روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الصَّبْرُ نِصْفُ الْإِيمَان، وَالصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ». وقيل: ما في عمل ابن آدم شيء إلا ويذهب برد المظالم إلا الصوم؛ فإنه لا يدخله قصاص. ويقول الله تعالى يوم القيامة: هذا لي، فلا يقتص أحد منه شيئًا.
(وفي الخبر:) «الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ». قيل: أضافه إلى نفسه؛ لأن فيه خلقًا من أخلاق الصمدية. وأيضًا لأنه من أعمال السر، من قبيل التروك، لا يطلع عليه أحد إلا الله.
وقيل في تفسير قوله تعالى: ﴿السَّائِحُونَ﴾ [التوبة: 112]: الصائمون؛ لأنهم ساحوا إلى الله تعالى بجوعهم وعطشهم. وقيل في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزُّمر: 10]: هم الصائمون؛ لأن الصبر اسم من أسماء الصوم، ويفرغ للصائم إفراغًا، ويجازف له مجازفة.
وقيل: أحد الوجوه في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: 17]: كان عملهم الصوم.
(وقال) يحيى بن معاذ: إذا ابتلي المريد بكثرة الأكل بكت عليه الملائكة رحمة له، ومن ابتُلِيَ بحرص الأكل فقد أُحْرِق بنار الشهوة، وفي نفس ابن آدم ألف عضو من الشر كلها في كف الشيطان متعلق بها، فإذا جَوَّع بطنه، وأخذ حلقه، وراض نفسه يبس كل عضو، أو احترق بنار الجوع، وفر الشيطان من ظله، وإذا أشبع بطنه، وترك حلقه في لذائذ الشهوات فقد رطَّب أعضاءه، وأمكن الشيطان. والشبع نهر في النفس تَرِدُهُ الشياطين، والجوع نهر في الروح تَرِدُه الملائكة، وينهزم الشيطان من جائع نائم، فكيف إذا كان قائمًا؟ ويعانق الشيطان شبعانا قائمًا، فكيف إذا كان نائمًا؟ فقلب المريد الصادق يصرخ إلى الله تعالى من طلب النفس الطعام والشراب.
دخل رجل إلى الطيالسي وهو يأكل خبزًا يابسًا قد بَلَّه بالماء مع ملح جريش، فقال له: كيف تشتهي هذا؟ قال: أدعه حتى أشتهيه.
(وقيل): من أسرف في مطعمه ومشربه يعجل الصغار والذل إليه في دنياه قبل آخرته. (وقال) بعضهم: الباب العظيم الذي يُدْخَل منه إلى الله تعالى قطع الغذاء.
(وقال بشر): إن الجوع يصفي الفؤاد، ويميت الهوى، ويورث العلم الدقيق.
وقال ذو النون: ما أكلت حتى شبعت، ولا شربت حتى رويت إلا عصيت الله، أو هممت بمعصية.
وروى القاسم بن محمد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان يأتي علينا الشهر ونصف شهر ما تدخل بيتنا نار لا لمصباح ولا لغيره، قال: قلت: سبحان الله، فبأي شيء كنتم تعيشون؟! قالت: بالتمر والماء، وكان لنا جيران من الأنصار -جزاهم الله خيرًا- كانت لهم منائح فربما واسونا بشيء.
(وروي) أن حفصة بنت عمر -رضي الله عنهما- قالت لأبيها: إن الله قد أوسع الرزق، فلو أكلت طعامًا أكثر من طعامك، ولبست ثيابًا ألين من ثيابك؟ فقال: إني أخاصمك إلى نفسك، ألم يكن من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا؟ يقول مرارًا، فبكت، فقال: قد أخبرتك، والله لأشاركنه في عيشه الشديد؛ لعلي أصيب عيشة الرخاء.
وقال بعضهم: ما نخلت لعمر دقيقًا إلا وأنا له عاصٍ.
(وقالت) عائشة -رضي الله عنها-: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام من خبز بُرٍّ حتى مضى لسبيله. وقالت عائشة -رضي الله عنها-: أديموا قرع باب الملكوت يفتح لكم. قالوا: كيف نديم؟ قالت: بالجوع والعطش والظمأ.
(وقيل:) ظهر إبليس ليحيى بن زكريا -عليهما السلام- وعليه معاليق، فقال: ما هذه؟ قال: الشهوات التي أصيب بها ابن آدم، قال: هل تجد لي فيها شهوة؟ قال: لا، غير أنك شبعت ليلة فثقلناك عن الصلاة والذكر. فقال: لا جرم إني لا أشبع أبدًا. قال إبليس: لا جرم إني لا أنصح أحدًا أبدًا.
﴿وقال﴾ شقيق: العبادة حرفة، وحانوتها الخلوة، وآلاتها الجوع. وقال لقمان لابنه: إذا مُلِئَت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة.
(وقال) الحسن: لا تجمعوا بين الأدمين؛ فإنه من طعام المنافقين. وقال بعضهم: أعوذ بالله من زاهد قد أفسدت معدته ألوان الأغذية. فيكره للمريد أن يوالي في الإفطار أكثر من أربعة أيام؛ فإن النفس عند ذلك تركن إلى العادة وتتسع بالشهوة.
(وقيل:) الدنيا بطنك، فعلى قدر زهدك في بطنك زهدك في الدنيا.
وقال عليه السلام: «مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، حَسْبُ ابن آدم لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا محالة فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ».
وقال فتح الموصلي: صحبت ثلاثين شيخًا، كلٌّ يوصيني عند مفارقتي إياه بترك عِشْرة الأحداث، وقلة الأكل.