فمن ذلك أن العبد يستقبل الليل عند غروب الشمس بتجديد الوضوء، ويقعد مستقبل القبلة، منتظرًا مجيء الليل، وصلاة المغرب مقيمًا في ذلك على أنواع الأذكار، ومن أولاها التسبيح والاستغفار، قال الله تعالى لنبيه: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ [غافر: 55].
ومن ذلك أن يواصل بين العشاءين بالصلاة، أو بالتلاوة أو بالذكر، وأفضل ذلك الصلاة؛ فإنه إذا واصل بين العشاءين ينغسل عن باطنه آثار الكدورة الحادثة في أوقات النهار من رؤية الخلق ومخالطتهم وسماع كلامهم؛ فإن ذلك كله له أثر وخدش في القلوب حتى النظر إليهم يعقب كدرًا في القلب يدركه من يُرْزَق صفاء القلب، فيكون أثر النظر إلى الخلق للبصيرة كالقذى في العين للبصر، وبالمواصلة بين العشاءين يرجى ذهاب ذلك الأثر.
ومن ذلك ترك الحديث بعد العشاء الآخرة؛ فإن الحديث في ذلك الوقت يذهب طراوة النور الحادث في القلب من مواصلة العشاءين، ويقيد من قيام الليل سيما إذا كان عريًّا عن يقظة القلب، ثم تجديد الوضوء بعد العشاء الآخرة -أيضًا- معين على قيام الليل.
حكى لي بعض الفقراء عن شيخ له بخراسان أنه كان يغتسل في الليل ثلاث مرات؛ مرة بعد العشاء الآخرة، ومرة في أثناء الليل بعد الانتباه من النوم، ومرة قبل الصبح، فللوضوء والغسل بعد العشاء الآخرة أثر ظاهر في تيسير قيام الليل.
ومن ذلك التعود على الذكر أو القيام بالصلاة حتى يغلب النوم؛ فإن التعود على ذلك يعين على سرعة الانتباه إلا أن يكون واثقًا من نفسه وعادته، فيتعمل للنوم، ويستجلبه ليقوم في وقته المعهود، وإلا فالنوم عن الغلبة هو الذي يصلح للمريدين والطالبين، وبهذا وُصِفَ المحبون قبل نومهم: نوم الغرقى، وأكلهم أكل المرضى، وكلامهم ضرورة، فمن نام عن غلبة بِهَمٍّ مجتمعٍ متعلقٍ بقيام الليل يوفق لقيام الليل، وإنما النفس إذا أطمعت ووطنت على النوم استرسلت فيه، وإذا أزعجت بصدق العزيمة لا تسترسل في الاستقرار، وهذا الانزعاج في النفس بصدق العزيمة هو التجافي الذي قال الله تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ [السجدة: 16]. لأن الهم بقيام الليل وصدق العزيمة يجعل بين الجنب والموضع نبوًّا وتجافيًا، وقد قيل: للنفس نظران: نظر إلى تحت؛ لاستفياء الأقسام البدنية، ونظر إلى فوق؛ لاستفياء الأقسام العلوية الروحانية، فأرباب العزيمة تجافت جنوبهم عن المضاجع؛ لنظرهم إلى فوق إلى الأقسام العلوية الرحمانية، فأعطَوُا النفوس حقها من النوم، ومنعوها حظها، فالنفس بما فيها مركوز من الترابية والجمادية، ترسب وتستحلس وتستلذ النوم.
قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾ [غافر: 67]. وللآدمي بكل أصل من أصول خلقته طبيعة لازمة له، والرسوب صفة التراب، والكسل والتقاعد والتناوم بسبب ذلك طبيعةٌ في الإنسان، فأرباب الهمة أهل العلم الذين حكم الله تعالى لهم بالعلم في قوله تعالى: ﴿أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا﴾ [الزُّمر: 9]. حتى قال: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزُّمر: 9]. حكم لهؤلاء الذين قاموا بالليل بالعلم، فهم لموضع علمهم أزعجوا النفوس عن مقار طبيعتها، ورقوها بالنظر إلى الذات الروحانية إلى ذُرَا حقيقتها، فتجافت جنوبهم عن المضاجع، وخرجوا من صفة الغافل الهاجع.
(ومن ذلك) أن يغير العادة، فإن كان ذا وسادة يترك الوسادة، وإن كان ذا وطاء يترك الوطاء. وقد كان بعضهم يقول: لأن أرى في بيتي شيطانًا أحب إلي من أن أرى وسادة؛ فإنها تدعوني إلى النوم، ولتغير العادة في الوسادة والعطاء والوطاء تأثير في ذلك، ومن ترك شيئًا من ذلك -والله عالم بنيته وعزيمته- يثيبه على ذلك بتيسير ما رام.
(ومن ذلك) خفة المعدة من الطعام، ثم تناول ما يأكل من الطعام إذا اقترن بذكر الله، ويقظة الباطن أعان على قيام الليل؛ لأن بالذكر يذهب داؤه، فإن وجد للطعام ثقلًا على المعدة ينبغي أن يعلم أن ثقله على القلب أكثر، فلا ينام حتى يذيب الطعام بالذكر والتلاوة والاستغفار.
(قال) بعضهم: لأن أنقص من عشائي لقمة أحب إلي من أن أقوم ليلة، والأحوط أن يوتر قبل النوم؛ فإنه لا يدري ماذا يحدث، ويعد طهوره وسواكه عنده، ولا يدخل النوم إلا وهو على الطهارة.
(قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا نام العبد وهو على الطهارة عُرِج بروحه إلى العرش، فكانت رؤياه صادقة»، وإن لم ينم على الطهارة قصرت روحه عن البلوغ، فتكون المنامات أضغاث أحلام، لا تصدق، والمريد المتأهل إذا نام في الفراش مع الزوجة ينتقض وضوءه باللمس، ولا يفوته بذلك فائدة النوم على الطهارة ما لم يسترسل في التذاذ النفس باللمس، ولا يعدم يقظة القلب.
فأما إذا استرسل في الالتذاذ وغفل فتنحجب الروح -أيضًا- لمكان صلافته.
ومن الطهارة التي تثمر صدق الرؤيا طهارة الباطن عن خدش الهوى، وكدورة محبة الدنيا، والتنزه عن أنجاس الغل والحقد والحسد.
وقد ورد: «من أوى إلى فراشه لا ينوي ظلم أحد ولا يحقد على أحد غفر له ما احترم».
وإذا طهرت النفس عن الرذائل انجلت مرآة القلب، وقابل اللوح المحفوظ في النوم وانتقشت فيه عجائب الغيب وغرائب الأنباء، ففي الصديقين من يكون له في منامه مكالمة ومحادثة، فيأمره الله تعالى وينهاه، ويفهمه في المنام ويعرفه، ويكون موضع ما يفتح له في نومه من الأمر والنهي، كالأمر والنهي الظاهر، يعصي الله تعالى إن أخل بها، بل تكون هذه الأوامر آكد وأعظم وقعًا؛ لأن المخالفات الظاهرة تمحوها التوبة، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وهذه أوامر خاصة تتعلق بحاله فيما بينه وبين الله تعالى، فإذا أخل بها يخشى أن ينقطع عليه طريق الإرادة، ويكون في ذلك الرجوع عن الله واستيجاب مقام المقت، فإن ابتلي العبد في بعض الأحايين بكسل وفتور عزيمة يمنع من تجديد الطهارة عند النوم بعد الحدث يمسح أعضاءه بالماء مسحًا حتى يخرج بهذا القدر عن زمرة الغافلين، حيث تقاعد عن فعل المتيقظين، وهكذا إذا كسل عن القيام عقيب الانتباه يجتهد أن يستاك ويمسح أعضاءه بالماء مسحًا حتى يخرج في تقلباته وانتباهاته عن زمرة الغافلين، ففي ذلك فضل كثير لمن كثر نومه وقل قيامه.
(روي) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستاك في كل ليلة مرارًا عند كل نوم، وعند الانتباه منه، ويستقبل القبلة في نومه، وهو على نوعين: فإما على جنبه الأيمن كالملحود. وإما على ظهره مستقبلًا للقبلة كالميت المسجى، ويقول: «باسمك اللهم ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، اللهم إن أمسكت نفسي فاغفر لها وارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين، اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنتُ بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت، اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك، الحمد الله الذي حكم فقهر، الحمد لله الذي بطن فحير، الحمد لله الذي ملك فقدر، الحمد لله الذي هو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير، اللهم إني أعوذ بك من غضبك، وسوء عقابك، وشر عبادك، وشر الشيطان وشركه».
ويقرأ خمس آيات من البقرة؛ الأربع من الأول، والآية الخامسة: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [البقرة: 164]. وآية «الكرسي»، و: +آمَنَ الرَّسُولُ_[البقرة: 285]، و: +إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ_ [الأعراف: 54] و: +قُلِ ادْعُوا اللهَ_ [الإسراء: 110] وأول سورة الحديد، وآخر سورة الحشر، و: «قل يا أيها الكافرون» و: «قل هو الله أحد»، والمعوذتين، وينفث بهن في يديه، ويمسح بهما وجهه وجسده، وإن أضاف إلى ما قرأ عشرًا من أول الكهف، وعشرًا من آخرها فحسن. ويقول: اللهم أيقظني في أحب الساعات إليك، واستعملني بأحب الأعمال إليك، التي تقربني إليك زلفى، وتبعدني من سخطك بعدًا، أسألك فتعطيني، وأستغفرك فتغفر لي، وأدعوك فتستجيب لي، اللهم لا تؤمني مكرك، ولا تولني غيرك، ولا ترفع عني سترك، ولا تُنْسِني ذكرك، ولا تجعلني من الغافلين.
(ورد:) أن من قال هذه الكلمات بعث الله تعالى إليه ثلاثة أملاك يوقظونه للصلاة، فإن صلى ودعا أمنوا على دعائه، وإن لم يقم تعبدت الأملاك في الهواء، وكتب لهم ثواب عبادتهم. ويسبح ويحمد ويكبر كل واحد ثلاثًا وثلاثين، ويتمم المئة بـ: «لا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».