أهم الآداب ألَّا يتعرض الصادق للتقدم على قوم، ولا يتعرض لاستجلاب بواطنهم بلطف الرفق وحسن الكلام محبة للاستتباع، فإذا رأى أن الله تعالى يبعث إليه المريدين والمسترشدين بحسن الظن وصدق الإرادة يحذر أن يكون ذلك ابتلاءً وامتحانًا من الله تعالى، والنفوس مجبولة على محبة إقبال الخلق والشهرة، وفي الخمول السلامة، فإذا بلغ الكتاب أجله، وتمكن العبد من حاله، وعلم بتعريف الله إياه أنه مراد بالإرشاد والتعليم للمريدين فيكلمهم حينئذٍ كلام الناصح المشفق الوالد لولده بما ينفعه في دينه ودنياه، وكل مريد ومسترشد ساقه الله تعالى إليه يراجع الله تعالى في معناه، ويكثر اللجأ إليه أن يتولاه فيه، وفي القول معه، ولا يتكلم مع المريد بالكلمة إلا وقلبه ناظر إلى الله، مستعين به في الهداية للصواب من القول.
سمعت شيخنا أبا النجيب السهروردي -رحمه الله- يوصي بعض أصحابه ويقول: لا تكلم أحدًا من الفقراء إلا في أصفى أوقاتك. وهذه وصية نافعة؛ لأن الكلمة تقع في سمع المريد الصادق كالحبة تقع في الأرض.
وقد ذكرنا أن الحبة الفاسدة تهلك وتضيع، وفساد حبة الكلام بالهوى، وقطرة من الهوى تكدر بحرًا من العلم، فعند الكلام مع أهل الصدق والإرادة ينبغي أن يستمد القلب من الله تعالى كما يستمد اللسان من الجنان، وكما أن اللسان ترجمان القلب يكون قلبه ترجمان الحق عند العبد، فيكون ناظرًا إلى الله مصغيًا إليه متلقيًا ما يرد عليه مؤديًا للأمانة فيه، ثم ينبغي للشيخ أن يعتبر حال المريد ويتفرس فيه بنور الإيمان، وقوة العلم والمعرفة ما يتأتى منه ومن صلاحيته واستعداده، فمن المريدين من يصلح للتعبد المحض وأعمال القوالب وطريق الأبرار، ومن المريدين من يكون مستعدًّا صالحًا للقرب وسلوك طريق المقربين المرادين بمعاملة القلوب والمعاملات السنية، ولكل من الأبرار والمقربين مبادٍ ونهايات، فيكون الشيخ صاحب الإشراف على البواطن يعرف كل شخص وما يصلح له, والعجب أن الصحراوي يعلم الأراضي والغروس، ويعلم كل غرس وأرضه، وكل صاحب صنعة يعلم منافع صنعته ومضارها، حتى المرأة تعلم قطنها وما يأتي منه من الغزل ودقته وغلظه، ولا يعلم الشيخ حال المريد وما يصلح له.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلم الناس على قدر عقولهم، ويأمر كل شخص بما يصلح له، فمنهم من كان يأمره بالإنفاق، ومنهم من أمره بالإمساك، ومنهم من أمره بالكسب، ومنهم من قرره على ترك الكسب كأصحاب الصفة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف أوضاع الناس، وما يصلح لكل واحد، فأما في رتبة الدعوة فقد كان يعمم الدعوة؛ لأنه مبعوث لإثبات الحجة وإيضاح المحجة، يدعو على الإطلاق، ولا يخصص بالدعوة من يتفرس فيه الهداية دون غيره.
ومن أدب الشيخ: أن يكون له خلوة خاصة، ووقت خاص لا يسعه فيه معاناة الخلق حتى يفيض على جلوته فائدة خلوته، ولا تدعي نفسه قوة ظنًّا منها أن استدامة المخالطة مع الخلق، والكلام معهم لا يضره ولا يأخذ منه، وأنه غير محتاج إلى الخلوة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كمال حاله كان له قيام الليل وصلوات يصليها ويدوم عليها، وأوقات يخلو فيها، فطبع البشر لا يستغني عن السياسة قل ذلك أو كثر، لطف ذلك أو كثف، وكم من مغرور قانع باليسير من طيبة القلب اتخذ ذلك رأس ماله، واغتر بطيبة قلبه، واسترسل في الممازجة والمخالطة، وجعل نفسه مناخًا للبطالين بلقمة تؤكل عنده، وبرفق يوجد منه، فيقصده من ليس قصده الدين، ولا بغيته سلوك طريق المتقين، فافتتن وأفتن، وبقي في حطة القصور، ووقع في دائرة الفتور، فما يستغني الشيخ عن الاستمداد من الله تعالى، والتضرع بين يدي الله بقلبه إن لم يكن بقالبه وقلبه، فيكون له في كل كلمة إلى الله رجوع، وفي كل حركة بين يدي الله خضوع، وإنما دخلت الفتنة على المغرورين المدعين للقوة، والاسترسال في الكلام والمخالطة؛ لقلة معرفتهم بصفات النفس، واغترارهم بيسير من الموهبة، وقلة تأدبهم بالشيوخ.
كان الجنيد -رحمه الله- يقول لأصحابه: لو علمت أن صلاة ركعتين لي أفضل من جلوسي معكم ما جلست عندكم. فإذا رأى الفضل في الخلوة يخلو، وإذا رأى الفضل في الجلوة يجلس مع الأصحاب، فتكون جلوته في حماية خلوته، وجلوته مزيدًا لخلوته، وفي هذا سر، وذلك أن الآدمي ذو تركيب مختلف فيه تضاد، وتغاير على ما أسفلنا من كونه مترددًا بين السفلي والعلوي، ولما فيه من التغاير له حظ من الفتور عن الصبر على صرف الحق؛ ولهذا كان لكل عاقل فترة، والفترة قد تكون تارة في صورة العمل، وتارة في عدم الروح في العمل، وإن لم تكن في صورة العمل، ففي وقت الفترة للمريدين والسالكين تضييع واسترواح للنفس، وركون إلى البطالة.
فمن بلغ رتبة المشيخة انصرف قسم فترته إلى الخلق، فأفلح الخلق بقسم فترته، وما ضاع قسم فترته كضياعه في حق المريدين، فالمريد يعود من الفترة بقوة الشدة، وحدة الطلب إلى الإقبال على الله، والشيخ يكتسب الفضيلة من نفع الخلق بقسم فترته، ويعود إلى أوطان خلوته، وخاص حاله بنفس مشرئبة، أكثر من عود الفقير بحدة إرادته من فترته، فيعود من الخلق إلى الخلوة، منتزع الفتور، بقلب متعطش وافر النور، وروح متخلصة عن مضيق مطالعة الأغيار، قادمة بحدة شغفها إلى دار القرار.
ومن وظيفة الشيخ: حسن خلقه مع أهل الإرادة والطلب، والنزول من حقه فيما يجب من التبجيل والتعظيم للمشايخ واستعماله التواضع.
(حكى) الرقي قال: كنت بمصر، وكنا في المسجد جماعة من الفقراء جلوسًا، فدخل الزقاق فقام عند إسطوانة يركع، فقلنا: يفرغ الشيخ من صلاته، ونقوم نسلم عليه، فلما فرغ جاء إلينا، وسلم علينا، فقلنا: نحن كنا أولى بهذا من الشيخ. فقال: ما عذب الله قلبي بهذا قط. يعني ما تقيدت بأن أحترم وأقصد.
ومن آداب الشيوخ: النزول إلى حال المريدين من الرفق بهم وبسطهم.
(قال بعضهم): إذا رأيت الفقير القه بالرفق ولا تلقه بالعلم؛ فإن الرفق يؤنسه والعلم يوحشه، فإذا فعل الشيخ هذا المعنى من الرفق يتدرج المريد ببركة ذلك إلى الانتفاع بالعلم، فيعامل حينئذٍ بصريح العلم.
ومن آداب الشيوخ: التعطف على الأصحاب، وقضاء حقوقهم في الصحة والمرض، ولا يترك حقوقهم اعتمادًا على آرائهم وصدقهم. قال بعضهم: لا تضيع حق أخيك بما بينك وبينه من المودة.
(وحكي) عن الجريري قال: وافيت من الحج، فابتدأت بالجنيد وسلمت عليه وقلت: حتى لا يتعنى، ثم أتيت منزلي فلما صليت الغداة التفت وإذا بالجنيد خلفي، فقلت: يا سيدي إنما ابتدأت بالسلام عليك لكيلا تتعنى إلى ها هنا. فقال: يا أبا محمد، هذا حقك وذاك فضلك.
ومن آداب الشيوخ: أنهم إذا علموا من بعض المسترشدين ضعفًا في مراغمة النفس وقهرها واعتماد صدق العزيمة أن يرفقوا به، ويوقعوه على حد الرخصة ففي ذلك خير كثير، وما دام العبد لا يتخطى حريم الرخصة فهو حر، ثم إذا ثبت وخالط الفقراء وتدرب في لزوم الرخصة يدرج بالرفق إلى أوطان العزيمة.
(قال أبو سعيد بن الأعرابي): كان شاب يعرف بإبراهيم الصائغ، وكان لأبيه نعمة فانقطع إلى الصوفية وصحب أبا أحمد القلانسي، فربما كان يقع بيد أبي أحمد شيء من الدراهم، فكان يشتري له الرقاق والشواء والحلواء، ويؤثره عليه ويقول: هذا خرج من الدنيا، وقد تعود النعمة فيجب أن نرفق به ونؤثره على غيره.
ومن آداب الشيوخ: التنزه عن مال المريد وخدمته والارتفاق من جانبه بوجه من الوجوه؛ لأنه جاء لله تعالى، فيجعل نفعه وإرشاده خالصًا لوجه الله تعالى، فما يسدي الشيخ للمريد من أفضل الصدقات.
(وقد ورد): «ما تصدق متصدق بصدقة أفضل من علم يبثه في الناس». وقد قال الله تعالى تنبيهًا على خلوص ما لله وحراسته من الشوائب: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [الإنسان: 9].
فلا ينبغي للشيخ أن يطلب على صدقته جزاء إلا أن يظهر له في شيء من ذلك علم يرد عليه من الله تعالى في قبول الرفق منه، أو صلاح يتراءى للشيخ في حق المريد بذلك، فيكون التلبس بماله والارتفاق بخدمته لمصلحة تعود على المريد مأمونة الغائلة من جانب الشيخ. قال الله تعالى: ﴿يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ
(٣٦) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾ [محمد: 36، 37]. معنى: يحفكم أي: يجهدكم ويلح عليكم. قال قتادة: علم الله تعالى أن في خروج المال إخراج الأضغان، وهذا تأديب من الله الكريم، والأدب أدب الله.
قال جعفر الخلدي: جاء رجل إلى الجنيد، وأراد أن يخرج عن ماله كله، ويجلس معهم على الفقر. فقال له الجنيد: لا تخرج من مالك كله، احبس منه مقدار ما يكفيك، وأخرج الفضل، وتقوت بما حبست، واجتهد في طلب الحلال، لا تخرج كل ما عندك، فلست آمن عليك أن تطالبك نفسك.
وكان النبي عليه السلام إذا أراد أن يعمل عملًا تثبت، وقد يكون الشيخ يعلم من حال المريد أنه إذا خرج من الشيء يكسبه من الحال ما لا يتطلع به إلى المال، فحينئذٍ يجوز له أن يفسح للمريد في الخروج من المال، كما فسح رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر، وقبل منه جميع ماله.
(ومن آداب الشيخ): إذا رأى من بعض المريدين مكروهًا، أو علم من حاله اعوجاجًا، أو أحس منه بدعوى، أو رأى أنه داخله عجب ألَّا يصرح له بالمكروه، بل يتكلم مع الأصحاب ويشير إلى المكروه الذي يعلم، ويكشف عن وجه المذمة مجملًا، فتحصل بذلك الفائدة للكل، فهذا أقرب إلى المداراة، وأكثر أثرًا لتألف القلوب، وإذا رأى من المريد تقصيرًا في خدمة ندبه إليها، تحمل تقصيره ويعفو عنه ويحرضه على الخدمة بالرفق واللين.
وإلى ذلك ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبرنا ضياء الدين عبد الوهاب بن علي قال: أنا أبو الفتح الكروخي -قراءة عليه- قال: أنا أبو نصر الترياقي قال: أنا أبو محمد الجراحي قال: أنا أبو العباس المحبوبي أنا أبو عيسى الترمذي قال: حدثنا قتيبة قال: حدثنا رشدين بن سعد عن أبي هانئ الخولاني عن ابن عباس بن جليد الحجري عن عبد الله بن عمر قال: جاء رجل إلى النبي عليه السلام فقال: يا رسول الله، كم أعفو عن الخادم؟ قال: «كل يوم سبعين مرة».
وأخلاق المشايخ مهذبة بحسن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أحق الناس بإحياء سنته في كل ما أمر وندب، وأنكر وأوجب.
(ومن جملة مهام الآداب): حفظ أسرار المريدين فيما يكاشفون به ويمنحون من أنواع المنح، فسر المريد لا يتعدى ربه وشيخه، ثم يحقر الشيخ في نفس المريد ما يجده في خلوته من كشف أو سماع خطاب، أو شيء من خوارق العادات، ويعرفه أن الوقوف مع شيء من هذا يشغل عن الله، ويسد باب المزيد، بل يعرفه أن هذه نعمة تشكر، ومن ورائها نعم لا تحصى، ويعرفه أن شأن المريد طلب المنعِم لا النعمة، حتى يبقى سره محفوظًا عند نفسه، وعند شيخه، ولا يذيع سره؛ فإذاعة الأسرار من ضيق الصدر، وضيق الصدر الموجب لإذاعة السر يوصف به النسوان، وضعفاء العقول من الرجال، وسبب إذاعة السر أن للإنسان قوتين آخذة ومعطية، وكلتاهما تتشوف إلى الفعل المختص بها.
ولولا أن الله تعالى وكل المعطية بإظهار ما عندها ما ظهرت الأسرار، فكامل العقل كلما طلبت القوة الفعل قيدها ووزنها بالعقل حتى يضعها في مواضعها، فيجل حال الشيوخ من إذاعة الأسرار؛ لرزانة عقولهم، وينبغي للمريد أن يحفظ سره من بثه، ففي ذلك صحته وسلامته، وتأييد الله -سبحانه وتعالى- له بتدارك المريدين الصادقين في موردهم ومصدرهم.