قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ [الفرقان: 64].
وقيل في تفسير قوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: 17]: كان عملهم قيام الليل.
وقيل في تفسير قوله تعالى: ﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ [البقرة: 153]: استعينوا بصلاة الليل على مجاهدة النفس ومصابرة العدو.
(وفي الخبر:) «عليكم بقيام الليل؛ فإنه مرضاة لربكم، وهو دأب الصالحين قبلكم، ومنهاة عن الإثم، وملغاة للوزر، ومذهب كيد الشيطان، ومطردة للداء عن الجسد».
(وقد كان) جمعٌ من الصالحين يقومون الليل كله حتى نقل ذلك عن أربعين من التابعين، كانوا يصلون الغداة بوضوء العشاء منهم: سعيد بن المسيب، وفضيل بن عياض، ووهيب بن الورد، وأبو سليمان الداراني، علي بن بكار، وحبيب العجمي، وكهمس بن المنهال، وأبو حازم، ومحمد ابن المنكدر، وأبو حنيفة -رحمه الله-، وغيرهم عدهم وسماهم بأنسابهم الشيخ أبو طالب المكي في كتابه قوت القلوب، فمن عجز عن ذلك يستحب له قيام ثلثيه، أو ثلثه، وأقل الاستحباب سدس الليل، فإما أن ينام ثلث الليل الأول ويقوم نصفه وينام سدسه الآخر، أو ينام النصف الأول ويقوم ثلثه وينام السدس.
(روي) أن داود عليه السلام قال: يا رب، إني أحب أن أتعبد لك، فأي وقت أقوم؟ فأوحى الله تعالى إليه: يا داود، لا تقم أول الليل ولا آخره؛ فإنه من قام أوله نام آخره، ومن قام آخره نام أوله، ولكن قم وسط الليل حتى تخلو بي وأخلو بك، وارفع إليَّ حوائجك.
ويكون القيام بين نومتين وإلا فيغالب النفس من أول الليل، ويتنفل فإذا غلبه النوم ينام، فإذا انتبه يتوضأ، فيكون له قومتان ونومتان، ويكون ذلك من أفضل ما يفعله ولا يصلي وعنده نوم يشغله عن الصلاة والتلاوة حتى يعقل ما يقول.
(وقد ورد): «لا تكابدوا الليل». (وقيل) لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن فلانة تصلي من الليل، فإذا غلبها النوم تعلقت بحبل، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: «ليصل أحدكم من الليل ما تيسر، فإذا غلبه النوم فلينم».
(وقال عليه السلام:) «لا تشادوا هذا الدين؛ فإنه متين، فمن تشاده يغلبه». ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله، ولا يليق بالطالب ولا ينبغي له أن يطلع الفجر وهو نائم إلا أن يكون قد سبق له في الليل قيام طويل فيعذر في ذلك على أنه إذا استيقظ قبل الفجر بساعة مع قيام قليل سبق في الليل يكون أفضل من قيام طويل، ثم النوم إلى بعد طلوع الفجر، فإذا استيقظ قبل الفجر يكثر الاستغفار والتسبيح، ويغتنم تلك الساعة، وكلما يصلي بالليل يجلس قليلًا بعد كل ركعتين، ويسبح ويستغفر ويصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يجد بذلك ترويحًا وقوة على القيام.
وقد كان بعض الصالحين يقول: هي أول نومة فإن انتبهت ثم عدت إلى نومة أخرى فلا أنام الله عيني.
(وحكى) لي بعض الفقراء عن شيخ له أنه كان يأمر الأصحاب بنومة واحدة بالليل، وأكلة واحدة لليوم والليلة.
(وقد جاء) في الخبر: «قم من الليل ولو قدر حلب شاة»، وقيل: يكون ذلك قدر أربع ركعات وقدر ركعتين.
(وقيل) في تفسير قوله تعالى: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ [آل عمران: 26]: هو قيام الليل، ومن حرم قيام الليل كسلًا وفتورًا في العزيمة، أو تهاونًا به لقلة الاعتداد بذلك، أو اغترارًا بحاله فليبك عليه طريق كبير من الخير.
وقد يكون من أرباب الأحوال من يكون له إيواء إلى القرب، ويجد من دعة القرب ما يفتر عليه داعية الشوق، ويرى أن القيام وقوف في مقام الشوق، وهذا يغلط فيه ويهلك به خلق من المدعين، والذي له ذلك ينبغي أن يعلم أن استمرار هذه الحالة معتذر، والإنسان متعرض للقصور والتخلف والشبهة، ولا حالة أجل من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما استغنى عن قيام الليل، وقام حتى تورمت قدماه، وقد يقول بعض من يحاج في ذلك: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك تشريعًا، فنقول: ما بالنا نتبع تشريعه؟ وهذه دقيقة، فتعلم أن رؤية الفضيلة في ترك القيام، وادعاء الإيواء إلى جناب القرب واستواء النوم واليقظة امتلاء وابتلاء حالي، وهو تفيد بالحال، وتحكيم للحال، وتحكم من الحال في العبد، والأقوياء لا يتحكم فيهم الحال، ويصرفون الحال في صور الأعمال، فهم متصرفون في الحال، لا الحال متصرف فيهم، فليعلم ذلك، فإنا رأينا من الأصحاب من كان في ذلك، ثم انكشف لنا بتأييد الله تعالى أن ذلك وقوف وقصور.
(قيل) للحسن: يا أبا سعيد، إني أبيت معافًى، وأحب قيام الليل، وأُعِد طهوري، فما بالي لا أقوم؟ قال: ذنوبك قيدتك. فليحذر العبد في نهاره ذنوبًا تقيده في ليله.
(وقال النوري) -رحمه الله-: حرمت قيام الليل سبعة أشهر بذنب أذنبته، فقيل له: ما كان الذنب؟ قال: رأيت رجلًا بَكَّاءً، فقلت في نفسي: هذا مراءٍ.
(وقال بعضهم:) دخلت على كُرز بن وبرة وهو يبكي، فقلت: ما بالك؟ أتاك نعي بعض أهلك؟ فقال: أشد. فقلت: وجع يؤلمك؟ قال: أشد. فقلت: وما ذاك؟ قال: بابي مغلق، وستري مسبل، ولم أقرأ حزبي البارحة، وما ذاك إلا بذنب أحدثته.
(وقال بعضهم): الاحتلام عقوبة، وهذا صحيح؛ لأن المراعي المتحفظ بحسن تحفظه وعلمه بحاله يقدر ويتمكن من سد باب الاحتلام، ولا يتطرق الاحتلام إلا على جاهل بحاله، أو مهمل حكم وقته وأدب حاله، ومن كمل تحفظه ورعايته وقيامه بأدب حاله قد يكون من ذنبه الموجب للاحتلام، ووضع الرأس على الوسادة إذا كان ذا عزيمة في ترك الوسادة، وقد يتهمد للنوم، ووضع الرأس على الوسادة بحسن النية من لا يكون ذلك ذنبه، وله فيه نية للعون على القيام، وقد يكون ذلك ذنبًا بالنسبة إلى بعض الناس، فإذا كان هذا القدر يصلح أن يكون ذنبًا جالبًا للاحتلام فقس على هذا ذنوب الأحوال؛ فإنها تختص بأربابها، ويعرفها أصحابها، وقد يرتفق بأنواع الرفق من الفراش الوطيء والوسادة، ولا يعاقب بالاحتلام إذا كان عالمًا ذا نية، يعرف مداخل الأمور ومخارجها، وكم من نائم يسبق القائم؛ لوفر علمه وحسن نيته.
(وفي الخبر): «إِذَا نَامَ العبد عَقَدَ الشَّيْطَانُ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ عُقَدٍ، فإن قعد وَذَكَرَ اللهَ تعالى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ أُخْرَى، وَإِنْ صَلَّى ركعتين انْحَلَّتِ الْعُقَدُ كُلُّهَا، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلَّا أَصْبَحَ كَسْلَانَ خَبِيثَ النَّفْسِ».
(وفي خبر آخر): «إن من نام حتى يصبح بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ».
والذي يخل بقيام الليل كثرة الاهتمام بأمور الدنيا وكثرة أشغال الدنيا وأتعاب الجوارح والامتلاء من الطعام وكثرة الحديث واللغو واللغط وإهمال القيلولة، والموفق من يغتنم وقته ويعرف داءه ودواءه، ولا يهمل فيهمل.