، ويكون في ركوعه ناظرًا نحو قدميه، فهو أقرب إلى الخشوع من النظر إلى موضع السجود.
وإنما ينظر إلى موضع سجوده في قيامه، ويقول بعد التسبيح: اللهم لك ركعت، ولك خشعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري، وعظمي ومخي وعصبي، ويكون قلبه في الركوع متصفًا بمعنى الركوع من التواضع والإخبات، ثم يرفع رأسه قائلًا: سمع الله لمن حمده، عالمًا بقلبه ما يقول، فإذا استوى قائمًا يحمد، ويقول: ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، ثم يقول: أهلَ الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
فإن أطال في النافلة القيامَ بعد الرفع من الركوع، فليقل: لربي الحمد، مكرِّرًا ذلك مهما شاء، فأما في الفرض فلا يطول تطويلًا يزيد على الحد زيادة بينة، ويقنع في الرفع من الركوع بتمام الاعتدال بإقامة الصلب.
(ورد) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ينظر الله إِلَى مَنْ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ بين الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ».
ثم يهوي ساجدًا، ويكون في هويه مكبرًا مستيقظًا حاضرًا خاشعًا عالمًا بما يهوي فيه وإليه وله، فمن الساجدين من يكاشَف أنه يهوي إلى تخوم الأرضين متغيبًا في أجزاء الملك؛ لامتلاء قلبه من الحياء، واستشعار روحه عظيم الكبرياء. كما ورد أن جبريل عليه السلام تَسَتَّر بخافية من جناحه حياءً من الله تعالى.
ومن الساجدين من يكاشف أنه يطوي بسجوده بساط الكون والمكان، ويسرح قلبه في فضاء الكشف والعيان، فيهوي دون هويه أطباق السماوات، وتنمحي لقوة شهوده تماثيل الكائنات، ويسجد على طرف رداء العظمة، وذاك أقصى ما ينتهي إليه طائر الهمة البشرية، وتفي بالوصول إليه القوى الإنسانية، ويتفاوت الأنبياء والأولياء في مراتب العظمة واستشعار كنهها لكل منهم على قدره حظ من ذلك، وفوق كل ذي علم عليم.
ومن الساجدين من يتسع وعاؤه، وينتشر ضياؤه، ويحظى بالصنفين، ويبسط الجناحين، فيتواضع بقلبه إجلالًا، ويرفع بروحه إكرامًا وإفضالًا، فيجتمع له الأنس والهيبة، والحضور والغيبة، والفرار والقرار، والإسرار والجهار، فيكون في سجوده سابحًا في بحر شهوده، لم يتخلف منه عن السجود شعرة، كما قال: سيد البشر في سجوده: «سجد لك سوادي وخيالي».
﴿وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ [الرعد: 15]. الطوع للروح والقلب؛ لما فيهما من الأهلية، والكره من النفس؛ لما فيها من الأجنبية. ويقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثلاثًا إلى العشر الذي هو الكمال، ويكون في السجود مفتوح العينين؛ لأنهما يسجدان، وفي الهوي يضع ركبتيه، ثم يديه، ثم جبهته وأنفه، ويكون ناظرًا نحو أرنبة أنفه في السجود، فهو أبلغ في الخشوع للساجد، ويباشر بكفيه المصلى، ولا يلفهما في الثوب، ويكون رأسه بين كفيه، ويداه حذو منكبيه، غير متيامن ومتياسر بهما.
ويقول بعد التسبيح: «اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين». وروى أمير المؤمنين علي رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده ذلك.
وإن قال: «سبوح قدوس، رب الملائكة والروح»، فحسن، (روت) عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده ذلك.
ويجافي مرفقيه عن جنبيه، ويوجه أصابعها في السجود نحو القبلة، ويضم أصابع كفيه مع الإبهام، ولا يفرش ذراعيه على الأرض، ثم يرفع رأسه مكبرًا، ويجلس على رجله اليسرى، وينصب اليمنى موجهًا بالأصابع إلى القبلة، ويضع اليدين على الفخذين من غير تكلف ضمهما وتفريجهما، ويقول: رب اغفر لي وارحمني، واهدني واجبرني، وعافني واعف عني. ولا يطيل هذه الجلسة في الفريضة، أما في النافلة فلا بأس مهما أطال قائلًا: رب اغفر وارحم، مكررًا ذلك.
ثم يسجد السجدة الثانية مكبرًا، ويُكْرَه الإقعاء في القعود، وهو ها هنا أن يضع أليتيه على عقبيه.
ثم إذا أراد النهوض إلى الركعة الثانية يجلس جلسة خفيفة للاستراحة، ويفعل في بقية الركعات هكذا، ثم يتشهد، وفي الصلاة سر المعراج، وهو معراج القلوب، والتشهد مقر الوصول بعد قطع مسافات الهيئات على تدريج طبقات السماوات.
والتحيات سلام على رب البريات، فليذهن لما يقول، ويتأدب مع من يقول، ويدور كيف يقول، ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ويمثله بين عيني قلبه، ويسلم على عباد الله الصالحين، فلا يبقى عبد في السماء ولا في الأرض من عباد الله إلا ويسلم عليه بالنسبة الروحية، والخاصية الفطرية، ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى مقبوضة الأصابع إلا المسبحة، ويرفع المسبحة في الشهادة في: «إلا الله» لا في كلمة النفي، ولا يرفعها منتصبة، بل مائلة برأسها إلى الفخذ منطوية، فهذه هيئة خشوع المسبحة، ودليل سراية خشوع القلب إليها، ويدعو في آخر صلاته لنفسه وللمؤمنين، إن كان إمامًا ينبغي ألَّا ينفرد بالدعاء، بل يدعو لنفسه ولمن وراءه، فإن الإمام المتيقظ في الصلاة كحاجب دخل على سلطان، ووراءه أصحاب الحوائج، يسأل لهم ويعرض حاجاتهم، والمؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وبهذا وصفهم الله تعالى في كلامه بقوله سبحانه: ﴿كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ [الصَّف: 4]. وفي وصف هذه الأمة في الكتب السالفة: «صفهم في صلاتهم كصفهم في قتالهم».
(حدثنا) بذلك شيخنا ضياء الدين أبو النجيب السهروردي -إملاء- قال: أنا أبو عبد الرحمن محمد بن عيسى بن شعيب الماليني قال: أنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد المظفر الواعظ قال: أنا أبو محمد عبد الله بن أحمد السرخسي قال: أنا أبو عمران عيسى بن عمر بن العباس السمرقندي قال: أنا أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال: أنا مجاهد بن موسى قال: حدثنا معن -هو ابن عيسى- أنه سأل كعب الأحبار: كيف تجد نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ قال: نجد: محمد بن عبد الله، يولد بمكة، ويهاجر لطيبة، ويكون ملكه بالشام، وليس بفحَّاش، ولا سخَّاب في الأسواق، ولا يكافئ بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، أمته الحمادون، يحمدون الله في كل سراء، ويكبرون الله على كل نجد، يوضئون أطرافهم، ويأتزرون في أوساطهم، يصفون في صلاتهم كما يصفون في قتالهم، دويهم في مساجدهم كدوي النحل، يسمع مناديهم في جو السماء.
فالإمام في الصلاة مقدمة الصف في محاربة الشيطان، فهو أولى المصلين بالخشوع، والإتيان بوظائف الأدب ظاهرًا وباطنًا، والمصلون المتيقظون كلما اجتمعت ظواهرهم تجتمع بواطنهم، وتتناصر وتتعاضد، وتسري من البعض إلى البعض أنوار وبركات، بل جميع المسلمين المصلين في أقطار الأرض بينهم تعاضد وتناصر بحسب القلوب، ونسب الإسلام، ورابطة الإيمان، بل يمدهم الله تعالى بالملائكة الكرام، كما أمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملائكة المسومين، فحاجاتهم إلى محاربة الشيطان أمس ُّمن حاجتهم إلى محاربة الكفار؛ ولهذا كان يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر». فتداركهم الأملاك، بل بأنفاسهم الصادقة تتماسك الأفلاك.
فإذا أراد الخروج من الصلاة يسلم على يمينه، وينوي مع التسليم الخروج من الصلاة، والسلام على الملائكة والحاضرين من المؤمنين ومؤمني الجن، ويجعل خده مبينًا لمن على يمينه بإلواء عنقه، ويفصل بين هذا السلام، والسلام عن يسار، فقد ورد النهي عن المواصلة، والمواصلة خمس: اثنان تختص بالإمام، وهو ألَّا يوصل القراءة بالتكبير، والركوع بالقراءة، واثنان على المأموم وهو ألَّا يوصل تكبيرة الإحرام بتكبيرة الإمام، ولا تسليمه بتسليمه، وواحدة على الإمام والمأمومين وهو أن يوصل تسليم الفرض بتسليم النفل، ويجزم التسليم، ولا يمد مدًّا، ثم يدعو بعد التسليم بما شاء من أمر دينه ودنياه، ويدعو قبل التسليم -أيضًا- في صلب الصلاة؛ فإنه يستجاب.
ومن أقام الصلوات الخمس في جماعة فقد ملأ البر والبحر عبادة، وكل المقامات والأحوال زبدتها الصلوات الخمس في جماعة، وهي سر الدين وكفارة المؤمن، وتمحيص للخطايا على ما أخبرنا شيخنا شيخ الإسلام ضياء الدين أبو النجيب السهروردي -رحمه الله،إجازة- قال: أنا أبو منصور محمد بن عبد الملك بن خيرون قال: أنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري -إجازة- قال: أنا أبو عمر محمد بن العباس بن زكريا قال: حدثنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد قال: حدثنا الحسين بن الحسن المروزي قال: أنا عبد الله بن المبارك قال: أنا يحيى بن عبد الله قال: سمعت أبي يقول: سمعت أبا هريرة رضى الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس كفارات للخطايا، واقرءوا إن شئتم: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود: 114].